أساس القانون الدولي وعلاقته بالقانون الداخلي
أولاً: أساس القانون الدولي
يقصد بأساس القانون الدولي العام: الأساس الذي تستمد منه قواعد هذا القانون قوته الإلزامية، وقد أختلف الفقهاء في تحديد الأساس الذي تستمد منه هذه الصفة قوتها، وانقسموا في ذلك إلى فريقين:
- فريق يرى في القانون بصورة عامة تعبيراً عن أرادة الدولة، سوى كانت منفردة أو مجتمعة هي التي تضفي على القانون الدولي قوته الملزمة. وقد دعى هذا المذهب بالمذهب الإرادي.
- أما الفريق الثاني فيرى أن أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي تكمن في عوامل موضوعية مادية مستقلة عن الإرادة الإنسانية، وهذا هو المذهب الموضوعي.
أ- المذهب الإرادي
يجعل أنصار هذا المذهب من إرادة الدول الصريحة أو الضمنية أساس الالتزام بقواعد القانون الدولي العام. فالقانون الداخلي هو وليد الإرادة المنفردة للدولة، والقانون الدولي العام هو وليد الإرادة الجماعية للدول. ولقد تفرعت عن هذا المذهب نظريتان: الأولى: نظرية الإرادة الفردية، أو التحديد الذاتي. والثانية باسم نظرية الإرادة المشتركة.
- نظرية التحديد الذاتي:
قال بهذه النظرية الفقيه الألماني (جورج يلينك)، ومؤداها إن الدولة ذات السيادة لا يمكن أن تخضع لإرادة أعلى من إرادتها، لأنها تفقد بذلك اعتبارها وكيانها، غير إنه بإمكانها تقييد أرادتها فيما تنشئه من علاقات مع الدول الأخرى، لأن الدولة التي تعيش في المجتمع الدولي تتقيد بالقانون الدولي بإرادتها دون أن تخضع بهذا لأية سلطة أخرى سوى إرادتها، فالتزام الدول بقواعد القانون الدولي مرجعه أذن تقيد هذه الدول بفعل أرادتها بهذه القواعد. ويؤخذ على هذه النظرية أنها تهدي إلى عدم استقرار الأوضاع القانونية في المجتمع الدولي، وذلك لأن بإمكان أية دولة أن لا تلتزم بقواعد القانون الدولي بمجرد إعلانها عزمها على عدم التقيد بها، إذ أنها ما دام التزامها بقواعد هذا القانون ناشئا عن أرادتها وحدها، فلها أن لا تلتزم بها في أي وقت تقتضي أرادتها أن لا تلتزم بها، وفي هذا هدم للقانون من أساسه، كما يأخذ عليها كذلك إنها تجعل القانون يستمد صفته الإلزامية من إرادة الأشخاص الذين يخضعون له بينما مهمته الأساسية هي تقييد هذه الإرادة ذاتها.
- نظرية الإرادة المشتركة:
وضع هذه النظرية الفقيه الألماني تربيل وهي تقوم على اعتبار أن إرادة الدول هي الأساس الذي تستمد منه قواعد القانون الدولي صفة الإلزام، ذلك لعدم وجود سلطة عليا في المجتمع الدولي تقوم بوضع هذه القواعد وإلزام الدول باتباعها. غير أنه وفقا لهذه النظرية لا يمكن الاستناد إلى الإرادة المنفردة لكل دولة لإضفاء صفة الإلزام على قواعد القانون. إذ إن الإرادة المنفردة لكل دولة لا يمكن أن تلزم إرادة الدول الأخرى. ولكي يتحقق ارتباط الدول بقواعد القانون وخضوعها لها لابد من اجتماع أرادتها المتفرقة على قبول الارتباط والتقيد بها. ولهذا سميت هذه النظرية بنظرية الإرادة الجماعية أو الإرادة المشتركة. وهذه الإرادة المشتركة هي التي تعلو في السلطة على الإرادات المنفردة التي تساهم في تكوينها.
وعليه فأن اتحاد إرادة الدول هذا. هو الأساس الذي تستمد منه قواعد القانون الدولي العام قوتها الإلزامية.
