تكوين الرقابة الذاتية عند الأبناء
الضمير الحي يمثل التربة الخصبة لتلقي المعارف والحكم والتوجيهات ومن ثم العمل على أرض الواقع وفق مبدأ المصلحة، فكما أن الإنسان منذ نعومة أظافره يتحرك وفق مبدأ المصلحة أي جلب المنفعة ودفع المضرة بحسب فهمه القاصر، فتراه يتجنب مصادر الخطر كالنار ويتحرك نحو مصادر تغذيته، فكذلك يتطور هذا المفهوم في حياة الإنسان بتعدد ميادينه وسبله، فمتى ما ترسخ عند الإنسان تلك القوة الكاشفة عن مصادر الخطر والضرر استطاع تجنبها بسهولة ودون تكبد الخسائر، ولذا فإن تنمية الضمير الحي والحذر عند الطفل منذ صغره يساعده على تكوين جانب القوة في شخصيته والقدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذ الخطوات ناظرًا إلى النتائج المترتبة عليها، فإذا تدرب واستمر في مواقفه وعلاقاته وكلماته على النظر فيها قبل أن يقدم عليها، فبالتأكيد سيتبلور بعدها منه جانب العفة والمصداقية ومقاربة الصواب.
وأما فكرة الرقابة من الوالدين وتتبع خطواته ليتدخلا في لحظات وقوعه في الخطأ ومن ثم توجيه اللوم له فهذه طريقة تجانب الصواب تمامًا؛ وذلك أن الوالدين لن يكونا معه في كل الأوقات وبالتالي فمتى ما غافلهما فإنه سيتصرف وفق طريقة تفكيره التي بالتأكيد لن ترضيهما وستكون بعيدة عن القيم والتوجيهات التربوية التي قدماها له، ولذا فإن الطريقة الصائبة هي تكوين الرقابة الذاتية وتنمية الوازع الرادع له عن مقاربة الخطأ والأفعال القبيحة، لا لأنه يخاف من علمهما بها بل لكونه يحمل بين حناياه وجوانبه ضميرًا يؤنبه إن ارتكب ما يخالف تلك القيم، ولذا فإن بعض الآباء والأمهات يقعون في هذا الخطأ التربوي وهو التجسس على أحوال أبنائهم من خلال هاتفهم النقال وغيره للتعرف على سلوكياتهم وتصرفاتهم، والصواب هو تعزيز الوازع الأخلاقي والإيماني عنده ليكون بوصلته في التعرف على الخطأ من الصواب.
ولا نتصور أن فكرة تنمية الضمير الذي يقدم النصح لصاحبه عندما يقف أمام مرآة النفس هو بالأمر السهل ولا تقف أمامه العقبات المعرقلة لسيره، فإن الأهواء والغرائز تحتاج إلى جهد كبير في كبح جماحها ومقاومة دعواتها إلى الانحدار الأخلاقي والتصرف بدون عقلانية، وهنا يأتي دور التثقيف والتربية الأسرية المساندة له في السير بشكل صحيح، والمتفهمة والمتقبلة لفكرة صدور الخطأ والتقصير منه والتعامل معها بحكمة وهدوء ليقلع عن ذلك السلوك السيء وغير المقبول.
المعايير السلوكية الاجتماعية يتلقى الأبناء التعليمات حولها على نطاق الأسرة والمدرسة، فيوجه إلى قاعدة الاحترام لنفسه من خلال تجنب الوقوع في العيوب والنقائص والأخطاء، كما أن التوجيه إلى الاعتذار عند وقوع الخطأ وتحمل المسؤولية الناجمة عنه يعزز مبدأ الثقة بالنفس عنده ويغرس عنده ويثبت القيم التي تلقاها ويؤمن بها ويحافظ عليها.
متابعة سلوكيات الأبناء لا تقتصر على التنبيه على الأخطاء والمساعدة في تقديم اقتراحات لمعالجتها، وإنما ينبغي تعزيز السلوكيات الإيجابية والمحبوبة من خلال الثناء والمدح لها، وتقديم الهدية المشجعة له والتي ترسخ تلك التصرفات حتى تغدو سلوكًا مستدامًا ومحكمًا عنده.
كما أن التعامل مع المشكلات يعد مهارة فكرية وسلوكية يتلقاها الأبناء ويتقنونها من والديهم، فهم يصادفون مشكلات على مستوى دراستهم أو العلاقة مع أصدقائهم أو من خلال ارتكاب خطأ لا يعرفون كيفية حله وتصحيحه، أو قد يضطرون للتعامل معها بالكذب والخداع أو الالتفاف على الحل المناسب، ولذا فإن أجواء المصارحة والشفافية مع الوالدين والحديث معهما يقوده نحو التحدث بذلك بكل بوضوح طالبًا المساندة لتجاوزها.
والمساندة الأسرية لتكوين الوازع الذاتي والضمير اليقظ عند الأبناء يتجلى على المستوى الاجتماعي في تقديم الأسس لاختيار الصديق المناسب، الذي ينسجم معه ويحقق معه ثنائيًا يساند كل منهما الآخر ويقدم له المساعدة والنصح، فقد يكون صديق السوء خارقًا تلك القيم التي تعلمها وتربى عليه فتحوله إلى شخص آخر يتصف بالعدوانية والأخلاق السيئة.
ومما ينمي اليقظة والرقابة عند الأبناء هو توجيههم نحو أهمية وقيمة الوقت، ومساعدتهم على اغتنام الوقت وتقسيمه بعيدًا عن التكاسل والتعاجز، فإن حياة الضياع واللا مبالاة بأهمية الوقت قد تضيع تلك الجهود الكبيرة للوالدين لتعزيز الرقابة الذاتية عند أبنائهم.