بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا ان هدانا الله، وافضل الصلاة والسلام على خير خلقه وأمين وحيه ومبلغ رسالته، وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين الذي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وجعلهم سادة الخلق والادلاء على الحق.
قال المصطفى ﷺ من فسر القرآن برأية فليتبوء مقعده من النار، ان مشكلة الجهلة العاميين الذي يفسر القران بحسب مزاجه وبحسب ما يراه دون الرجوع الى تفسير اهل العلم والمعرفة وهم اهل بيت النبوة "عليهم السلام" فكان النبي لا يفسر القران الا بعد ان يأتيه جبرائيل، الا ان في زماننا هذا ظهر لنا من هم اعلم من النبي ﷺ يفسرون القران ليظلوا عن سبيل الله
بعد ان اثبتنا في
الجزء الاول التقليد في زمن الائمة "عليهم السلام" وان الائمة قد عينوا مفتيا للاحكام الشرعية في البلدان الاسلامية، واثبتنا في
الجزء الثاني ان العلماء هم المرابطون في الثغر ويجب مرابطتهم في عصر الغيبة
في هذا الجزء نثبت الادلة القرآنية بأذن الله
اولاً: الاستدلال بآية الذكر
قال تعالى ﴿
فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ﴾
(1)
الاستدلال بهذه الآية يتم عبر نقطتين 1. ان الاية تدل صراحة على وجوب السؤال على الجاهل، بمعنى أن غير العالم يجب عليه أن يسأل العالم، وهذا ما تدل عليه صيغة الأمر الواردة في الاية ﴿فَسۡـَٔلُوٓا﴾
2. هنالك فائدة مترتبة على السؤال، وليست الفائدة هي مجرد الحصول على الجواب، بل الفائدة والثمرة من وجوب السؤال هي الحصول على الجواب مع ترتب الاثر على ذلك الجواب.
اشكالات آية الذكر
1. هل الاية الكريمة تدل على علماء اليهود والنصارى؟
ان الاية الكريمة لا تدل على علماء اليهود والنصارى وذلك لان لو كان اهل الذكر اليهود والنصارى فمعنى ذلك ان القران يأمرنا ان نتعبد بالديانة اليهودية والنصرانية، ويحثنا على اخذ بأقوال علماء هاتين الديانتين ويجب العمل وفق هاتين الشريعتين المنسوختين وهذا باطل قطعا، وذلك لعدة ادلة
- قال تعالى ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ (2)
- قال تعالى ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾ (3)
- اتى عمر بن الخطاب رسول الله "صل الله عليه واله" فقال: انا نسمع احاديث من يهود تعجبنا، فترى أن نكتب بعضها؟ فقال النبي: أمتهوكون (متحيرون) كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه الا اتباعي. (4)
- قال النبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتوه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، الا إنكم حظي من الامم وانا حظكم من الانبياء. (5)
2. هل الاية الكريمة تدل على الائمة الاثني عشر "عليهم السلام"؟
توجد رواياا فسرت ان اهل الذكر الائمة "عليهم السلام" ولكن هذه الروايات لا تنفي جواز الرجوع للعلماء السائرين على نهجهم وخطاهم، وذلك لعدة اسباب:
1. لا حصر في الروايات
ان الروايات الدالة على اهل البيت "عليهم السلام" ليست محصورة فقط بالائمة "عليهم السلام"، لا تنفي ان يكون جماعة يصدق عليهم عنوان اهل الذكر.
2. الائمة مصداق أكمل لأهل الذكر
ان الائمة هم المصداق الاكمل لأهل الذكر، وهذا لا ينفي وجود غيرهمم، فعنون اهل الذكر عام ينطبق على الائمة وعلى غيرهم
3. عدم التمكن من مراجعة الامام
في حال وجود الائمة لا اشكال في الرجوع اليهم، او الرجوع الى من أمروا الناس بالرجوع اليه، انما في عصر الغيبة وعدم وجود امام يمكن الرجوع اليه، وفي هذا الفرض لا يمكن ترك الامة تتخبط في ظلمات الجهل، بل لا بد من وجود من ينقذهم من ظلمات الجهل ويتحتم الرجوع اليه، وجواز الرجوع اليه مقيد بالائمة "عليهم السلام"
4. فتوى الفقيه مستقاة من رأي المعصوم
ان فتاوي الفقهاء هي صياغة لفظية لرأي المعصومين "عليهم السلام"، لان الفقيه يبذل اقصى جهد في البحث عن رأي المعصوم، ومن ثم يقدمه للناس بصياغته الخاصة، ففتاوي الفقهاء هي ثمرة آراء النبي صل الله عليه واله وائمة الهدى عليهم السلام.
ثانياً: الاستدلال بآية النفر
قال تعالى ﴿ وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَا﴾ (6)
اشكالات آية النفر
هل ان الاية تدل على الجهاد وليس الرجوع للعلماء؟
ان من اقبح انواع الكذب على الله هو تفسير القران برأي العامي الجاهل، قال المصطفى ﷺ: من فسر القران برأية فليتبوء مقعده من النار. (7)
ومن خطورته كان الرسول ﷺ لا يفسر القران الا بعد ان يأتي جبرائيل، فكيف العامل الجاهل يفسر القران بحسب رأيه، فظاهرة تفسير القران من غير حجة وبرهان ظاهرة خطيرة.
