(حجتي عند اللقاء) – بقلم الدكتور عبدالجليل عبدالله الخليفه
من ربّك ومن نبيك؟
الإعتقاد هو أهم فكرة يعتنقها الفرد ، فهي إطارٌ فكري يحدد منهج حياة الإنسان في الدنيا ومصيره في الآخرة.
الاعتقاد ليس أمرًا هامشيًا يمكن تأخير التفكير فيه، إنّه أمرٌ مهمٌ يحتاج الى القطع فلا يجوز التردد او التقليد فيه. البعض قد يخاف من الخوض او التفكير في الاعتقاد نظرًا لخطورة الشك والحيرة والتردد الذي قد ينقل الفرد من واقعٍ الى آخر مختلفٍ تمامًا، لذا، سأطرح هنا بعض الأفكار راجيًا أن تساعد البعض على تأصيل أفكاره وأن تفتح له نافذةً الى اليقين.


لن اتبع البحوث الطويلة، بل سيكون النقاش سريعًا يسهل هضمه من الجميع. يطرح البعض أسئلةً كثيرةً منها:
ما الحاجة الى الخالق؟
هل الدين مجموعة أساطير خيالية تراكمت عبر التاريخ لتصبح عقيدة؟
كيف وصلنا الدين؟
ما هو أثر الدين على حياة الناس؟
دعنا نبدأ النقاش: لو فرضنا أنّ الخالق غير موجود، فكيف وُجِدَ الكون؟
نعلم ان الكون قد وُجِدَ قبل عمرٍ معين وهو بلايين السنين وليس أزليًا، فمن أين جاءت المادة التي صنعت الكون؟ ومن اوجد الحركة فيها وفجرها؟ ومن رتبها ونظمها في مجراتها وأفلاكها؟ ومن بعث الحياة فيها بعد بلايين السنين؟
قد يقول البعض ان الفيزياء تكتشف امورًا جديدةً كل يوم فمن الممكن ان نكتشف هذه الأسرار مستقبلًا؟
الفيزياء علمٌ موضوعه المادة وصفاتها ونظامها وتكوينها، وليس موضوع الفيزياء من اين وكيف جاءت المادة الى الطبيعة ولا من خلقها. لذا، لا نتوقع من الفيزياء ان تكتشف ماوراء المادة. نعم، الفيزياء قد تكتشف في المستقبل أسرار ظواهر عديدة مثل الثقوب السوداء والفراغ الهائل في الكون وغير ذلك.

قد يقول البعض: لا نستطيع اثبات ان الخالق غير موجود، لكن هل يمكن اثبات وجود الخالق؟
العقل البشري مجهزٌ بأدواتٍ وقواعد بديهية يستخدمها في عملية التفكير والاستنتاج، وبهذه الأدوات يثبت العقل أمورًا كثيرةً يراها ضروريةً لشرح ظواهر أخرى.
فمثلًا حين ترى جهازًا رائعًا في السوق، يستنتج عقلك جزمًا ان هناك مصنعًا يوظف مهندسين متميزين قد صنع هذا الجهاز، ولن يتوهم عقلك بتاتًا ان هذا الجهاز قد وُجِدَ صدفةً من غير صانع.
ولو اخبرك أحدٌ ان هذه الشركة الرائعة تعمل دون تخطيطٍ ولا إدارةٍ فإنّ عقلك سينكر ذلك. لأنّ العقل يعتقد أن التخطيط والإدارة ضروريان لعمل الشركة.
ولو قال شخصٌ أنّ هذا المصنع المتميز ومهندسيه المتميزين يصنعون هذه الاجهزة الرائعة، لكنّ هدفهم من صناعة هذه الاجهزة هو تحطيمها دون الاستفادة منها، فإنّ عقلك لن يصدّق ذلك، لأنّ العقل يحكم بأنّ كل عملٍ لابدّ له من غايةٍ وهدف، فالمصنع يبيع الاجهزة ربما ليصنع ثروةً منها او لهدفٍ آخر.
لو نظرنا الى هذا الكون والمجرات والحياة فيه كأجهزةٍ رائعةٍ، فماذا يحكم العقل؟
هل يحكم العقل بأنّ الكون قد وُجِدَ صدفةً ومن لا شيء وبلا تخطيطٍ ولا تدبير؟ او يحكم بأن هذا الكون قد خلقه صانعٌ مبدعٌ وبتخطيطٍ وتدبيرٍ ليحقق منها غايةً حكيمة؟ الجواب واضحٌ، فالعقل سيحكم بوجود خالقٍ حكيمٍ لهذا الكون.

