رحم الله حمام تاروت وغيره من الحمامات وعيون الماء القديمة الكثيرة الانتشار في مناطق القطيف كلها. كلما أعبر بالقرب منه يشعل منظره -مدفونًا- في رأسي ذكريات سنوات الصبا والساعات التي قضيناها فيه، خصوصًا في أيام وليالي الشتاء! كان الماء الساخن شحيحًا في المنازِل فليس إلا حمام تاروت الملتقى اليوميّ بعد حصة الرياضة، دفء الماء يجبرنا على البقاء مدة طويلة! لا تستطيع أن تترك الحمام إلا ملتفًّا في فوطة في ليالي الشتاء الباردة! مجمعًا ومكانًا للنساء والرجال والأطفال، يوفر وقتًا للرّاحة والنظافة والأحاديث!
أما الأصدقاء القدامى، فحدث عنهم من دون حرج! أجمل الأصدقاء أقدمهم. وكما يقول المثل: "قديمك نديمك" و"عتيق الصوف ولا جديد الإِبريسم". والإِبريسم بكسر الهمزة والراء وفتح السين لفظ معرب، تعني أجود أنواع الحرير، أو الحرير المنقوض قبل أن تخرج الدودة من الشرنقة. أظن أن القارئ الكريم يوافقني الرأي أن الصداقات التي بدأت في مراحل السنوات الابتدائية والطفولة من أقوى الصداقات. صداقات جميلة وعمرها طويل. إذا عندك واحد من هؤلاء الأصدقاء القدامى، حافظ عليه ولا تفرط فيه. أيام وذكريات لن تعود:
ترجُو الصِّبا بَعدمَا شابَتْ ذَوَائِبُها
وقدْ جرتْ طلقًا في حلبة ِ الكبرَ
أَجارتي! إِنَّ شَيبَ الرَّأْسِ نَفَّلني
ذِكرَ الْغواني، وأَرضاني مِنَ القَدَرِ
لو كُنتُ أَرْكُنُ للدُّنيا وزِينتِها
إِذنْ بكِيتُ على المَاضِينَ مِن نَفَرِي
ورد في الخَلّ الكثير من المدح: عن النبي صلى الله عليه وآله: أنه قال: "نعم الإدام الخل، ونِعم الإِدام الزيت وهو طيب الأنبياء وإدامهم، وهو مبارك، وما افتقر بيتٌ من إدام فيه خل". وجاء أن الإمام الصادق -عليه السلام- قدَّم إلى بعض أصحابه خلا وزيتًا ولحمًا باردًا فأكل معه الرجل فجعل -عليه السلام- ينتف اللحمَ ويَغمسه في الخل والزيت ويأكله، فقال الرجل: جعلت فداك هلّا كان اللحم؟ فقال -عليه السلام- هذا طعامنا وطعام الأنبياء.
وهذا من عجائب وفوائد العلوم النبوية أن يثبت الدينُ قبل العلم الحديث بمئات السنين فوائد شيء ما! وللعلم يستطيع القارئ الكريم والقارئة الكريمة أن يقرأ عن فوائد الخل ويطلع عليها مباشرة فهي كثيرة جدًّا ومنشورة في صفحات الشبكة العنكبوتية.
أجدها فرصة مناسبة أن أجدد التحية لكل الأصدقاء القدامى الذين لعبنا ودرسنا وعملنا معهم، كبرنا وابيض شعرنا ولا نزال أصدقاء لم تغيرنا الأيام، الذهب لا يتغير إنما يزداد قيمةً ونُدرة! كنا صبيةً صغارًا أيام حمام تاروت القديم والآن شيوخًا! وفرصة أخرى لأن أدعو القراء الكرام أن يقصون ذكرياتهم القديمة للأبناء والأحفاد. تبدو بعض الذكريات سخيفة -نوعًا ما- في نظر الكبار لكنها متعة كبيرة لدى الأبناء والأحفاد.
قصوا على الصغار حكاياكم، أفضل لهم من اللعب بأشياء لا تنفع! الحكايات توسع مدى خيالهم وتحببهم في الاستماع والقراءة وفوائد لا تحصى. أفضل بكثير من تركهم منفردين مع العاملات أو يلعبون بأدوات ليس فيها نفع!