المداراة والتغافل
لا شك ولا ريب أن المداراة هي نصف العقل، فالمداراة تعني تحديدًا اختيار الطريقة الأسلم للتعامل مع الناس، ويخطئ من يظن أن الناس لهم طريقة واحدة في التعامل، بل لكل مقام مقال، وعموماً فاختيار الطريقة الصحيحة يتبع شرطين مهمين هما:
1. القدرة العقلية للإنسان صاحب الاختبار، فالمسألة عرض اختيارات التعامل مع الإنسان وموازنة هذه الاختيارات، وترجيح الأفضل والأجلب منفعة للمجتمع.
2. قدرة الصبر والتحمل في داخل الإنسان، وهذا يدخل أيضًا ضمن معادلة الاختيار للطريق، فمن كان له قدرة تحمل وصبر أكثر من غيره سيصمد في الطريق الأصعب، وقد يكون هذا الطريق الأصعب بالنسبة له هو الطريق الأمثل.
إذن الحنكة والكياسة والحكمة العملية تقتضي هذين الشرطين، دون إمكانية اختيار شرط واحد فقط، ولكل إنسان في كل ظرف وفي كل حالة إجراء مناسب هو الأسلم له ولصاحب الإجراء وبالتالي للمجتمع عمومًا، وغني عن البيان أن نشير إلى أن بعض مواجهات أهل الخلاف مع أهل الحق، والتي تبتعد عن الموضوعية وتنحو نحو العصبية والجهالة، هي مندرجة تحت إطار ما ذكرناه.
التغافل
التغافل من أشرف الأعمال، والتغافل والمداراة والعفو هي مفاهيم متداخلة، ولكنها على كل حال واضحة إلى حد كبير، والتغافل إذا لم يكن الإنسان مضطرًا إليه ومجبرًا عليه فهو خلق إسلامي جليل، لا يفعله إلا من كان واثقاً من نفسه، بعيد النظر، كريم النفس، فالإنسان يتعرض لمواقف كثيرة في حياته الشخصية تسيء إليه أو تزعجه، وليست كل إساءة أو إزعاج يستحق الرد، وليس الرد المناسب واحدًا في كل ظرف. ولذا فالرد يختلف وردة الفعل تختلف، وقد تكون ردة الفعل المناسبة في بعض المواقف هي التغافل وكأن شيئًا لم يكن، وأكثر ما يحتاجه الإنسان هو محيط العائلة، وخاصة الزوجة في عملها البيتي، فالتغافل عن بعض الأمور القليلة السلبية وكأنك لا تراها، وعدم إظهار نفسك رقيبًا على كل شيء في البيت هو من السلوك المريح لك ولأهلك.
فالتغافل هو عدم المبالاة الواعية بالأمر، له مردود إيجابي كبير على الشخص وعلى المجتمع، وهو تمرين للنفس على تحمل الضغوط في سبيل سلامة المجتمع أو المحيطين أو حتى السلامة الشخصية من الأذى الذي قد يلحق به جراء الرد بغير التغافل، وهو أيضًا جهاد للنفس فيستحق عليه ثوابا آجلا أو عاجلا من الله.
إذن التغافل سلوك صحيح في بعض المواقف، ولكنه سلوك خاطئ في مواقف أخرى، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن التغافل حسن فقط عندما تكون إساءة الغير له على نحو شخصي، أما إذا كانت بحق المجتمع فلا يجوز غض النظر عن هذه الإساءة في كثير من الحالات، ويبقى العقل هو الفيصل في تمييز المواقف التي يحسن معها التغافل أو التي تقتضي تصرفًا آخر.
ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله: «من أشرف أعمال الكريم غفلته عما يعلم»، وأيضاً قوله: «من لم يتغافل ولا يغض عن كثير من الأمور تنغصت عيشته»، ويراد أيضًا من كلام أمير المؤمنين (ع) أمر آخر غير ما ذكرناه، فالتغافل يعني غض النظر وترك ما لا ينفع من المشاغل مثل الندم على ما فات أو الرغبات غير النافعة، فهذه بحق منغصة للمعيشة.
فالتغافل أمر حسن ومطلوب في بعض الأمور غير المتعلقة بالمجتمع، فلا يجوز التغافل عنها، أما إذا كانت إساءة الغير بحق المجتمع فلا يجوز التغافل عنها، بل يجب التصدي لها بكل الطرق السلمية الممكنة