مصدر الصورة: bottomscience.com
ما لن نعرفه أبدًا: لقد تطورت العلوم والتكنولوجيا، ولكن بعض الأشياء قد تكون دائمًا خارج نطاق المعرفة البشرية – ترجمة عدنان احمد الحاجي
What We Will Never Know
Science and technology have evolved, but some things may always be beyond human knowledge
(بقلم: رايان ماندلباوم – Ryan F. Mandelbaum)
هناك عالم تمنعنا قوانين الفيزياء من الوصول إليه، تحت الدقة التمييزية لأقوى الميكروسكوبات الموجودة لدينا وخارج نطاق متناول تلسكوباتنا العالية الدقة
[المترجمً الدقة التمييزية هي القدرة على رؤية شيئين، مثل نقطتين أو خطين، متقاربين تقاربًا لا يمكن التمييز بينهما إلًا بمجاهر عالية الدقة] . ليس لدينا وسيلة تمكننا من معرفة ما يوجد هناك – ربما هناك أكوان بأكملها لا نعرف عنها شيئًا.
منذ بداية الاستكشاف الذي قام به الانسان، كانت هناك حدود لقدراتنا على الرصد. الرؤية الكونية مقصورة على توافر الأدوات وإبداعتنا. بمرور الزمن ، يتسع حجم كوننا كما تتنامى وتتقدم معرفتنا – رصدنا كواكب خارج الأرض، ونجومًا وراء الشمس ومجرات خارج مجرتنا، واستطعنا أن نتعمق في الخلايا والذرات. وبعد ذلك، خلال القرن العشرين، ظهرت معادلات رياضية يمكن أن تفسر – بشكل صادم – وتتنبأ – إلى حد ما – بالعالم الذي نعيش فيه. نظريات النسبية الخاصة والعامة(1) تصف بالضبط حركة الكواكب والنجوم والمجرات. ميكانيكا الكم والنموذج القياسي لفيزياء الجسيمات(2) صنعا العجائب في توضيح ما يجري داخل الذرات.
ولكن مع كل هذه النظريات الناجحة تأتي حدود / قيود قدراتنا على الرصد العصية على التغيير. اليوم، يبدو أن هذه القيود رسمت حدود معرفتنا الحقيقية تلك.
ما لا نستطيع معرفته
من طرف، هناك حدود للسرعة تضع حدًا لما نتمكن من رؤيته. وتعيق أي أمل لنا في رصد معظم الكون بشكل مباشر.
تبلغ سرعة الضوء حوالي 300 مليون متر في الثانية (أو 671 مليون ميل في الساعة). نظرية النسبية الخاصة، التي طرحها ألبرت أينشتاين عام 1905، تمنع أي شيء من أن يسير أسرع من سرعة الضوء. تسير الجسيمات عديمة الكتلة دائمًا بهذه السرعة في الفراغ. تسريع الأجسام الهائلة الكتلة إلى هذه السرعة تؤدي بشكل أساس إلى تضمين القسمة على الصفر في إحدى معادلات النسبية الخاصة؛ من شأن ذلك أن يحتاج إلى طاقة لا نهائية لتسريع شيء ما بكتلة ما إلى سرعة الضوء.
“هذا القيد يعتبر جزءً لا يتجزأ من طبيعة فهمنا للكون – هذه هي أصغر الأرقام المفيدة التي تسمح لنا ميكانيكا الكم بتعريفها (بتحديدها)”.
كطفل، لو قفزت على متن مركبة فضائية تسير خارج النظام الشمسي بسرعة 99٪ من سرعة الضوء ، فقد تتمكن من استكشاف أجزاء أخرى من المجرة قبل أن تموت [في مرحلة الشيخوخة]، ولكن نظرًا لأن الوقت نسبي، فإنه من المحتمل أن يموت كل أصدقائك وعائلتك بفترة طويلة قبل أن تتمكن من إرسال ما رصدته إلى الأرض.
لكن لا يزال هناك قيود / حدود – قطر مجرة درب التبانة يبلغ 105700 سنة ضوئية، مجرة المرأة المسلسلة (أندروميدا(3)) المجاورة لنا تقع على بعد 2.5 مليون سنة ضوئية ، والكون المرئي يبلغ قطره حوالي 93 مليار سنة ضوئية. أي أمل في استكشاف مسافات أبعد من ذلك سيتطلب مهمات (بعثات فضائية) تقوم بها أجيال متعددة ، أو في حالة استخدام مسبار بعيد ، فإن ذلك يعني أنك ستموت وأن البشرية قد تكون مختلفة تمامًا في الزمن الذي تعود فيه بيانات المسبار إلى الأرض.
