الصيام في الأديان
يظهر من البحث في تاريخ الأديان أن الصوم من أقدم العبادات الإنسانية وأكثرها انتشاراً. فلم يكد يخلو منه دين من الأديان التي أخذت بها المجتمعات ولم تتجرد منه شعائر شعب من شعوب العالم قديمة وحديثه جاء في ملل الطوطميين والمجوس والوثنيين والصابئين والمانوية والبرهميين والبوذيين وعبدة الكواكب والنبات والحيوان، كما جاء في شرائع اليهود والنصارى والمسلمين.
وقد اختلفت أشكاله باختلاف الأمم والشرائع، وتعددت أنواعه بتعدد الظروف المحيطة به والأسباب الداعية إليه.
فمنه ما يكون بالكف عن الأكل والشرب والاتصال الجنسي والعمل والكلام ومنه ما يكون بالكف عن واحد من هذه الأمور أوعن بعضها. ولعل الكف عن الكلام هو أغرب أنواع الصيام. ومع ذلك فهو منتشر لدى كثير من الشعوب البدائية وغيرها. فعند السكان الأصليين لاستراليا مثلا كان يجب على كل امرأة توفى عنها زوجها أن تظل مدة طويلة تبلغ أحياناً عاما كاملا صائمة عن الكلام. وبظهر
أن شيئاً من هذا كان متبعاً في ديانة اليهود. قبل ظهور المسيح، بدليل قوله تعالى لمريم: ((فإما تَرِينَ من البشر أحداً فقولى إنى نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا)).
وقوام الصيام، كما يظهر من ملاحظة الأشياء التي يقتضى الكف عنها، هو حرمان الجسم والنفس من بعض حاجاتهما الضرورية المحببة.
والإمساك عن الأكل والشرب في الصيام يقع على وجوه كثيرة. فمنه المطلق الذي يشمل جميع المأكولات والمشروبات كصيام المسلمين. ومنه المقيد الذي يتحقق بالكف عن بعض أنواع المأكولات والمشروبات كبعض أنواع الصيام عندالصابئين والمانوية والمسيحيين.
ومن أنواع الصيام ما يقتضى الإمساك عن هذه الأمور اليوم كله نهاره وليله ومنه مالا يقتضى الإمساك إلا نهاراً أو شطرا من النهار. ومنه ما يبدأ بغروب الشمس ويستغرق اليل كله أو شطراً منه.
ومن أنواع الصيام ما يكون متتابعاً يجرى في أيام متتاليه. ومنه ما يجرى في مدة معينة ولكن في أيام غيرمتتالية، كأن يصام يوم ويفطر يوم في شهر من شهور السنة أو فصل من فصولها. وقد يجرى ذلك مدى العمر، فعند عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم): أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما. ومنه ما يكون مقصورا على يوم واحد أو ليلة واحدة أو جزء من يوم أو ليلة.
وأما المناسبات التي تقتضي الصوم على وجه الوجوبات أو الندب في مختلف الديانات الإنسانية فهي كثيرة متنوعة. ولكن أهم هذه المناسبات هو حلول مواقيت دورية كحلول فصل من فصول السنة أو شهر من شهورها أو يوم من أيام الأسبوع أو وصول كوكب إلى منزلة خاصة من منازله. وكثيرا ما يكون الميقات تاريخا لحدث اجتماعى خطير وقع فيه، فيتجه الصيام أولا وبالذات إلى ذكرى هذا الحدث أو إلى أمور تتصل به، كشهر الصيام مثلا عندالمسلمين فإنه تاريخ لنزول الكتاب الكريم، وكاليوم السابع عشر من الشهر الرابع العبرى عنداليهود، وهو أحد أيام صيامهم. فإنه تاريخ لسقوط عاصمة ملكهم القديم.
ومن أشهر الديانات السابقة للإسلام التي وجهت عناية كبيرة إلى هذا النوع من الصيام. وهو الصيام المرتبط بمواقيت دورية، وكثرت فيها مناسباته، ديانات الصابئين والمانوية والبوذيين والبرهميين واليهود.