إلاا أن هذه النظرية لم تنج هي الأخرى من سهام النقد، فإذا كان مبدأ الالتزام بالقانون مبنياً على الإرادة المشتركة. فما الذي يمنع الدول التي ساهمت في تكوين هذه الإرادة على عدم احترامها وعدم التقيد بها متى أرادت؟ يرد (تربيل) على ذلك بأن شعور الدول بارتباطها بهذه الإرادة الجماعية هو الذي يفرض عليها الالتزام بها.
ولكن تبقى معرفة إلى أي أساس يستند شعور الارتباط هذا؟ الأمر الذي لا تزال هذه النظرية عاجزة عن بيانه. أضف إلى ذلك إن فكرة الإرادة الجماعية أو المشتركة لا يمكن أن تفسر التزام الدول التي انضمت حديثاً إلى الجماعة الدولية بقواعد القانون الدولي الناشئة عن هذه الإرادة التي لم تسهم في وجودها.
ب- المذهب الموضوعي
يبحث أنصار هذا المذهب عن أساس القانون خارج دائرة الإرادة الإنسانية، إذ إن أساس القانون – وفقاً لهذا المذهب – تعينه عوامل خارجة عن الإرادة.
- المدرسة النمساوية (النظرية المجردة للقانون):
قال بهذه النظرية الفقيهان النمساويان (كلسن و فردروس)، وهي تقوم على اعتبار كل تنظيم قانوني يستند إلى هرم من القواعد أساس صحة كل قاعدة منها يرجع إلى وجود القاعدة القانونية التي تعلوها في هذا الهرم القانوني وتستمد منها قوتها الملزمة. فحكم القاضي الوطني مثلاً يستند إلى قاعدة من قواعد القانون المدني، وهذه القاعدة تستند إلى دستور الدولة. وهذا الدستور يستند بدوره إلى القانون الدولي. وهكذا تتدرج قواعد القانون حتى تصل إلى قاعدة أساسية افتراضية تسود جميع القواعد الأخرى وتكسبها قوتها الإلزامية. وهذه القاعدة الأساسية في رأي أصحاب هذه النظرية هي قاعدة قدسية الاتفاق والوفاء بالعهد. ويؤخذ على هذه النظرية إنها تقوم على مجرد افتراض غير قابل للإثبات، وفضلاً عن ذلك فإن أصحاب هذه النظرية لم يبينوا المصدر الذي تستمدّ منه القاعدة الأساسية وجودها وقوتها الإلزامية.
- المدرسة الفرنسية:
ويمكن إجمال هذه النظرية بما يأتي:
أنكر ديكي على الدولة صفة السيادة وصفة الإرادة الخلاقة لقواعد القانون وفكرة الشخصية المعنوية. كما ان الدولة بالنسبة له ليست سوى مجموعة من الأفراد الطبيعيين. أما القانون فأنه ليس من أرادة الدولة لأن وجوده سابق على وجود الدولة وأعلى منها. أنه ليس إلا القانون الموضوعي المعبر عن ضرورات التضامن الاجتماعي وأساس القوة الملزمة للقانون عند ديكي هو ضرورات التضامن الاجتماعي أي شعور الأفراد الذين تتألف منهم مختلف الجماعات بالتضامن الذي يربط بين أفراد كل جماعة وكذلك أفراد الجماعات المختلفة.
أما الأستاذ (جورج سل)، فيذهب إلى القول بأن القانون ليس إلا حدث اجتماعي قائم على ضرورات الحياة في المجتمع. أي تلك القيود التي تفرض نفسها على الأفراد بحكم قيام علاقات بينهم لعيشهم في مجتمع واحد هي التي تولد التضامن بين أفراده، إن هذه القيود التي تكون الحدث الاجتماعي تخلق شعوراً عاماً يجعل منها الأساس الذي يقوم عليها تنظيم المجتمع. وهذه القيود تتحول إلى قواعد قانونية متى ذاع الشعور بوجودها. وهي تكتسب وصف الإلزام من ضرورة خضوع أفراد مجتمع معين لها للمحافظة على وجود هذا المجتمع ونموه. فأساس القانون أذن هو الحدث الاجتماعي ليس إلا.
