أنا، ومن أنا؟!
حب الإنسان لنفسه هو أساس سعيه والدافع القوي له للتحرك في ميادين إثبات الوجود وتحقيق الآمال والإنجازات، بل هو المحقق للحالة النفسية المتحلية بالطمأنينة والهدوء والأمان لما يتلقاه من دعم في طريق العمل المثابر، ولكن هذا المنسوب لحب النفس إذا زاد عن حده ووصل إلى مرحلة لا يرى فيها الفرد غيره فهذا يسمى طغيان ونرجسية، وبالطبع فله نتائج عكسية ومغايرة للحركة الجوهرية للإنسان وسعيه نحو التكامل والرقي، فالتغيير سيكون نحو الأسوأ إذ المشهدية هي غياب كل شيء من حوله ما عدا نفسه، فينظر لمنفعته لوحده ولا يأبه لمن حوله ولأحوالهم بل كل تفكيره وسعيه فيما يصب في مصلحته، وهذا الطغيان في حب النفس يلقي بظلاله على نفسية الفرد وصفاته ومنها اتصافه بالأنانية والتعامل مع الناس بميزان الطلب والأخذ دون العطاء، فهو بذلك يخالف الطبيعة البشرية القائمة على مبدأ الأخذ والعطاء والتعامل بتوازن؛ ليحقق بذلك مبدأ المساواة ويخلص النفس من أغلال الأنانية وانتفاخ الذات، والشح في العطاء يسلخه من إنسانيته الجميلة المتبلورة بسماحة النفس والسخاء في العطاء المعنوي والمادي، فمثل هؤلاء يجدون سعادتهم وارتياحهم النفسي بتحقيق مصالحهم وعدم تفويت شيء من حظوظهم، بينما أصحاب النفوس المعطاءة يجدون سعادتهم برؤية انفراج الأسارير وارتسام الابتسامة على وجه المكروب الواقع تحت ضغوط الحياة والمشاكل المختلفة، فمتى ما انتشل أحدا من حزنه وألمه النفسي وجد في نفسه شعورا بالاغتباط حيث حقق وجوده القوي.
التعامل الوازن مع الآخرين - إذا كان متخلصا من أنانيته وتأليه ذاته والإعجاب بنفسه - يقوم على مبدأ معاملة الغير كنفسه في كل أفعاله وتصرفاته، فما يحبه لنفسه كالاحترام في الكلمة والتصرف يتعامل به مع الآخرين، وما يكرهه من الظلم والعدوانية والكذب وغيرها من الرذائل الأخلاقية فهو يتجنب صدور شيء منها، فهذا التعامل هو ما يشيع المحبة والسلام بين الناس ويحافظ على علاقاتهم بعيدا عن التوترات والمهاترات والكراهية.
ومهما أوتي الفرد من قدرات وإمكانيات ومواهب خاصة فهذا لا يدعو إلى الإعجاب بالنفس وتقزيم الآخرين، فالتفاوت في القدرات والمستويات المعرفية والاجتماعية وغيرها «الفروق الفردية» لا يدعو إلى حالة التكبر على الآخرين بل العكس هو الصحيح، إذ كلما ارتقى الإنسان درجة في تحقيق إنجازاته تألق مستواه الأخلاقي وقابل الآخرين - على اختلاف مستوياتهم - برحابة صدر وتعامل أخلاقي رفيع، وتقدير الذات والثقة بالقدرات ومعرفة القدر أمر إيجابي ومنطلق لخوض غمار التحديات في مختلف ميادين الحياة، فتصحيح الأخطاء بعد البحث عنها ومحاسبة النفس والطموح لبلوغ درجات عليا هو من نتاج تقدير الذات، ولكنه يختلف تماما عن الإعجاب بالنفس وتضخم الذات لدرجة لا يرى معها منجزا لأحد غيره، ومن الطبيعي أنه لا يكن أي تقدير لغيره ولا يحمل مشاعر إيجابية تجاه الغير.
والوسط المنزلي هو المعلم الأول للطفل ويتلقى منه مكتسباته وآدابه وأخلاقه، والطفل الذي يرى من أحد والديه تعاليا على الآخرين ومدحا مستمرا لنفسه، بينما يوجه أقذع عبارات الذم والاستنقاص للآخرين فلا يعجبه أحد بالمطلق وكأنه لا يرى أحدا يستطيع تحقيق الإنجازات غيره سيكون ذلك مدعاة للسير على خطاه وتقليده، ففي مثل هذه البيئة بلا شك ستنمو في نفس الطفل بذرة التكبر والأنانية والنظرة السلبية للآخرين وهضم حقوقهم المعنوية في الاعتراف بقدراتهم، كما أن الدلال الزائد يورث في نفس الطفل تضخم الأنا وصعوبة تأقلمه مع محيطه فيتقبل الفروق معهم.
والإعجاب بالنفس قد يرثه البعض من محيطه الاجتماعي من خلال المديح والثناء الزائد على تفوقه ونجاحه، وهذا يختلف - بالطبع - عن التشجيع والذي هو دافع قوي نحو تحقيق خطوات واثقة وناجحة جديدة، فهناك طبقة اجتماعية تمارس التصفيق المستمر والخداع لمن لا يعرفون حقيقة أنفسهم ومستوياتهم، فتنتفخ ذاته بسبب ما يسمعه من مديح وكلمات تبلغ به إلى السقوف العالية، وتغيب عنه الحقيقة وأوجه التقصير والخطأ عنده.
ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع): «وَاعْلَمْ أَنَّ الإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَآفَةُ الألبَابِ» [نهج البلاغة ج 3 ص 46].