ومع ذلك، فإن سرعة الضوء هي أكثر من مجرد حد للسرعة. نظرًا لأن الضوء الذي نراه يحتاج وقتًا للوصول إلى الأرض، فيجب علينا مواجهة العديد من الآفاق التي من بعدها لا يمكننا التفاعل / التعامل معها، وهي موجودة بحسب نظرية النسبية العامة لأينشتاين. هناك أفق الحدث(4)، حد متحرك في الزمكان لن يصل بعده الضوء والجسيمات المنبعثة إلى الأرض أبدًا، بغض النظر عن كم مر من الزمن – تلك الأحداث التي لن نراها أبدًا. هناك أيضًا أفق الجسيمات(5)، أو الحد الذي لا يمكننا بعده رصد الضوء القادم من الماضي – وهذا يحدد الكون المرئي.
هناك نوع آخر من أفق الحدث، وهو النوع المحيط بالثقب الأسود. الجاذبية هي تأثير ناتج عن وجود أجسام عملاقة (هائلة الكتلة) تشوه (تحرف) شكل الفضاء ، مثل كرة البولنغ على الترامبولين. قد يتسبب الجسم الضخم بدرجة كافية في انحناء الفضاء بحيث لا يمكن لأي معلومات الخروج خارج حدود معينة.
هذه الحدود ليست ثابتة. “سنرى أبعد وأبعد بمرور الزمن ، لأن المسافة التي يقطعها الضوء إلى الخارج ستزداد أكثر فأكثر” ، كما قالت تامارا ديفيس (Tamara Davis)، برفسورة الفيزياء الفلكية التي تدرس علم الكونيات (الكزمولوحيا) في جامعة كوينزلاند. لكن منظور التوسع هذا لن يكون ثابتًا – لأن كوننا يتوسع أيضًا (وهذا التوسع يتسارع). “إذا طويت سريعًا فترة 100 مليار سنة اتجاه المستقبل ، فإن كل المجرات التي نتمكن من رؤيتها في الزمن الحالي ستكون بعيدة جدًا، وستتسارع بعيدًا عنا، بحيث يكون الضوء المنبعث في الماضي قد اختفى عن الأنظار” ، في تلك المرحلة ، سيكون كوننا المرئي هو مجرد تلك المجرات القريبة المرتبطة من ناحية الجاذبية بمجرتنا.
هناك حدود أخرى على الطرف الآخر من المقياس. قم بتكبير المسافة بين الجزيئات ، باتجاه مركز الذرات، متعمقًا باتجاه نواتها وصولًا إلى الكواركات المكونة للبروتونات والنيوترونات. هنا، مجموعة أخرى من القوانين، وضعت في الغالب في القرن العشرين، تتحكم في كيف تعمل الأشياء.
في قوانين ميكانيكا الكم ، كل شيء [مُكمَّى (quantized) (محدد كموميًا)] ، مما يعني أن خصائص الجسيمات (طاقتها أو موقعها حول نواة الذرة، على سبيل المثال) يمكن أن تتخذ فقط قيمًا مختلفة ، مثل درج السلَّم، لا سلسلة متصلة (continuum). ومع ذلك، فإن ميكانيكا الكم توضح أيضًا أن الجسيمات ليست مجرد نقاط؛ وإنما تتصرف الموجات في نفس الزمن، مما يعني أنها يمكن أن تأخذ قيمًا متعددة في نفس الزمن وتتعرض إلى مجموعة من التأثيرات الأخرى الشبيهة بالموجات، مثل التداخل (التشويش). في الأساس، يعد العالم الكمومي مجالًا صاخبًا، وفهمنا له مرتبط طبيعيًا بالاحتمالات وعدم اليقين.
هذه الكمومية تعني أنك لو حاولت ان تحدق أكثر من اللازم، فسوف تصطدم بتأثير المراقب(6): محاولة رؤية أشياء بهذا الصغر تتطلب ارتداد الضوء منها، ويمكن للطاقة الناتجة عن هذا التفاعل أن تغير بشكل أساس ما تحاول أنت رصده.