ان التمسك بالسياق لتفسير الاية بالجهاد غير سليم، وهو محاولة فاشلة وذلك لسببين:
1. ورود الاعتراض والاستطراد في القران
لو فرضنا ان السياق واحد في هذه الاية وهو الجهاد، فان ذلك لا يقدح في الاستدلال في الاية على لزوم الرجوع للفقهاء، لان آستطراد واعتراض في السياق المنتظم، والاستطراد والاعتراض وارد في القران الكريم بكثرة، بل الكلام العربي عموما، يدخله الاستطراد والاعتراض، الذي هو تخلل الجملة الاجنبية بين الكلام المنتظم، وقد استعمل القران الكريم هذا الاسلوب في مناسبات عدة، منها
- قال تعالى ﴿قَالَتۡ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ﴾ (8) فقوله ﴿وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ﴾ جملة معترضة من قبل الله تعالى بين كلام ملكة سبأ
- قال تعالى ﴿قَالَ إِنَّهُۥ مِن كَيۡدِكُنَّۖ إِنَّ كَيۡدَكُنَّ عَظِيمٞ ۞ يُوسُفُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَاۚ وَٱسۡتَغۡفِرِي لِذَنۢبِكِۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلۡخَاطِـِٔينَ﴾ (9) فكلامه ليوسف معترض بين سياق منتظم
- قال تعالى ﴿۞ فَلَآ أُقۡسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ ۞ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٞ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِيمٌ ۞ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ۞﴾ (10) هنا القسم اعتراض
2. تصريح المفسرين بخروجها من السياق
صرح بعض المفسرين بأن الاية لا تتعلق بأية الجهاد وانها خارجة عن هذا السياق ومنهم الالوسي في التفسير، حيث قال (الاية ليست متعلقة بما قبلها من آمر الجهاد، بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة، فبعد ذكر فضل الجهاد ذكر السفر الاخر، وهو الهجرة لطلب العلم، فضمير (يتفقهوا وينذروا) للطائفة المذكورة وهي النافرة واستدل بذلك ان تفقه في الدين من فروض الكفاية. (11)
3. لا دليل على التفسير بالجهاد
عند رجوع الى كتب التفسير من المذاهب الاسلامية المختلفة لم نعثر على من حصر تفسير الاية بخصوص الجهاد والغزو، بل اتفقوا على ان تفسير الاية بالنفور الى طلب العلم وتحصيله.
ثالثاً: الاستدلال بآية ابراهيم ؏
قال تعالى ﴿يَٰٓأَبَتِ إِنِّي قَدۡ جَآءَنِي مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ يَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِيٓ أَهۡدِكَ صِرَٰطٗا سَوِيّٗا﴾ (12)
الاية واضحة جدا وصريحة في وجوب اطاعة العالم ومتابعته والرجوع اليه والاخذ بقوله، فان ابراهيم "عليه السلام" دعا عمه آزر الى الاقتداء به والتعلم منه والعمل بما يعلمه، مؤكدا ان ان تباع العالم طريق النجاة، على رغم من كبر سن آزر ومكانته الاجتماعية المرموقة آنذاك.
رابعاً: اية الكتمان
قال تعالى ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ﴾ (13)
الاية دالة بشكل صريح على حرمة كتمان العلم والبينات، هنالك قاعدة عامة يذكرها العلماء في علم الاصول، مفادها ان المورد لا يتقيد الوارد، فالذي يقول انها نازله بحق اليهود هو يفسرها بالحاديثة الخاصة جدا والضيقة ولا يفسرها بشكل عام فمن يكتب العلوم فقد لعنه الله ويجب على العالم ان يظهر علمه،
- فقد سئل الامام علي "عليه السلام: من شر خلق الله بعد ابليس وفرعون؟ قال: العلماء اذا فسدوا وهم المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عزوجل ﴿أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ﴾ (14)
- قال رسول الله ﷺ: من كتم علما مما ينفع الله به الناس، في امر الدين، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار (15)
من خلال هذه الجولة المختصرة والسريعة في استعراص بعض الايات القرآنية التي تدل بصورة واضحة على مشروعية رجوع الجاهل للعالم، وهذا هو التقليد في الفروع الذي يقول به الشيعة أعلى الله كلمتهم.
--------------------------
المصادر
- سورة النحل، اية ٤٣
- سورة ال عمران، اية ٨٥
- سورة المائدة، اية ٥١
- معاني الاخبار، ص٢٨٢ - بحار الانوار، ج٣، ص١٧٩ - مستدرك سفينة البحار، ج١٠، ص٥٦٨
- مجمع الزوائد ج١، ص١٧٤ - كنز العمال ج١، ص٢٠١ - ارواء الغليل ج٦، ص٣٧
- سورة التوبة، اية ١٢٢
- العدد القوية ص٨٩، تفسير العياشي ج٣، ص٤٦ - بحار الانوار ج٣٦، ص٢٢٧
- سورة النمل، اية ٣٤، ٣٥
- سورة يوسف، اية ٢٨، ٢٩
- سورة الواقعة، اية ٧٥، ٧٦، ٧٧
- تفسير روح المعاني، الالوسي ج١١، ص٤٩
- سورة مريم، اية ٤١
- سورة البقرة، اية ١٥٩
- تفسير الامام العسكري ص٣٠٢، التفسير الصافي في الفيض الكاشاني ج١، ص٢٠٧، البرهان في تفسير القران ج١، ص٢٥٨، بحار الانوار ج٢، ص٨٩
- سنن ابن ماجة ج١، ص٩٧ - ميزان الحكمة ج٣، ص٢٠٧٦