ولكن يؤخذ على هذه النظرية إن الأساس الذي تقدمه للقانون غامض وناقص إذ لا يمكن أن يكون أساس القانون في الحدث الاجتماعي وضرورة المحافظة على حياة الجماعة وبقائها، لان الجماعة الإنسانية سبقت القانون في الوجود. لذا قد تصلح نظرية (جورج سل)، لتبرير وجود القانون، لكنها لا تصلح لتفسير أساسه الملزم.
الخلاصة
تلك هي أهم النظريات والمذاهب التي حاولت إيجاد أساس القانون الدولي العام. وقد رأينا أنها جميعاً لم تنتج من سهام النقد، الأمر الذي جعل بعض الفقهاء يذهبون إلى أن البحث عن الأساس الذي يقوم عليه القانون أمر خارج عن نطاق القانون.
غير أن ما لا يمكن إنكاره هو أننا ما نزال في مرحلة من العلاقات الدولية تلعب فيها سيادة الدول دوراً هاماً، ولعل من أولى مستتبعات ذلك أن الدول إنما تلتزم برضاها. صحيح أن القانون الدولي كأي قانون آخر هو وليد الحاجة الاجتماعية، ولكن هذه الحاجة التي هي دافع لإيجاد مبادئ سلوك معينة إنما تحتاج لرضا الدول حتى تتحول المبادئ إلى قواعد قانونية ملزمة.
وعليه فأن أساس القانون الدولي في المرحلة الحاضرة، هو رضا الدول الصريح أو الضمني بالخضوع لأحكامه. ولنا من القضاء الدولي دليل على ذلك، فقد جاء في الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية الدائمة في 17/ أيلول/ 1927. في قضية اللوتس، إن القانون الدولي ينضم العلاقات بين الدول المستقلة، وأن قواعد القانون التي تربط الدول أساسها إرادة هذه الدول، تلك الإرادة الحرة المثبتة في الاتفاقات الدولية أو في العرف المجمع عليه الذي يقرر مبادئ قانونية، الغرض منها حكم علاقات الجماعات المستقلة المتعايشة، بقصد التوصل إلى تحقيق غايات مشتركة.
ثانياً: العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي
يسود الفقه الدولي في شأن تحديد العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، نظريتان مختلفتان، تقوم إحداهما على فكرة ازدواج القانونين التي تنكر أية صلة بين القانونين الدولي والداخلي، واستندت الأخرى إلى فكرة وحدة القانون التي تعترف بوجود صلة وثيقة بين القانونين وتوجب تغليب قواعد إحداهما على قواعد الآخر عند التعارض.
نظرية ازدواج القانونين
دافع عن هذه النظرية أنصار المدرسة الوضعية الإرادية ولا سيما الفقيهان الألمانيان (تربيل و شتروب) والفقيهة الإيطالي (انزلوتي).
ويذهب أنصار هذه النظرية إلى اعتبار القانون الدولي والقانون الداخلي نظامين قانونيين متساوين مستقلين ومنفصلين كل منهما عن الآخر، ولا تداخل بينهما. وذلك للأسباب الآتية:
- اختلاف مصادر القانون الداخلي عن مصادر القانون الدولي: فالقانون الداخلي يصدر عن الإرادة المنفردة للدولة، بينما يصدر القانون الدولي عن الإرادة المشتركة لعدة دول. ولما كان لكل من القانونين مصادره الخاصة به بحيث إن هذه المصادر تختلف في طبيعتها، فقد أنعدمت أية صلة بين القانونين واصبح كل واحد منهما مستقلاً عن الآخر.
- اختلاف أشخاص القانون الداخلي عن أشخاص القانون الدولي: فبينما تخاطب قواعد القانون الداخلي الأفراد في علاقاتهم المتبادلة، أو في علاقاتهم مع الدولة، تخاطب قواعد القانون الدولي الدول فقط، واختلاف طبيعة أشخاص كل من القانونين يعدم الصلة بينهما ويجعل كل واحد منهما مستقلاً عن الآخر.
- اختلاف موضوع القانونين: فالقانون الداخلي ينظم علاقات الأفراد داخل الدولة بعضهم ببعض، بينما يقوم القانون الدولي العام بتنظيم العلاقات بين الدول المستقلة في وقت السلم وفي وقت الحرب.