لوحة فنية للفنان الصالح رحمه الله
لكن من هو هذا الخالق؟ وهل دلّ هذا الخالق الخلق على وجوده؟
العقل كما ذكرنا سابقًا دلّ على وجود خالقٍ لهذا الكون، وكذلك دلّ العقل على عدم جدوى البقاء في حلقة مفرغةٍ من الدور والتسلسل، لذا من الضروري ان يكون الخالق غنيًا، حيًا لايموت، قائمًا بذاته، لا يحتاج الى غيره، فهو ليس من الكون المادي.
وربما يقف العقل البشري دون معرفة تفاصيل اكثر عن الخالق، لأنّ العقل محدودٌ بالظواهر المادية، فهو لم يكتشف بعد اسرار الكون والخليقه بل مازال في بدايتها، فكيف للعقل ان يكتشف اسرار ماوراء هذا الكون المادي ومنها أسرار الخالق.
اذن كيف نتعرّف على الخالق؟
كل الدلائل التي نراها تشير الى عظمة التخطيط والتدبير المحكم في هذا الكون وفي الإنسان نفسه، حيث تتجلى الحكمة العظيمة. وإذا كان كذلك، فهذا الخالق الحكيم، لا يمكن ان يترك البشر دون ان يدلهم على نفسه، لكن كيف؟
في حياتنا نعرف أنّ مالك أي شركة او مصنع، هو من يعين الرئيس والإدارة ويحدّد الأهداف المطلوب تحقيقها، لذا فهو يختار رئيسًا للشركة وإدارةً كفوءةً ومؤهلةً لتحقيق الأهداف المرسومة. فهل عيّن خالق هذا الكون من يخبر البشر عن غاية خلقهم ويرشدهم الى تحقيق سعادتهم، ولماذا اختار هؤلاء؟
عبر التاريخ، عاش اشخاصٌ قالوا أنهم أنبياءٌ ورسلٌ اختارهم الخالق وبعثهم للإنباء عنه. هؤلاء الرسل كانوا في غاية الأخلاق والسمو وقد تميزوا بتربيةٍ روحيةٍ عالية وبخدماتٍ اجتماعية سطروها عبر التاريخ لخدمة البشرية. هؤلاء الانبياء والرسل جاءوا على فتراتٍ مختلفةٍ وكان آخرهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله الذي بعثه الله في مكة للعالم كافةً وأنزل معه كتابًا سماويًا هو القرآن.
استطاع محمد بن عبدالله رغم المستوى المتدني للحضارة والعلوم والأخلاق في عصره وبعيدًا عن مراكز الحضارة آنذاك، ان ينقل مجتمعه في قفزةٍ هائلةٍ اجتماعيًا وانسانيًا ووضع لهم نظامًا تشريعيًا مفصلًا وواضحًا.
هذا النبي لم يجرؤ احدٌ أن يرميه بالكذب والخيانة بل عرفه التاريخ بالصادق الأمين. ولا يزال القرآن معجزةً خالدةً عبر الأزمان والعصور تتجلى عظمته عبر جوانب عديدة كروعة آياته عن النظام الاجتماعي وسمو النفس الانسانية واللمحات العلمية المنتشرة وعدم التعارض والبيان اللغوي الجميل وتشريعاته العديدة كتوزيع الميراث، التي تعتبر سابقةً عظيمةً في عصرنا هذا فما بالك بعصر النزول قبل خمسة عشر قرنٍ من الزمان.
لا يمكن ان يصدر القرآن عن بشرٍ عاش في الجزيرة العربية حتى لو كان عبقريًا، بل هو تنزيلٌ من حكيمٍ عليمٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لكن ماهو أثر الدين الذي جاء به الانبياء؟
هؤلاء الانبياء والرسل جاءوا بتعاليم تنبه البشر الى عظمة الخالق، وقد شرّعوا تشريعاتٍ تحرّم الرذيلة وتحث على الفضيلة ومكارم الأخلاق.
فمثلًا، نزل القرآن على خاتم الانبياء محمد بن عبدالله بنظامٍ يلبي حاجة الانسان في جانبين: تشريع عبادي يضمن التوازن الداخلي بين غرائزه المادية وسموه الروحي، وتشريع معاملاتي يضمن التوازن الخارجي بين حبه لنفسه وتضحيته لمجتمعه. هذا التشريع ينظم عبادة الانسان وتربيته الروحية وينظم ايضا حياته ومعاملاته مع اخيه الانسان ومع الطبيعة فيضمن سعادة الفرد في الدنيا والآخرة.
لكن ماهي الآخرة؟
الخالق وكما أخبر عنه الانبياء والرسل احدٌ صمدٌ حيٌ قيومٌ لم يلد ولم يولد وهو عادلٌ وحكيم. فهو يعرف أن النفس الانسانية تحتاج الى مبدأ الثواب والعقاب حتى تستقيم وتتوازن داخليا فلا تتغلب عليها الغريزة الحيوانية وتتوازن مع المجتمع فلا يظلم الشخص الآخرين ويعتدي عليهم.
لذا فقد وضع هذا الخالق مبدأ الآخرة حيث يتم الحساب على ما حدث في هذه الدنيا لينال المحسن جزاءه في الجنة وينال المسيء عقابه في النار. إنّ الثواب والعقاب في الآخرة من أعظم ملامح وضرورات هذا الاعتقاد، حيث تتجلى العدالة الإلهية (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا).
هكذا يرسم الاعتقاد إطارًا فكريًا شاملًا يبدأ بالخالق الأحد الصمد ومن بعث من انبيائه ورسله بكتبهم السماوية وما تضمنته من تشريعاتٍ تحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
ارجو ان تحقّق (حجتي عند اللقاء) اليقين في الدنيا والسعادة في الآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على خاتم الانبياء والمرسلين ابي القاسم محمدٍ وآله الطيبين وصحبه المنتجبين.