فقد ذكر ابن النديم في كتابه ((الفهرست))(1) أن ديانة الصابئين، وهي ديانة قائمة على تقديس الكواكب، ((تفترض عليهم من الصيام ثلاثين يوما أولها لثمان مضين من اجتماع آذار (وهو شهر مارس)، وتسعة أخر أولها لتسع بقين من اجتماع كانون الأوّل (وهو شهر ديسمبر)، وسبعة أيام أخر أولها لثمان مضين من شباط (وهو شهر فبراير). وصيام السبعة هو أعظم أنواع الصيام لديهم. وأعيادهم: عيد يسمى عيد فطر السبعة (وهو يعقب صيام سبعة الأيام); وعيد يسمى عيد فطر الشهر أو عيد فطر الثلاثين (وهو يعقب صيام الثلاثين يوما))).
ويظهر مما ذكره في هذا الصدد أن صيام الثلاثين لديهم كان إمساكا مطلقا عن جميع أنواع الطعام والشراب من طلوع الشمس إلى غروبها; وكذلك كان صيام تسعة الأيام; على حين أن صيام السبعة كان مقيدا، فكانوا ((لا يأكلون في هذه الأيام شيئا من الزفر ولا يشربون الخمر))(2).
وذكر في أثناء كلامه عن أشهرهم أنهم ((كانوا يقدمون بصيام الثلاثين تكريما
(1) إنظر التاسع من كتاب ((الفهرست)) لابن النديم.
(2) الزفر كلمة علمية معناها لحم الحيوان وما يستخرج منه.
للقمر، وبصيام تسعة الأيام تكريما لرب البخت(1)، وبصيام سبعة الأيام تكريما للشمس، وهي الرب العظيم ورب الخير)). ولهذا كان صيام السبعة أهم أنواع صيامهم. فجميع أنواع صيامهم إذن كانت تكريما للكواكب ومظهرا من مظاهر عبادة الأفلاك السماوية.
وذكر المؤلف نفسه في أثناء كلامه على الثنوية الكلدانيين أو المأنوية (ودياناتهم مزيج من البابليه القديمة والمسيحية والفارسية، وفيها مظاهر كثيرة لتقديس الكواكب وهم ينسبون إلى زعيمهم مانى بن فُتّق) ما يستفاد منه أنه كان لهم صوم أسبوعى وصوم شهري وصوم سنوى. فكانوا يصومون الأحد والأثنين من كل أسبوع، واليومين الأوّلين وسبعة أيام أخرى من كل شهر قمرى، وأربعة وثلاثين يوماً سنوياً. منها يومان متتابعان عند نزول الشمس القوس، ويومان متتابعان عند نزولها منزلة الجدي، وثلاثون يوماً متتابعة عند نزولها منزلة الدلو.
ويستفاد مما ذكره هذا المؤلف وما حققه بعض الثقات من علماء الغرب في هذا الصدد أن جميع أنواع الصيام عند المانوية، سواء في ذلك صيامهم الأسبوعي وصيامهم الشهري وصيامهم السنوى، كانت قائمة على الإعتبارات نفسها التي كان يقوم عليها الصيام عند الصابئين، أي على تكريم الكواكب وعبادة الأفلاك السماوية، وخاصة الشمس والقمر اللذين كانوا يعتبرونها كبيرى آلهتهم.
وتقدم لنا كذلك الديانات الهندية، وخاصة البرهمية والبوذية، أمثلة كثيرة للصيام ذي المواقيت الدورية المتصل بظواهر الفلك وخاصة ظواهر الشمس
(1) هو ((زيوس) أو ((جويتر)) أو كوكب المشتري، على ما ظهر من سياق كلامه وما ذكره في موطن آخر عن صفات هذا الكوكب.