- اختلاف طبيعة البناء القانوني لكل منهما: إذ يشمل البناء القانوني الداخلي على عدة هيئات تقوم بفرض احترام القانون كالمحاكم والسلطات التنفيذية، أما القانون الدولي العام فلا نشاهد له مثل هذه الهيئات فأن وجد بعضها فأنه لا يعدو أن يكون بدائياً.
نتائج النظرية
ويترتب على الأخذ بنظرية ازدواج القانونين النتائج الآتية:
- يستقل كل من القانونين بقواعده من حيث الموضوع ومن حيث الشكل. ومن حيث الموضوع، فالدولة تنشئ القانون الدولي باتفاقها مع غيرها من الدول، وتنشئ القانون الداخلي بإرادتها المنفردة، وعلى كل دولة أن تراعي عند ممارستها لعملية إنشاء القانون الداخلي احترام ما التزمت به دولياً، فأن لم تفعل ذلك، كأن تقوم بإصدار قانون يخالف التزاماتها الدولية فلا يترتب على ذلك بطلان القانون، بل ينفذ القانون داخل الدولة، وتتحمل الدولة تبعية المسؤولية الدولية لمخالفتها ما التزمت به دولياً. أما من حيث الشكل: فالقواعد القانونية الدولية لا يمكن أن تكتسب وصف الألزام في دائرة القانون الداخلي إلا إذا تحولت إلى قواعد قانونية داخلية، وفقاً لإجراءات المتبعة في إصدار القوانين الداخلية، كذلك لا يمكن أن تكتسب القوانين الداخلية قوة الإلزام الدولي إلا إذا تحولت إلى قواعد دولية، وفقاً للإجراءات المتبعة في إصدار القواعد القانونية الدولية.
- عدم اختصاص المحاكم الوطنية بتطبيق القانون الدولي، تقوم المحاكم الوطنية بتطبيق وتفسير القانون الداخلي فقط، وهي لا تملك تطبيق القانون الدولي أو تفسيره إلا إذا تحولت إلى قوانين داخلية.
- أنّه لا يمكن قيام تنازع أو تعارض بين القانونين لاختلاف نطاق تطبيق كل منهما، وذلك لأن التنازع بين القوانين لا يمكن حصوله إلا بين قانونين يشتركان في نطاق تطبيق واحد. فاذا أختلف نطاق تطبيق كل منهما عن نطاق تطبيق الآخر، امتنع وجود التنازع، وحيث أن نطاق تطبيق القانون الدولي مختلف عن نطاق تطبيق القانون الداخلي فلا يتصور – طبقاً لنظرية ازدواج القانونين – وجود تنازع بين الاثنين غير أن هذا لا يعني فقدان كل علاقة بين القانونين بل أن العلاقة قد تنشأ بينهما بالإحالة (renvoi) أو بالاستقبال (reception).
فقد يحيل أحد القانونين على الآخر لحل مسألة معينة وفقاً لقواعد القانون المحال عليه، على اعتبار أن تلك المسألة تدخل في دائرة سلطان هذا القانون وحده ويجب أن تعالج وفقاً لأحكامه وهو داخل نطاقه الخاص. ومن أمثل ذلك إحالة القانون الدولي العام على القانون الداخلي. كأن ينظم القانون الدولي العام الملاحة الأجنبية في مياه الدول الإقليمية دون أن يحدد ما يعد أجنبياً من المراكب وما يعد وطنياً منها، فهو بذلك يحيل على قانون الدولة تعيين ما يعد من المراكب تابعاً لها وما يعد أجنبياً عنها. أو قد يحدد القانون الدولي حقوق الأجانب دون تعينهم فهو يحيل على القانون الداخلي تعيين من يعد وطنياً ومن يعد أجنبياً.
وقد يحيل القانون الداخلي على القانون الدولي كأن يعفي القانون الداخلي الممثلين الدبلوماسيين من الضرائب أو من الخضوع للقوانين الداخلية ويحيل على القانون الدولي بيان من يصدق عليه وصف الممثل الدبلوماسي.وقد تستقبل قواعد القانون الداخل قواعد القانون الدولي وتدمجها فيها بنص صريح،فتكون عندئذ جزءاً منها، كنص المادة الرابعة من دستور (فايمر) الألماني الصادر عام 1919، الذي يقرر أن قواعد القانون الدولي المعترف بها بصفة عامة تعتبر جزءاً متمماً لقوانين الدولة الألمانية تلك المادة (6) من دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي يقضي بأن الدستور وجميع المعاهدات التي أبرمتها أو تبرمها الولايات المتحدة تعد القانون الأعلى للدولة.
