أن تكون في الحياة وخارجها..!
من يكتب الله له سبعين سنة من الحياة، ينال النوم وحده منها ثلاثين تامة، وعلى العتبات الأولى للخمسين ينحدر إلى الضعف الرقيق الذي جاء منه، وإليه في كل يوم يعود، وغالبا يتحقق فيها القدرة العاجزة، يملك ويعجز لضعفه عن الاستمتاع به.
لقد كان هذا قبل نشأة العالم الافتراضي الذي يعمل بنظام المكافأة المباشرة، ومتعة الحواس المستعجلة، مع سهولة نيلها، وسرعة الوصول إليها، وقد أكره العقل على تغيير عاداته ومسالك تفكيره، وأقام للنفس عزلة عن ذاتها، وجعل في القلب شتاتا لا يجمع ولا يجتمع، وسلب من الوعي أعماقه البعيدة، وبات الإنسان مشغولا على الدوام بما لا يعنيه، وبما لن يسأل عنه، وحول المتعة الحسية العابرة غاية لا يتوقف طوال اليوم عن ملاحقتها، وطلب المزيد منها، حتى أصبح هذا العالم الافتراضي أسوأ أنواع الإدمان وأصعبها في التعافي منها.
إن هذا العالم بشواغله وشتاته الذي يغرق الجميع فيه، ولا يملك أحد النجاة منه إلا من رحم، جعل الإنسان يعيش في الحياة وخارجها في آن، وتقبل بطيب نفس معاوضة حياته الحقيقية، بحياة متخيلة وبديلة عنها، تمنحه ما هو عاجز عنه، وكل ما لا يقدر عليه، كما أن هذا العالم الافتراضي يخرج الإنسان من حياته الحقيقية، ومن أيام عمره، ليعيش في حياة غيره..! ذنوبهم المجاهرون بها، وسيئاتهم التي يتفاخرون بها، ورياءهم الذي لا يتوقف عند إظهار ثراء مزيف وممتلكات ليست لهم.

بات الناس أقل تبصرا بأعمارهم التي يتلفها ملاحقة الفضائح العابرة للحدود وقصص الإثارة المصنعة، والطرائف السطحية المبتذلة.
يخسر الإنسان المدمن على العالم الافتراضي يومين من كل أسبوع من عمره، ثمانية أيام في الشهر وبذا يعيش يومين إلى ثلاثة أيام أسبوعيا خارج الحياة الحقيقية، ويفقد من ثمانية إلى عشرة أيام شهريا تنقضي وهو خارجها. وهذه ظاهرة مستجدة وفريدة وغير مسبوقة في تاريخ الجنس البشري. يستمتع بصورة الأشياء دون امتلاكها، مسلما نفسه إلى ما ينتزعه عنها، ويخلف فيها فرحا لا معنى له، ويترك من بعده الانسحاب من نفسه والناس والحياة، وفي نهاية الأمر يسلم نفسه وأيام عمره إلى ما ليس له، غواية مكتملة، وسعي لا يتوقف إلى لا شيء يناله، ولا شيء يقدر عليه، ولا شيء تمتلئ به روحه وعقله.
عش حياتك مكتملة. ولا تعش في العوالم الافتراضية، ولا تكن في الحياة وأنت خارجها، ومحروم على الدوام منها فإن لك حياة.