ولكنْ هناك قيد جوهري على ما يمكننا رؤيته. اكتشف ويرنر هايزنبيرغ (Werner Heisenberg) أن عدم ثبات ميكانيكا الكم يقدم الحد الأدنى من الدقة التي يمكنك من خلالها قياس أزواج معينة من الخصائص المرتبطة بالرياضيات، مثل موضع الجسيم وزخمه. كلما تمكنت من قياس واحدة من هذه الخصائص بدقة عالية، انخفضت دقة قياس الأخرى. وأخيرًا، حتى محاولة قياس إحدى هذه الخصائص تصبح مستحيلة على مستوى قياس بالغ الصغر، يسمى مقياس بلانك(7)، والذي يأتي بأقصر طول مقداره ، 10^-35 متر، وأقصر فترة زمنية تقدر بحوالي 5 × 10^-44 ثانية.
“تأخذ الأعداد الثابتة التي تصف الطبيعة – ثابت الجاذبية وسرعة الضوء وثابت بلانك، وإذا جمعت هذه الثوابت معًا، فستحصل على طول (وحدة طول) بلانك [1.616255×10^-35 متر ](7)،” كما قال جيمس بيتشام (James Beacham)، الفيزيائي في تجربة (ATLAS) الخاصة بـ مصادم هادرون الكبير(8).
“حسابيًا، لا يوجد شيء مميز – يمكنني كتابة رقم بالغ الصغر، مثل 10^-36 متر… لكن ميكانيكا الكم تقول أنه إذا كان هناك عامل تنبؤ في نظريتي يقول إن البنية موجودة على نطاق بالغ الصغر، فإن الكمومية تحتوي في ضمنها على عدم يقين (ريب). وهو جرء لا يتجزأ من فهمنا للكون، وهذا هو أصغر الأرقام المفيدة التي تسمح لنا ميكانيكا الكم بتحديده. هذا على افتراض أن ميكانيكا الكم هي الطريقة الصحيحة للتفكير في الكون بالطبع. لكن التجارب أثبتت مرارًا وتكرارًا أنه لا يوجد سبب للتفكير بطريقة أخرى.
سبر المجهول
تمثل هذه الحدود الأساسية، الكبيرة والصغيرة منها، حواجز واضحة أمام معرفتنا. تخبرنا نظرياتنا أننا لن نلاحظ بشكل مباشر أبدًا ما يكمن وراء هذه الآفاق الكونية أو ما هي الهياكل الموجودة على مقياس أصغر من مقياس بلانك. ومع ذلك، فإن الإجابات على بعض الأسئلة الكبرى التي نطرحها على أنفسنا قد تكون موجودة خارج تلك الجدران ذاتها. لماذا وكيف بدأ الكون؟ ما الذي يكمن وراء عالمنا؟ لماذا تبدو الأشياء وتتصرف بالطريقة التي تتصرف بها؟ لماذا توجد الأشياء؟
إن ما لا يمكن رصده وما لايمكن اختباره موجود خارج نطاق البحث العلمي. قال ناثان موسوكي (Nathan Musoke)، باحث في علم الكونيات الحوسبية في جامعة نيو هامبشاير: ؛كل شيء جيد وجيد أن تضع المعادلات الرياضية وتقول إنك بإمكانك تفسير ما يجري في الكون، ولكن إذا لم يكن لديك طريقة لاختبار الفرضية، فهذا يخرج عن نطاق ما نعتبره علمًا”.
إن استكشاف ما لا يمكن الإجابة عليه يدخل ضمن الفلسفة أو الدين. ومع ذلك، فمن الممكن أن تكون الإجابات المستمدة من العلم على هذه الأسئلة موجودة كآثار مرئية على هذه الآفاق التي يمكن للطرق العلمية أن تكتشفها.
هذه الآثار موجودة بما للكلمة من معنى. توقع رالف ألفر (Ralph Alpher) وروبرت هيرمان (Robert Herman) لأول مرة في عام 1948 أن بعض الضوء المتبقي من الحقبة الأولى من تاريخ الكون ربما لا يزال بالإمكان ملاحظته هنا على الأرض. ثم، في عام 1964، كان أرنو بنزياس (Arno Penzias) وروبرت ويلسون (Robert Wilson) يعملان كباحثين في علم الفلك الراديوي في مختبرات بيل (Bell) في نيوجيرسي، عندما لاحظا إشارة غريبة على شاشة تلسكوبهما الراديوي.
