لو جاءت قصيدة شوقي في أول نيسان لاستظرفت النكتة وقلت في سري: "ما أحسنها صبية، وما أعرفها بأحوال البريد الدولي"، ولكن القصيدة جاءت في أول أيار، شهر الورود، فماذا يا ترى أفعل سوى أن أعض شفتي حانقًا متوعدًا مفعمًا فضاء منزلي بالضجيج
لو جاءت قصيدة شوقي في أول نيسان لاستظرفت النكتة وقلت في سري: "ما أحسنها صبية، وما أعرفها بأحوال البريد الدولي"، ولكن القصيدة جاءت في أول أيار، شهر الورود، فماذا يا ترى أفعل سوى أن أعض شفتي حانقًا متوعدًا مفعمًا فضاء منزلي بالضجيج
استعطفك يا صديقتي أن تكتبي إليَّ، واستعطفك أن تكتبي إليَّ بالروح المطلقة المجردة المجنحة التي تعلو فوق سبل البشر، أنتِ وأنا نعلم الشيء الكثير عن البشر، وعن تلك الميول التي تقرّبهم إلى بعضهم البعض، وتلك العوامل التي تبعد بعضهم عن البعض، فهلّا تنحّينا ولو ساعة واحدة عن تلك السبل المطروقة، ووقفنا محدقين ولو مرة واحدة بما وراء الليل، بما وراء النهار، بما وراء الزمن، بما وراء الأبدية؟
جبران.. لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كانت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.
انظري يا محبوبتي العذبة إلى قدس أقداس الحياة، عندما بلغت هذه الكلمة ((رفيقة)) ارتعش قلبي في صدري، فقمت ومشيت ذهاباً في هذه الغرفة كمن يبحث عن رفيقه. ما أغرب ما تفعله بنا كلمة واحدة في بعض الأحايين! وما أشبه تلك الكلمة الواحدة برنين جرس الكنيسة عند الغروب! إنها تحول الذات الخفية فينا من الكلام إلى السكوت، ومن العمل إلى الصلاة.
تقولين لي أنك تخافين الحب، لماذا تخفين يا صغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مد البحر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا ترى تخافين الحب
صديقي جبران
لقد توزع في المساء بريد أوروبة وأمريكة , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل.
لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته ! .. أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه.
صديقي جبران
لقد توزع في المساء بريد أوروبة وأمريكة , وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع , وقد فشل أملي بأن تصلني فيه كلمة منك . نعم إني تلقيت منك في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديسة حنة الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل.
لا أريد أن تكتب إلي إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك أو عندما تنيلك الكتابة سرورا , ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزع البريد على الصناديق يفرغ فيها جعبته ! .. أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل , حتى طوابع الولايات المتحدة وعلى بعضها اسم نيويورك واضح , فلا أذكر صديقي ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه.
ولتحمل إليك رقعتي هذه عواطفي فتخفف من كآبتك إن كنت كئيبا , وتواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقوك إذا كنت عاكفا على عمل ولتزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحا سعيدا
لقد دامت عاطفة جبران خليل جبران تجاه الأديبة مي زيادة زهاء عشرين عاما دون أن يلتقيا إلا في عالم الفكر والروح والخيال الضبابي إذ كان جبران في مغارب الأرض مقيما، وكانت مي في مشارقها، كان في أمريكا، وكانت في القاهرة. لم يكن حب جبران وليد نظرة فابتسامة فسلام فكلام، بل كان حبا نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية وروحية ألفت بين قلبين وحيدين وروحين مغتربين، ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين.
كان طبيعيا جدا أن يتعارف بطلا هذا الحب عن طريق الفكر والنشر في أوائل هذا القرن بعد أن أصاب كل منهما شهرة كبيرة.. كانت مي معجبة بمقالات جبران وأفكاره فبدأت بمراسلته عقب إطلاعها على قصته (الأجنحة المتكسرة) التي نشرها في المهجر عام 1912م، كتبت له تعرب عن إعجابها بفكره وأسلوبه ومن هنا كانت البداية، ومن ثم التواصل بالرسائل التي كان كل منهما يبحث فيه عن روح الآخر في يقظته وأحلامه كان كل منهما يسعى لرؤية ذاته في روح صاحبة حتى لكأن تلك الروح هي المرآة التي ينعكس على صفحتها نور الآخر.
كيف أسمح لنفسي النظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصّعة بالنجوم، وكيف أحوّل عيني عن شجرة مزهرة إلى ظلّ من أغصانها، وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر؟ إنّ حديثنا الذي أنقذناه من سكوت خمسة أعوام لا ولن يتحوّل إلى عتاب أو مناظرة
من جبران إلى مي ،،
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب .. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت , وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله ! .
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة , وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي , هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا , قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها .
هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي , وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة .
جبران خليل جبران
9 شباط 1919