إلا الأخلاق في تراجع!
رحم الله المجتمع البسيط - المتخلف - الذي عاش فيه والدي وأمي. نعم، كان أميًّا في أغلبه، متخلفًا في كلّ تقنية وكلّ ناحية من نواحي الحياة. إلا الأخلاق كان متقدمًا فيها على من بعده من أجيال! أبي وأمي كانوا يعرفون الجيران، أولاد الجيران أصدقاء لنا، نسلم على الكبار ونحترمهم، أو نخاف منهم، سيّان، النتيجة واحدة.
الآن تبلع الغصّة إذا خرجت من الدار، تخاف أن تحتكّ بصغير أو كبير ويحصل سوء فهمٍ ينتهي بكارثة! هذه الكلمات ليس مبالغ فيها وإذا أراد القارئ الكريم أن يتحقق بنفسه ما عليه إلا أن يقضي شيئًا من النهار في الطريق أو في السوق - أو المسجد - مع الناس:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا ** وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
كنا نركب البغالَ والحمير والجمال والأحصنة، الآن نركب سياراتٍ فخمة ونطير من بلد لآخر في طائراتٍ سريعة ومريحة. كنا نمثل الاتصال بأصدقائنا بواسطة حبل وعلبتين، الآن نتصل بأدواتٍ جميلة في أيدينا لمن نحب في أي بقعة من الكرة الأرضية. عدّ ما شئت من أوجه الحياة؛ المسكن والملبس والمأكل والمواصلات، أدوات اللعب والترفيه، كلها تطورت إلى درجاتٍ مرتفعة. أين بيوت الصفيح وجريد النخل، يتشارك أهلها العيش مع البهائم؟ أين الملابس الرثة؟ كل ذلك ولله الحمد اختفى مع التقدم والسعة في الرزق.
إلا الأخلاق الفردية والمجتمعية في عمومها أصابها مرض التخلف وأصبحت عاجزةً عن التقدم في نواحٍ شتى! خذ ما شئت من السلام وردّ السلام إلى الأمانة وحقوق الجار واحترام الكبار والحلم والصدق والقائمة تطول بما فيها علاقات الأرحام. لو رغبت أن أملأ صفحاتٍ كاملة فهو أمر يسير جدًا. أظن أن المؤشرات واضحة وضوح الشمس، إلا لمن يسكن منفردًا في الصحراء، وحتى الذي في الصحراء يرى بوضوح التصحر في الأخلاق.
كان المرجو أن يلازم التقدم العلميّ والتقني تقدمًا أخلاقيًا - وإن على مستوى بسيط - فإذا بنا نلاحظ انحدارًا كبيرًا! ما سببه؟ لا أعلم! لكن الارتقاء والتقدم الحقيقي هو الذي لا يكون منفصلًا عن الأخلاق، ولا أظن أن الدين له ملامة في تراجع الأخلاق! فلقد نادى الدين بحسن الخلق في القرآن والأحاديث وضرب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله أمثلة رائعة في حسن الأخلاق والمعاملة الطيبة وكذلك من بعده من الأئمة.
لا أدري ما الدواء الذي يُشفي الأخلاق من مرضها وتمشي قدمًا لكن من المعلوم لو بدأنا من أنفسنا ثم جلسات حوارية أسرية نناقش فيها أخلاق الأبناء والبنات، لعلنا نصل إلى مكانٍ ما نعرف موقع الخلل ونصلح ما يمكن إصلاحه:
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى ** بِالْقَوْلِ مِنْك وَيحصل التسليمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