أنا لا أجامل، أقول كلمتي فوق السطح وما في قلبي على لساني! توقف! أنت تجامل دون أن تعلم وهذا جيّد، لا بد من المجاملة. أعطيك حالتي اختبار: في الأولى وضعت لك أم أولادك الطعامَ ولم يعجبك. سألتك: ها، ما رأيك في طعام اليوم؟ هل تقول: مثل طعم الزفت أو تقول: ممتاز، لكن غلب عليه الملح أو البهارات؟ في الأولى لن تحصل على طعام وربما تشجّ رأسكَ بالطنجرة وفي الثانية تحصل على وجبة أفضل يوم غد!
الثانية: سألك مدير العمل: ماذا تعتقد في فكرتي؟ هل تقول: فكرة غبية جدًّا أو تقول: فكرة ممتازة ويمكن البناء عليها؟ في الأولى تخسر الوظيفة وفي الثانية من المحتمل أن تحصل على ترقية!
رافقني في سنواتِ العمل الطَّويلة صنفان من الشَّباب؛ الأوّل يجدّ ويجتهد وينال درجاتٍ علميّة رفيعة، لكنه لا يملك مهارة المجاملات والخطاب النَّاعم فلا ينجح كثيرًا. الصنف الثاني، يجدّ ويجتهد باعتدال وينال درجاتٍ علميَّة متوسطة، لكنه متمرس في التواصل البشري اللَّطيف، وبالتالي ينجح أكثر من الصنفِ الأوَّل.
في حالات أخرى ربما تنتهي الأمور إلى ما هو أعظم. ثمة حالات جمة يحتاج فيها العاقل لمداراة الناس وإلا بغضوه وآذوه.
ومَن لم يُصانِعْ في أمورٍ كثيرةٍ
يُضرَّسْ بأنيابٍ ويُوطَأ بمَنسِمِ
جامل الناس ودارهم فإن مداراة الناس من العقل. ومن ثمرة المداراة ما يقول عنه الإمام علي عليه السلام: دار الناس تستمتع بإِخائهم، والقهم بالبشر تمت أضغانهم. أما النفاق والمداهنة فهو عكس المداراة من إظهار الحسن وإخفاء الخبث. يُظهر العسل في اللسان ويخفي السمّ في الجنان.
تزوجت أختان من أخوين، زوجُ الأولى كان يبيع العسل وزوج الثانية كان يبيع الخلّ. العسل أشهى وأصحّ إلا أن الأخ الذي يبيع الخلّ يبيعه كله كلَّ يوم، ويعود الأخ، بائع العسل، بالخيبة دون أن يشتري منه أحد.
لم يعجب الأمر زوجةَ بائعِ العسل، فعزمت على أن تتقصى الأسبابَ وراءَ خيبة زوجها ونجاح أخيه، كان ما رأته ليس في رداءة العسل بل في طريقة زوجها في التسويق والتلطّف مع الزبائن. يسألونه: بكم العسل؟ فلا يتلطف معهم في الحديث ويغضب منهم. أما بائع الخلّ إذا رأى شخصًا يمر بالقرب منه ناداه: تعالَ وخذ الخلّ، وإذا لم يكن معك مال اليوم، ادفع الثمنَ يومَ غد، وغير ذلك من الكلماتِ الجاذبة. لمَّا عاد زوجها للمنزل قالت له: أخوك يبيع الخلَّ بلسانٍ من عسل، فيشتري منه الناس، وأنتَ تبيع العسلَ بلسانٍ من خلّ، فلا أحدَ يشتري منك!
بلغة اليوم هذا يعني: ما لا تستطيع أن تناله بالقوّة والغلبة يمكنك أن تناله باللّين واللّطف والمجاملة. مع الرَّئيس والصَّديق والأب والمرؤوس، كلماتٍ ليّنة تحقق ما لا تحققه الخشونةُ والصلافَة.
الشبَّان والشابَّات: لن تكفيكم مهارة اليد والعقل. لا بد من المهارة اللِّسانية. الخشونة - قد تكون صراحة - لكنها غير نافعة وسامَّة، أفضل منها وجه بشوش وكلمات منتقاة بعناية وموزونة بميزان الذهب الدقيق.