لقد درسا كل الأفكار التي بحوزتهما لمعرفة مصدر الضجيج، ربما كان إشعاعًا خلفيًا من مدينة نيويورك، أو حتى ذرْق طيور حمام كان يعمل على بناء عشه أثناء التجربة؟ لكنهما سرعان ما أدركا أن البيانات تطابقت مع توقعات ألفر (Alpher) وهيرمان (Herman).
اكتشف بنزياس (Penzias) وويلسون (Wilson) إشعاع المايكرويڤ بعد 400 ألف سنة من الانفجار العظيم مباشرة، والذي أطلقا عليه اسم الخلفية الكونية الميكروويڤية، وهو أقدم وأبعد إشعاع يمكن ملاحظته بالتلسكوبات الحالية. خلال هذه الحقبة من تاريخ الكون، التفاعلات الكيميائية جعلت الكون المعتم سابقًا يسمح للضوء بالانتقال خلاله بدون عوائق. وهذا الضوء، الممتط بفعل الكون الممتد (المتسع) ، يظهر الآن على شكل إشعاع ميكروويڤي خافت قادم من جميع الاتجاهات في السماء.
مصدر الصورة: freepik.com
وقد حاولت تجارب باحثي علم الفلك منذ ذلك الحين، مثل مسبار كوبي (COBE) الفضائي(9)، ومسبار ويلكنسون لتباين الموجات الميكروية (WMAP)(10)، ومرصد بلانك الفضائي(11)، تتبع خلفية الموجات الكونية الميكروية، وكشفت عن العديد من النقاط الرئيسة.
أولاً، كانت درجة حرارة هذه الموجات الميكروية متجانسة بشكل غريب في جميع السماء، حوالي 2.725 درجة فوق الصفر المطلق، وهي أدنى درجة حرارة للكون. ثانيًا، على الرغم من تجانسها، هناك تقلبات صغيرة في درجات الحرارة اعتمادًا على الاتجاه؛ بعض البقع التي يكون فيها الإشعاع أكثر حرارةً قليلاً من غيرها والبقع التي يكون فيها الإشعاع أكثر برودة قليلاً من غيرها. هذه التقلبات هي بقايا أنظمة الكون المبكر [المتكون من أجرام وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات وما الى ذلك(12)].
المجاهيل المجهولة
قبل القرن السادس عشر الميلادي، الكون كان ببساطة عبارة عن الأرض؛ والشمس والقمر والنجوم كانت عبارة عن أقمار صغيرة تدور حولها. بحلول عام 1543، طرح نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) نموذجًا لمركزية الشمس للكون، حيث كانت الشمس هي مركز الكون والأرض تدور حولها.
فقط في عشرينيات القرن الماضي، قام إدوين هابل (Edwin Hubble) بحساب مسافة مجرة المرأة المسلسلة (أندروميدا(3)) وأثبت أن مجرة درب التبانة ليست هي كامل الكون؛ وإنما مجرد مجرة واحدة بين الكثرة الكاثرة من المجرات في الكون الأعظم. اكتشف الباحثون معظم الجسيمات التي تشكل النموذج المعياري(13) لفيزياء الجسيمات الحالية في النصف الثاني من القرن العشرين.
بالتأكيد، يبدو أن نظرية النسبية ونظرية الكم قد حددتا حجم الصندوق الرملي الذي يجب أن نلعب ضمنه، لكن السابقة تشير إلى أن الأخر أعقد مما هو ضمن حدود الصندوق الرملي، أو حتى ما هو أبعد من الصندوق الرملي، الذي لم نأخذه في الاعتبار. ولكن حينئذ، ربما لا يوجد شيء.
5- “أفق الجسيمات (particle horizon)، يسمى أيضاً “الأفق الكوني” أو “أفق الكون الضوئي”، هو أبعد مسافة يمكن لجسيمات (فوتونات) تسير بسرعة الضوء أن تصل منها إلى الراصد عبر الكون، يمثل أيضاً الحد الفاصل بين المناطق المرصودة والمناطق غير القابلة للرصد من الكون. قيمة هذه المسافة تحدد حجم الكون المرصود في الحقبة الكونية المحددة” K مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
الأستاذ عدنان احمد الحاجي