يرسمُ الإنسانُ أبعادًا لا سقف لها لأحلامه وأمنياته، يثرثرُ مع نفسه كثيرًا وقد يصل به الأمرُ إلى أن يفتح بابًا خفيّا مع المجتمع يناقش فيه أفراحه وآلامه والصعوبات التي تُعرْقل سيره ، يستشيرُ من حوله ، ويصنف المشورات إلى جيدة وغير صالحة.

غير أنني قرأت اليوم على منصّة الانستجرام طرحًا غريبًا لفتاة بعمر الزهور لم تتجاوز العشرين عامًا ترغب في الزواج وتشكو قلّة المتقدمين لها طلبًا للاقتران بها.
لا أعلمُ ما الذي جعل هذه الفتاة تُفصح عن رغبتْها المُبكرة في الزواج ؟
هل كان السببُ نابعًا عن رغبتها الذّاتيّة في الزواج أم هو نتيجة الضّغوطات الأسريّة ؟!
مما لاشك فيه أن فتاة صغيرة لم تتجاوز العشرين سنةً لم تكتملْ تجاربها الزمنيّة بعد ، فهي ربما لاتعرف حجم مسؤولية هذه الشّراكة الاجتماعية ، أو قد تكون بحاجة لاحتواء عاطفي عائليّ يُحيطها بسياج من الحماية والأمان ، إنها غصن غضّ لم يُدرك من أمر الزواج سوى الغراميات وكؤوس العشق .
لم تقرأ فتاتي الصغيرة ما سطّر بعض الأدباء عن الزواج مثل توفيق الحكيم الذي قال فيه :
"الزواج نقْلةٌ مُفاجِئة من التّدليل إلى التّذليل"

والفيلسوف اليونانيّ الذي قال :
"الزّواج هو الشرّ الوحيد الذي يُبحثُ عنه"

وأضاف الكاتب المسرحي اليونانيّ ميناندر بأنّ : " الزواج شرٌّ، لكنه شرّ ضروري "

ولم يكن طرحي لهذه الآراء للتنفير من الزواج أو التّحقير من سُنّة نبويّة دعا لها الإسلام _حاشا لله _ هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تسليط الضوء على مثل هذه الآراء إنّما هو قد يكون ترجمة لفشل بعض الزيجات ، التي تمخّضت عن الاختيار السيء للزوج، أو التّسرع في الدخول بهذه العلاقة دون دراسة مُتعمقة، أو أنّها من جملة أقدار الله تعالى للإنسان.

الزواج قرار ، له توقيت إلهي ، إنّه من أجلّ وأقدس سُنن الحياة الاجتماعية ؛ وهو مؤسسة اجتماعية تحتاج لفهم الكثير من ركائزها الأساسية ليقوم البناء الزوجيّ سليمًا معافى لذلك كان لابدّ من دراسة خُطواته جيدا قبل إبرام عقود هذه الشراكة المُقدّسة و لابد من الاستعداد التّام للخوض في هذه التجربة وذلك لأسباب أكثرها أهمية هو أنّ التّأقلم مع شخصية مختلفة لها انفعالاتها الخاصة حدثٌ جبّار ،
كما أنّ مسألة حمل طفل وولادته وتربيته لايعدّ أمرًا سهلا مطلقًا ،فضلًا عن تحوّل الاهتمامات إلى اتجاه آخر
.
وقد أصابت المرأة الأعرابية عندما أوصت ابنتها عند زفافها ، وقارنت بين منزل الوالد ومنزل الزوج فقالت:
( إنّك فارقت بيتك الذي منه خرجت، وخلّفتِ العشّ الذي فيه درجتِ ، إلى وكْرٍ لم تعرفيه، وقرينٍ لم تألفيه )

فإذا كان قرارُ الزواج خاطئا فالضريبة سوف تكون ضخمة، وسوف يدخلُ في دائرة الضرر من لاذنب له، وتتفاقم الأحداث فتصل في بعض الأحيان لطرق مسدودة، قد تُفتح أبوابها في المحاكم القضائية.

وإذا كان إحجام الفتيات والشباب هذه الفترة عن الزواج أمرٌ شائع فلابد من النظر في أسبابه ووضع الحلول لهذه المشكلة فليس كلّ مايصل لأسماعهم صحيحًا.

أمّا تأخُّر بعض الفتيات في الزواج لأسباب خارجة عن إرادتهن فهو فرصة كبرى لهن لإنجاز مهام حياتية متعددة ربما لا تستطيع الفتاة إنجازها وهي مُثقلة بمسؤوليات الزواج والأسرة

الزواج توْقِيت إلهي ، وإذا تكدّست سنواتُ عمر الفتاةِ دون زواج عندها سوف تبني جسرًا قويّا يربطها بالمستقبل كما تفعل بعض الفتيات اللاتي يصنعن لأنفسهن جلالا إمبراطوريا فيقتحمن أبواب العمل، ويخضن الصعاب، ويصبحن مثل قمة أفرست في تفردهن . فإذا جاء الوقت الملائم لزواجهن أصبحت لديهن النّظرة الواقعية المستقبلية عن الزواج الذي قد تكتمل أركانه بزوجة شابة ناضجة ، فالزوجة التي صقلتها المصاعب وتربت على القيادة الاجتماعية سوف تصبح أُمّا صالحة وشريكة ناجحة لزوجها ،مُحققة بذلك مميزات الزواج المَرن بجميع امتيازاته. إذ إنّ من أهم سمات الزواج المرن أنّه الشركة الوحيدة التي يصحُّ أن يقودها قائدان يقرران الصالح العام للأسرة ، وهو مانفتقده بكثرة في مجتمعنا.