تقدير نظرية ازدواج القانونين
انتقدت نظرية ازدواج القانونين وخاصة من قبل أنصار وحدة القانون، وأهم الانتقادات التي واجهتها هي الآتية:
- إنّ الحجة المستمدة من الاختلاف في المصادر بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي تخلط، على حد قول (جورج سيل): (بين أصل القاعدة القانونية وبين عوامل التعبير عنها). أضف إلى ذلك أن القانون سواء أكان دولياً عاماً أم قانوناً داخلياً فليس من خلق الدولة وانما هو من نتاج الحياة الاجتماعية، وكل ما يوجد من فرق بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي، هو في طريقة التعبير عن القانون. (كالمعاهدات في القانون الدولي والتشريع في القانون الداخلي). والاختلاف في طريقة التعبير لا يؤدي إلى الفصل بينهما نهائياً.
- إنّ الحجة المستمدة من الاختلاف بين القانونين من حيث الأشخاص يرد عليها أكثر من مأخذ. فمن ناحية نجد في نطاق كل قانون قواعد قانونية تخاطب أشخاصا مختلفين. وخير مثل على ذلك انقسام القانون الداخلي إلى عام وخاص، حيث تخاطب قواعد الدولة وأشخاص القانون العام الأخرى، كما تخاطب الأفراد وغيرهم من أشخاص القانون الخاص. يضاف إلى ذلك انه قد يتطابق من الناحية الفنية أشخاص القانون في النظامين الدولي والداخلي، فالدولة وهي الشخص القانوني المباشر في النظام القانون الدولي – وفقاً لمذهب ازدواج القانونين – ليس لها وجود بدون الأفراد، الحاكمين والمحكومين، الذين يتألف منهم عنصر السكان المكون للدولة، ومن ثم كان الحاكمون المخاطبين الحقيقيين بقواعد القانون في النظامين الداخلي والدولي.
- أما الحجة المستمدة من اختلاف طبيعة تركيب كل من النظامين الداخلي والدولي، فيلاحظ انه لا يوجد بينهما اختلاف جذري يتعلق بطبيعة كل منهما، وانما اختلاف شكلي يتعلق بدرجة تنظيم كل منهما، ويعود سبب هذا الاختلاف إلى التفاوت فيما بين الجماعة الدولية والجماعة الوطنية من حيث مدى الاندماج في الوسط الاجتماعي. وان هذا الحجة فقدت في الوقت الحاضر الشيء الكثير من قيمتها خاصة بعد إنشاء محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن فلم تعد الجماعة الدولية الآن مجردة على الإطلاق من هيئات قضائية وتنفيذية دائمة.
نظرية وحدة القانون
على نقيض النظرية السابقة، فإنّ هذه النظرية تجعل من قواعد القانون الدولي العام وقواعد القانون الداخلي كتلة قانونية واحدة، أي نظاما قانونيا واحداً لا ينفصل عن بعضه. وتقوم هذه النظرية على فكرة التدرج القانوني الذي يقضي بضرورة خضوع القاعدة القانونية الأدنى مرتبة في السلم القانوني إلى القاعدة التي تعلوها وتستمد قوتها منها، إلى أن ينتهي التدرج عند القاعدة الأساسية العامة التي تعد أساس القانون كله ودليل الوحدة القائمة بين فروعه.
على أنّ أنصار هذه النظرية قد اختلفوا في تحديد القانون الذي تكمن فيها القاعدة الأساسية العامة التي تسود جميع القواعد الأخرى وتكسبها قوتها الإلزامية. فذهب فريق من الفقهاء يتزعمه (كوفمان وفيرانديير) والفقيه السوفيتي (Kotliarevky)، إلى القول بأن القاعدة الأساسية العامة التي تعد أساساً للقانون مثبتة في القانون الداخلي وفي دستور الدولة بالذات، وذلك لأن الدولة هي التي تحدد بإرادتها التزاماتها الدولية حيث لا توجد سلطة عليها فوق الدول تحدد هذه الالتزامات، وأن دستور الدولة هو الذي يحدد السلطات المختصة في إبرام المعاهدات باسم الدولة وعلى ذلك فأن القانون الدولي العام يتفرع عن القانون الداخلي.
