التطوّر وصدمة الواقع – بقلم الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه
التطوّر سنة الحياة منذ العصور الحجرية حتى عصرنا الحاضر. هذا التطوّر واضحٌ في الوسائل المادية والعلوم النظرية والطبيعية فعجلة الاختراعات لا تتوقف بل تتسارع يومًا بعد آخر.
فماذا جنت البشرية من هذا التطوّر؟
قد يقول البعض، أنّ التطوّر سخّر لنا خيرات الطبيعة وأسباب الحياة الكريمة ورفاهية العيش والتغلب على الأمراض والفقر والجهل. وهذا لا يختلف عليه اثنان، لكنّ الملاحظ أنّ هذا التطوّر لم يخدم البشرية بالتساوي فما زالت أدغال الغابات في بعض البلدان تعجّ بالمآسي والأمراض، بل إنّ البعض إستخدم هذا التطوّر لسحق الآخرين واستعبادهم كما فعل الغرب حين سيطر على الدول الفقيرة واستعمرها.
فما حقيقة الدوافع وراء هذا التطوّر المذهل، وأين تكمن المشكلة؟
دوافع التطوّر
الحقيقة أنّ البعض يسخّر آلاف الخبراء والبلايين الطائلة من الأموال في البحث والتطوير، ليس دائمًا لسواد عيون البشرية، بل أحيانًا لسبق الآخرين والتغلب عليهم. فالتطوّر قد يكون لهدفٍ نبيلٍ وقد يكون لهدفٍ غير نبيل. فكثيرٌ من الاختراعات كان دافعه نبيلٌ وانساني، لكن سرعان ما تمّ حرفها الى تحقيق السيطرة والتفوق على الآخرين او جني الأرباح الطائلة منهم. أما بعض الاختراعات فهدفها غير نبيلٍ منذ البداية، فقد تم تطويرها لتحقيق السيطرة والقوة ومنها الانترنت والاساطيل والطائرات التي تم استخدامها في الحروب ثم وجدت طريقها بعد ذلك للأهداف المدنية.
لكن هناك مدرسة لبعض المفكرين ترى أنه لا يجوز أن نحاكم النوايا وراء التطوّر او نشكّك فيها؟ لأنّ هذا التشكيك حجة العاجزين القابعين في ظلمات التأخر. بل وتنادي هذه المدرسة بكلّ قوةٍ مجتمعات الدول المتأخرة أن تخلع أسباب التأخر (والتي تظن أنها قيود الدين والقيم والعادات)، حتى تتماهى وتعشق الأمم التي سبقت للعلم والمعرفة، فتقتصّ آثارهم وتسلك سبيلهم؟
هذا البعض ربما درس في البلدان الغربية فأعجبه نظامها وقوانينها وتطوّرها ومستوى المعيشة فيها، وربما وجدها بلد الأحلام التي يهاجر لها الفقراء فيصبحوا رؤساء شركات وأثرياء يشار لهم بالبنان. بل ربما أعتقد أنّها المدينة الفاضلة التي يحكمها القانون وتعمرها حرية الرأي وفرص الاستثمار وأسبقية العلوم والاختراعات، فأي مدينةٍ تضاهيها؟ لذا أشتغل في التبشير بقوانينها وقيمها وثقافتها وربما نادى بإعادة هندسة حياة مجتمعه بناءً عليها، معتقدًا أنّها السبيل الأفضل والأسرع للحاق بركب التقدم والحضارة.
صدمة الواقع
هؤلاء سرعان ما يصدمهم الواقع من عدة نواحي مهمة، فكثيرٌ من المجتمعات التي تبنت هذه المدرسة تراجعت اقتصاديًا، فها هي أسواقها أصبحت مرتعًا للشركات الكبرى، وها هو اقتصادها يئن تحت وطأة الديون، ومازالت تستورد تقنيتها من الخارج، فأي تطوّرٍ حققته هذه المدرسة. وأبسط مثالٍ على ذلك هو المكسيك.
أمّا المعضلةٍ الكبرى التي يصعب حلّها وفهمها على هذه المدرسة فهي الاستخدام المفرط للقوة وأسباب الغلبة من هذه المجتمعات المتطوّرة لفرض شروطها وبسط هيمنتها على المجتمعات الأخرى، في أبسط وأوضح مثالٍ على البشاعة والعنصرية والأنانية التي تفتقد أبسط معاني الإنسانية.
هذا الواقع المرّ يكشف بكلّ وضوحٍ واقع هؤلاء المجتمعات المتطورة فليست هي بلد الأحلام ولا القيم الفاضلة بل إنّ دافعها هو الغلبة والسيطرة على الآخرين.
