النوم نافذة على ما يجري في المحيط حيث يمكننا التفاعل مع الكلمات التي تقال لنا ونحن نائمون – ترجمة عدنان أحمد الحاجي
Sleep is open to the world: we can respond to verbal stimuli while sleeping
(معهد باريس للدماغ – Paris Brain Institute)
النوم ليس حالة نكون فيها منفصلين تمامًا عما يحري حولنا في العالم الخارجي (ما يجري في المحيط): أثناء النوم، لا نزال قادرين على سماع كلمات وفهمها. هذه الأشياء التي لاحظناها (راقبناها) كانت نتيجة التعاون الوثيق بين فرق بحثية من معهد باريس للدماغ وقسم أمراض اضطرابات النوم(1 – 4) في مستشفى بيتي سالبيترير الجامعي في باريس، تدعو إلى التشكيك في تعريف النوم والمعايير السريرية التي تجعل التمييز بين مراحله المختلفة ممكنًا. تفصيل هذه النتائج نشر في دراسة جديدة(5)في مجلة نتشر نيروساينس (Nature Neuroscience).
يُعرف النوم عمومًا على أنه فترة يكون فيها الجسم والذهن في حالة راحة، كما لو كانا منفصلين عن العالم الخارجي (عما يجري في المحيط). ومع ذلك، بَّينت دراسة جديدة بقيادة دلفين أودييت [Delphine Oudiette] (إنسيرم Inserm = المعهد الوطني الفرنسي للصحة)، وإيزابيل أرنولف [Isabelle Arnulf] ولينويل نقاش [Lionel Naccache] (جامعة السوربون، مستشفى باريس العام AP-HP)، في معهد باريس للدماغ، أن الفاصل بين اليقظة(6) والنوم(7) متخلخل بدرجة أكثر بكثير مما يبدو.
أثبت الباحثون أن بإمكان الناس الذين ينامون بشكل طبيعي التقاط المعلومات التي يتلفظ بها إنسان والاستجابة لها وذلك من خلال انقباض عضلات وجوههم. هذه القدرة المذهلة تحدث بشكل متقطع أثناء مراحل النوم جميعها تقريبًا، تمامًا كما تُفتح نوافذ تواصل مع العالم الخارجي (المحيط) تُفتح بشكل مؤقت في تلك اللحظة.
تفيد هذه النتائج الجديدة بأنه قد يكون من الممكن تطوير بروتوكولات تواصل موحدة مع النائمين لفهم كيف يتغير نشاطهم الذهني أثناء النوم بشكل أفضل. تلوح في الأفق أداة جديدة لسبر أغوار العمليات المعرفية التي تكمن وراء النوم الطبيعي والنوم المرضي (اضطرابات النوم). [المترجم: العمليات المعرفية “cognitive processes” الأساسية تشمل التحكم الانتباهي والكف / التثبيط المعرفي والتحكم التثبيطي والذاكرة العاملة والمرونة المعرفية(7)].
الفروقات بين حالات الوعي كثيرة جدًا
“حتى لو بدا الأمر مألوفًا وذلك لأننا نخلد إلى النوم كل ليلة، إلا أنه يُعتبر ظاهرة معقدة جدًا. “لقد علمتنا دراساتنا أن اليقظة والنوم ليسا حالتين مستقرتين: بل على العكس، بأمكاننا وصفهما كفسيفساء من لحظات وعي ولاوعي على ما يبدو”، كما يوضح ليونيل نقاش، طبيب أعصاب في مستشفى بيتي سالبيترير الجامعي وباحث في علم الأعصاب.
ومن الضروري فك رموز آليات الدماغ الكامنة وراء هذه الحالات المتوسطة بين حالتي اليقظة والنوم.
“عندما تكون غير منتظمة، يمكن أن تقترن مع اضطرابات النوم مثل المشي أثناء النوم(8) أو شلل النوم(9) أو الهلوسة(10) أو الشعور بعدم النوم طوال الليل، أو خلاف ذلك من حالة النوم والعينان مفتوحتان”، تقول إيزابيل أرنولف، رئيسة قسم أمراض النوم في مستشفى بيتي سالبيترير الجامعي.
للتمييز بين اليقظة ومراحل النوم المختلفة، يستخدم الباحثون في العادة مؤشرات فسيولوجية كالموجات الدماغية المحددة التي يمكن ملاحظتها ومراقبتها بواسطة تخطيط كهربية الدماغ. وللأسف فإن هذه المؤشرات لا تقدم صورة تفصيلية عما يدور في أذهان النائمين؛ وفي بعض الأحيان، تتناقض حتى مع الشهادات التي يدلي بها هؤلاء النائمون. “نحن بحاجة إلى قياسات فسيولوجية أكثر دقة تتوافق مع ما يمر به النائمون. وتضيف دلفين أودييت، الباحثة في علم الأعصاب المعرفي: “سيساعدنا ذلك في تحديد مستوى اليقظة لدى النائمين أثناء النوم”.
مرحلة بين اللاوعي والصفاء الذهني
لاستكشاف هذا المسار، قام الباحثون بحشد 22 شخصًا لا يعانون من اضطرابات نوم و27 مريضًا يعانون من تغفيق [فقدان قدرة الدماغ على تنظيم دورات النوم والاستيقاظ بشكل طبيعي(11)]، أي الأشخاص الذين يعانون من نوبات لا يمكن السيطرة عليها من النعاس أثناء النهار.
