اجعل عطائك في الدنيا أمامك وليس خلفك
يبدو أن الحرص وهوس البحث عن المزيد من كسب المال الذي قُدِم على الأخلاق في الكثير من التعاملات المجتمعية، ربما هو الذي ساهم بانحراف بوصلة بعض أصحاب الأموال عن القيام بالأعمال الخيرية في حياتهم، والاكتفاء بذكرها في وصيتهم التي ربما يختلف عليها الورثة أثناء مراسم دفنهم.
يعيش الإنسان حالة من الصراع بينه وبين نفسه مع أي عمل يريد فعله سواء أكان خيرًا أو شرًا وأكثرها يتعلق بالمال، ربما لأهميته في تسهيل ونيل مبتغيات كثيرة في حياتنا، لكنه لا ينبغي تقديمه على كثير من الأمور التي نتعامل بها مع الآخرين في حياتنا وبالخصوص ”الأخلاق“، لأنها هي وحدها من ترفع الإنسان بين الآخرين وليس المال، إلا أننا في مجتمعاتنا نلمس واقعنا وتفكيراً مشوهاً في نظرة الكثير من الناس للحالتين.
يحكى أن رجلا ميسوراً عاش في أم القرى قبل نحو مائة عام، وكان له خادمًا مملوكًا يخدمه في جميع شؤونه الخاصة، فإذا أذن مؤذن المسجد لصلاة الفجر أيقظه مملوكه وقدم له أبريق الوضوء وأشعل الفانوس ومشى أمامه نحو المسجد، وذلك قبل عهد الكهرباء بل قبل ”الأتاريك“.
كانت الشوارع متربة والأزقة مليئة بالحجارة ولا توجد إضاءة عامة ويكون الظلام دامساً من بعد غروب الشمس حتى طلوعها صبيحة اليوم التالي، فلما رأى ذلك الميسور تفاني مملوكه وخادمه قال له ذات يوم: إسمع يا سعيد.. لقد كتبت في وصيتي الموجهة لورثتي أن تصبح حراً بعد وفاتي مكافأة لك على إخلاصك في خدمتي لعشرات السنين فسكت الخادم ولم يعلق على ما سمعه من سيده!.
وفي فجر اليوم التالي قام كعادته وأسرج الفانوس ومشى به خلف الرجل الميسور فتعجب من فعلته وقال له: ما لك يا سعيد؟ لماذا لا تتقدم بالفانوس حتى تنير لي الطريق نحو المسجد؟! فأجابه خادمه بقوله: أنت يا سيدي الذي جعلت نورك وراءك.. عندما وعدتني بالحرية بعد مماتك ولم تقم بذلك في حياتك، فلماذا تجعلني أتمنى موتك حتى أنال حريتي بدل أن أتمنى لك طول العمر في طاعة الله.. ألا تعلم أني سأظل أخدمك وفياً لك حتى لو نلت على يديك حريتي؟!. فهم الرجل الدرس جيداً وقال له: أنت يا سعيد حراً من هذه اللحظة، فرد عليه قائلا: وأنا خادمك البار من هذه اللحظة.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا " لأَنْ يَتَصَدَّق الرَّجُل فِي حَيَاته وَصِحَّته بِدِرْهَمٍ خَيْر لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّق عِنْد مَوْته بِمِائَةٍ، ولهذا على المرء أن يحمد الله تعالى بأن يّسَرَهُ للخير ويسر الخير له، وصرفه الله عن الشر وصرف الشر عنه، وهو من ثبته على ما ركب فى طبعه من إعطاء المحروم، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وتعزية الملتاع، والأخذ بيد الضعيف، لكن التفكير المعطوب والسلوك المغلوط عند الكثير ممن يملكون المال، حينما ينظرون إلى أنفسهم نظرة الاستعلاء وتصنيفهم لها بأنهم صفوة رجال المجتمع وخيرته، ظنًا منهم بأن المال سيعيش معهم ويدوم لهم الرغد والسعادة دون نهاية.
وفي الختام: إن قوة إيمان من يملك المال تبرز في حياته عندما يسارع في الأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين لتجعل نوره أمام، بدلًا من أن نوصي ورثتنا بالقيام بأعمال الخير عنا بعد وفاتنا التي ربما يتخاصمون عليها ولا نضمن تنفيذها كما نحب فتجعل نورنا خلفنا ونكون من: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