والقمر. فقد فرضت شريعة البرهمين الهندية على طبقة الكهنة (التي يطلق على أفرادها إسم البراهمة) الصيام يومى الاعتدالين، وهما أوّل فصلى الخريف والربيع، ويومى الانقلابين، وهما أوّل فصلى الشتاء والصيف، واليومين الأول والرابع عشر من كل شهر قمري، اى فى مبدأ ظهور والهلال وعندما يصير بدارً. وتوجب شرائع مانو (وهي التي يتألف هنها أهم قسم من شرائع الديانة البرهمية) على طبقة السناتا Sanatakas، وهم كبار الكهنة من البرهمين، أن يكفوا عن الأكل والشرب والنوم والسفر من غروب الشمس الأحمر كل يوم.
وقد فرضت ديانة البوذيين الصيام من شروق الشمس إلى غروبها في أربع ايام من أيام الشهر القمرى يسمونها أيام ((اليوبوذانا Upisata))، وهي اليوم الأوّل والتاسع والخامس عشر والثاني والعشرين، أي في مبدأ كل منزلة من منازل القمر الأربع، كما أوجبت فيها الراحة التامة، وحرمت مزاولة
أي عمل حتى إعداد طعام الإفطار. ولذلك يعمل الصائمون على إعداد طعام إفطارهم قبل شروق الشمس من كل يوم من هذه الأيام الأربعة.
وفي الديانة اليهودية أمثلة كثيرة لهذا النوع من الصيام وهو المرتبط بظواهر فلكية وبمواقيت دورية تتكرر كل أسبوع أو كل شهر أو كل عام. فمن ذلك صيام اليوم العاشر من الشهر السابع العبرى (يوم ((كبور)) أو يوم الكفارة).
وقد كتب هذا الصوم على اليهود للاستغفار وطلب العفو عن الخطايا بنصوص صريحة في التوراة نفسها(1).
(1) أنظر سفر العلاوبين فقرة 29. وتوابعها من الإصحاح السادس عشرة و 27 وتوابعها من الإصحاح الثالث والعشرين. وأنظر كذلك سفر العدد: فقرة 7 من الإصحاح التاسع والعشرين.
وكان لديهم كذلك أنواع أخرى من الصيام واجبة أو مستحبة تقع في مواقيت دورية كانوا يقومون بها تخليدا لذكرى وفاة أبنيائهم أو عظمائهم.
ويفهم مما ورد في سفر زكريا أنهم بعد الجلاء إلى بابل كانوا يصومون أياما أخرى كثيرة دورية لذكرى حوادث هامة في تاريخهم، وأنهم كانوا يسمعون كلا منها برقم الشهر العبرى الذي وقعت فيه الحادثة فمن ذلك ((الصوم الرابع)) الذي كان يقع في السابع عشر من الشهر الرابع العربي (تموز، يولية) لذكرى سقوط أورشليم، و((الصوم الخامس)) الذي كان يقع في التاريخ عشر من الشهر الخامس (آب، أغسطس) لذكرى خراب أورشليم والهيكل، ((والصوم السادس)) وهو صوم إستير الذي كان يقع في الثالث عشر من الشهر السادس (آذار، مارس) لذكرى حادثة هامان وأستير(1)، و((الصوم السابع)) في الثالث من الشهر السابع (تشرى، سبتمبر) لذكرى قتل جداليا آخر رئيس على اليهود بعد السبى، والصوم العاشر)) الذي كان يقع في العاشر من الشهر العاشر (طيبت، كانون الثاني، يناير) لذكرى حصار أوشليم.
(1) تذكر أسفارهم هامان هذا كان وزيرا لأحد ملوك فارس، وإنه دبر كيدا لإهلاك اليهود، فاكتشفت هذا الكيد إستير زوجة الملك (وكانت من أصل يهودى) وأبطته، وانتهي الأمر بقتل هامان (أنظر القصة كاملة في سفر إستير، وهو سفر صغير يشتمل على عشرة إصحاحات قصيرة) وهامان هذا غير هامان وزير فرعون الذي ورد ذكره في القرآن في آية 38 من سورة القصص وفي آيتي 36، 37 من سورة غافر.