يتمتع المصابون بالتغفيق بخصوصية برؤيتهم العديد من الأحلام الصافية [lucid dreams] (الواعية حيث يتمكن صاحب الحُلم من التحكم بحلمه وتغيير مجريات الأحداث فيه(12))، حيث يدركون أنهم نائمون؛ يمكن للبعض في بعض الأحيان تشكيل سيناريو (التجكم في مجريات أحلامهم) كما يحلو لهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنهم يدخلون بسهولة وسرعة في مرحلة نوم حركة العين السريعة(13) (المرحلة التي يرى فيها النائم أحلامًا صافية / واعية “lucid dreams”) خلال النهار، مما يجعلهم مرشحين جيدين لإجراء دراسات الوعي عليهم أثناء النوم في ظل شروط التجارب.
“أثبتت إحدى دراساتنا السابقة أن التواصل في الاتجاهين، من المجرب إلى الحالم والعكس، ممكن أثناء مرحلة نوم حركة العين السريعة(13) الصافية / الواعية” كما تشرح دلفين أودييت. في هذه الدراسة، أردنا معرفة ما إذا كان من الممكن تعميم هذه النتائج على مراحل أخرى من النوم وعلى الذين لا يحلمون بأحلام صافية(12).
وطُلب من المشاركين في الدراسة أخذ قيلولة. وقد أعطاهم الباحثون اختبار “تمييز الألفاظ [تجربة تمييز الألفاظ في علم النفس هي أي تجربة غرضها قياس سرعة انتباه الشخص إلى ألفاظ مصطنعة ليس لها معنىً (غير مستعملة / مفهومة في اللغة) وتمييزها من الألفاظ المتداولة(14)] ، “حيث هناك صوت بشري ينطق بسلسلة من الكلمات الحقيقية والمصطنعة.
كان على المشاركين أن يتفاعلوا بوجه مبتسم أو بوجه عابس لتصنيف هذه الكلمات إلى واحدة أو أخرى من هاتين الفئتين [كلمات حقيقية أو مصطنعة]. طوال التجربة، تمت مراقبتهم بواسطة تخطيط النوم(15) وهو تسجيل شامل لنشاط الدماغ والقلب وحركات العين وتوتر العضلات (قوة العضلات)(16). عند الاستيقاظ، كان على المشاركين الإبلاغ عما إذا كان لديهم حلم صافٍ أثناء قيلولتهم أم لا، وما إذا كانوا يتذكرون أنهم تفاعلوا مع أحد الأشخاص.
“معظم المشاركين، سواء كانوا يعانون من التغفيق أم لا، استجابوا بشكل صحيح للمنبهات اللفظية (أي الكلمات المنطوقة) أثناء نومهم. ومن المؤكد أن هذه الأحداث متواترة خلال نوبات الحلم الصافي، والتي تتميز بمستوى عالٍ من الدراية (الشعور الواعي بما يجري في الخارج(17)]. ومع ذلك، فقد لاحظناها من حين لآخر في كلا المجموعتين خلال جميع مراحل النوم، كما تقول إيزابيل أرنولف.
الطعن في دوغمائية النوم غير المتصل
ومن خلال الاحالة الى هذه البيانات الفسيولوجية والسلوكية والتقارير الشخصية للمشاركين، بيَّن الباحثون أيضًا أنه من الممكن التنبؤ بفتح نوافذ تواصل على ما يجري في المحيط، أي اللحظات التي كان فيها النائمون قادرين على الاستجابة للمثيرات (الكلمات المنطوقة في هذه الحالة).
“في الذين يرون أحلامًا صافية أثناء قيلولتهم، كانت قدرتهم على الاستجابة للكلمات والإبلاغ عن هذه التجربة عند الاستيقاظ تتميز أيضًا ببصمة كهروفيزيولوجية،معينة. تشير بياناتنا إلى أن الحالمين بأحلام صافية يتمتعون بفرصة الوصول إلى عوالمهم الداخلية وأن هذه الدراية والوعي بما يجري المتزايد يمتد إلى ما يجري في المحيط (في العالم الخارجي).
هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات لتحديد ما إذا كان تواتر نوافذ التواصل هذه له علاقة بجودة النوم وما إذا كان من الممكن استغلالها لتحسين بعض اضطرابات النوم أو تسهيل معرفة ما يجري في المحيط. وخلصت دلفين أودييت إلى أن “تقنيات التصوير العصبي المتقدمة، مثل تخطيط الدماغ المغناطيسي وتسجيل نشاط الدماغ داخل الجمجمة (داخل القحف)، ستساعدنا على فهم آليات الدماغ المنظِمة لسلوك النائمين بشكل أفضل”.
وأخيرا، يمكن لهذه البيانات الجديدة أن تساعد في تنقيح تعريف النوم، وهو حالة تكون في نهاية المطاف [في حالة حركة العين السريعة] نشطة جدًا، وربما أكثر وعيًا مما كنا نتصور، ومنفتحة على ما يجري في المحيط ومع الآخرين
الأستاذ عدنان أحمد الحاجي