وقد أطلق على هذا الرأي أسم نظرية وحدة القانون مع علوية القانون الداخلي ويؤخذ على هذا الرأي أنه إذا استطاع أن يفسر الأساس الملزم للمعاهدات باعتبارها تستند في قوتها الملزمة هذه إلى دستور الدولة، فانه عاجز عن تفسير التزام الدولة بغير ذلك من القواعد القانونية الدولية وخاصة العرفية منها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فلو صح إن الالتزامات الدولية تستند إلى دستور الدولة لبقي نفادها خاضعاً لنفاذ الدستور بحيث يؤدي كل تعديل أو إلغاء للدستور إلى تعديل أو إلغاء لهذه الالتزامات. وهذا بخلاف ما عليه واقع العمل الدولي.
لهذه الأسباب ذهب فريق أخر من الفقهاء وعلى رأسهم (كونز) و(كلسن) و(زفردروس) و(ديكي) و(بوليتس). إلى القول بأن هذه القاعدة الأساسية العامة مثبتة في القانون الدولي العام، هذا يعني أن القانون الدولي العام يسمو على كافة نظم القانون. ذلك لأن تدرج وسمو القوانين بعضها على بعض، على ما يقرر دعاة هذا الرأي يكون بحسب أتساع نطاق تطبيقها. فنظام الأسرة يجب أن يخضع لنظام القرية وهذا يجب أن يخضع بدوره لنظام المدينة وهذا الأخير يجب أن يخضع لنظام المحافظة وهذه الهيئات على اختلافها يجب أن تخضع لقوانين الدولة باعتبارها الهيئة التي تمثل وتوحد مصالح هذه الهيئات كافة. وحيث أن القانون الدولي العام هو المنظم الوحيد للجماعة الدولية فأنها أسمى القوانين مرتبة وسلطانا.
وبناء على ذلك فأن أنصار هذا الرأي يرون أن للقانون الدولي العام نفوذاً مباشراً في قوانين الدولة الداخلية دون حاجة للنص فيها على ذلك، وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حيث قال بإمكان نسخ القانون الدولي العام لما يتعارض معه من الأحكام في القوانين الداخلية بحكم سيادته على هذه القوانين. وقد أطلق على هذا الرأي اسم نظرية وحدة القانون مع علوية القانون الدولي.
ويؤخذ على هذا الرأي قوله بأن القانون الدولي العام بحكم سيادته على القوانين الداخلية ملزم للسلطات والأفراد الذين يخضعون لهذه القوانين دون حاجة للنص فيها على ذلك وقوله إن القانون الدولي ينسخ ما يعارضه من قوانين داخلية. ولاشك إن التسليم بهذا الرأي على هذا الوجه ينطوي على مجافاة كبيرة للواقع في المجالين الدستوري والدولي، ذلك لأن الدول إذا كانت قد سلمت بسيادة القانون الدولي العام على قوانينها وأقاليمها، فأنها لم تقبل مع هذا تطبيقه المباشر على سلطاتها ورعاياها، بل علقت ذلك على إقراره في دساتيرها وقوانينها بمقتضى ما يعرف بنظام الدمج، فأن القانون الدولي العام يحيل على القوانين الداخلية كلما يتعلق بتنظيم السبل والوسائل اللازمة لضمان تطبيق وتنفيذ ما يقرره من قواعد وأحكام.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فأن هذا الرأي لا ينسجم مع المنطق التاريخي لأنه أنتهي إلى القول بأن القانون الداخلي يتفرع عن القانون الدولي. وهذا غير صحيح وذلك لأن القانون الداخلي أسبق في الوجود من القانون الدولي، حيث أن الدولة وجدت قبل وجود القانون الدولي بل أن وجود الدول هو الذي أدى إلى نشوء الجماعة الدولية، وهو أمر أدى إلى ضرورة تنظيم العلاقات بين الدول.