إنّ التطوّر وأسباب القوة لدى هذه المجتمعات أصبح وبالًا على مجتمعات كثيرةٍ قضت أكثر من قرنٍ من الزمان تحت وطأة الاستعمار، بينما تعاني مجتمعاتٌ أخرى حتى عصرنا هذا من ازدواجية المعايير ومن وطأة القوة المفرطة التي تتسلح بالإعلام الكاذب والدعاية المزيفة.
لكن هل هذا هو قَدَر البشرية، وهل هذا أفضل ما تقدّمه الحضارة الإنسانية، أن ترزح المجتمعات الفقيرة تحت هيمنة المجتمعات المتطوّرة، وكيف السبيل الى تصحيح البوصلة الحضارية؟
الحضارات من القمة الى الهاوية
الكثير من المجتمعات عبر التاريخ عاشت هذا التنافس المحموم فسيطرت مجتمعاتٌ متطورةٌ قويةٌ على مجتمعاتٍ ضعيفةٍ متأخرة. فالحضارات التي عاشتها البشرية انتقلت من بلاد الرافدين الى مصر والهند والصين واليونان والرومان والبلاد الإسلامية ثم الغرب.
بعض هذه المجتمعات المتطورة والتي بلغت القمة في عصرها، بدلًا من أن تمسك بأيدي المجتمعات المتأخرة الى أسباب التطوّر وترتقي بها خدمةً للإنسانية، ربما تمادت عليها وسلبتها معيشتها، وحرمتها من أسباب التطوّر. هذا التمادي على المجتمعات الأخرى تسلّل تدريجيًا الى داخل المجتمعات المتطوّرة، فأصابها سرطان المجتمعات القاتل ألا وهو انحدار القيم وتفشي الرذيلة وانعدام الفضيلة، فتهاوت وضعفت قوتها، حتى تسلّط عليها من هو أقوى منها.
وليس المجتمع الغربي ببعيدٍ عن هذا المرض الاجتماعي الفتّاك، فهذه مظاهر الانهيار قد بدأت منذ قرنٍ من الزمان حين فتكت الحربين العالميتين بعشرات الملايين من البشر، وتنافست هذه المجتمعات على امتلاك أسلحة الدمار النووية، وتسلطت بعض المجتمعات العنصرية على وسائل الإعلام وصناعة الانفو ميديا وانتشرت رذيلة المثلية وعظمت ثروات المترفين على حساب الآخرين.
الحضارة الغربية: الى أين؟
البشرية تستحق حياةً سعيدةً يختفي فيها هذا التنافس المحموم على الغلبة والتسلط على الآخرين، فالطبيعة غنيةٌ بأسباب الخير والبركة والإنسان غنيٌ بأسباب الإبداع والتطوّر. فما أحوج المجتمعات الى المحبّة والتعاون حتى تحقّق قفزاتٍ مهمةٍ نحو الحفاظ على الطبيعة واستدامتها ومحاربة الفقر والجهل والمرض، وتسخير الطاقات لخدمة البشرية جمعاء.
ليس الخطر في التطوّر العلمي والتقني بل هو أفضل ابداعٍ بشري وهو أفضل سببٍ للتنمية الاقتصادية. إنّ الخطر الحقيقي يكمن في الخلفية الثقافية التي يتبناها مجتمع التطوّر الغربي.
فليس من المبالغة أن نقول: أنّ المجتمع الغربي المتطوّر ماديا وعلميًا في عصرنا الحاضر، قد يكون مع الأسف من أشدّ المجتمعات تخلفًا في تطبيق القيم الإنسانية النبيلة، خاصةً عندما يتعامل مع بعض المجتمعات الأخرى التي يراها متخلفةً حضاريًا.
قد يكون من المؤسف لدى البعض المغرم بالحضارة الغربية أن يراها تنحدر بسرعة نحو الهاوية بعد أن استلمت قيادة البشرية لأكثر من قرنين من الزمان، لكنّه الواقع المرّ الذي يعترف به الكثير من المفكرين الغربيين فقد تم اختطاف هذه الحضارة وهي تنهار بطريقةٍ جنونية.
في المقابل يرى آخرون أنّه ليس من المجدي تضييع الوقت في تصحيح بوصلة الحضارة الغربية، بل من الأفضل في رأيه أن تتهاوى بسرعة ويبرز البديل عنها، فيكفي ما قد جرّته على البشرية من ويلاتٍ ومصائب.
لكننا ونحن من دعاة الإنسانية، نعتقد بأنّ الحضارة ملك البشرية تتوارثه أمةٌ بعد أخرى، فلا يمكننا إلّا أن نصف الدواء عسى أن يبرأ هذا المرض الاجتماعي الفتاك. نعم، ربما فات الأوان أن تتماسك هذه الحضارة الغربية وقد تكون الى زوالٍ سريعٍ، لكنّ ما نرجوه أن يتسلّم دفة الحضارة مستقبلًا من يتحلّى بالقيم الإنسانية الفاضلة ويتجنب خطر الرذيلة والعنصرية. والحمد لله ربّ العالمين