للعمليات الحسابية جذور بيولوجية، فهي تعبير في شكل رموز ”للبنية العميقة“ لإدراكنا الحسي
بقلم راندولف جريس، برفسور علم النفس بجامعة كانتربري
15 أغسطس 2023
المترجم: عدنان احمد الحاجي
قدم له الدكتور حسين عبدالله العيسى، استاذ الرياضيات
المقالة رقم 252 لسنة 2023
Arithmetic has a biological origin - it ”s an expression in symbols of the“ deep structure" of our perception
Randolph Grace، Professor of Psychology، University of Canterbury
August 15,2023
مقدمة الدكتور حسين عبدالله العيسىيمكن القول، من منظور فلسفة الرياضيات والتي تفسر العمليات الرياضية وأساساتها من خلال التفكير الفلسفي، أن العمليات الحسابية مثل الجمع والضرب لا تقتصر أسسها في الرياضيات على الاعتبار البيولوجي، وإن كان له دور في تطور عقل الإنسان، ومن ثم إسهام هذا العقل في إدراك وتنظيم مفاهيم العمليات الحسابية.
وذلك لأن القدرة على الحساب والتعامل مع الأعداد تعد قدرة معقدة ومتقدمة، حيث تتطلب تنظيم الإدراك بحسب مستوى التجريد الذي يعمل فيه العقل - كمثال على ذلك: الضرب هو عملية حسابية، والجمع كذلك عملية حسابية، ويمكن تعريف عملية الجمع من خلال مفهوم العمليات الثنائية كمفهوم رياضي، ثم الإفادة من ذلك في مستوى تجريدي أعلى للعقل عندما يستخلص تعريف لعملية الضرب من خلال عملية الجمع ذاتها، وتعريفه لرفع أي عدد لقوى «لأس» معينة من خلال عملية الضرب نفسها.
هذا السلم الذي يتنقّل فيه العقل على مستوى التجريد في استخلاصه للمفاهيم الرياضية لا يساعد على افتراض أن يكون التطور البيولوجي هو الأساس الوحيد للعمليات الحسابية.
الخلاصة: بشكل عام، يمكن القول إن العمليات الحسابية تمتزج بين الأساسات البيولوجية والتفسيرات الفلسفية في الرياضيات. الأساس البيولوجي يساهم في قدرتنا الفريدة كبشر على التعامل مع الأعداد والعمليات الحسابية، بينما التفسير الفلسفي يوفر الإطار العام لفهمنا للرياضيات وتعريفاتها.
البحث الترجم يعلم الجميع أن العملية الحسابية التالية صحيحة: 2 + 2 = 4.
لكن من المستغرب أننا لا نعرف لماذا نتيجة هذه العملية صحيحة.
بالتفكير خارج الصندوق في التعامل مع الأرقام، أثبتُّ أنا وزملائي مؤخرًا أن العمليات الحسابية لها جذور بيولوجية وهو نتيجة طبيعية مترتبة على مدى تنظيم ادراكنا الحسي للعالم من حولنا.
تبين نتائجنا لماذا العمليات الحسابية صحيحة، وتشير إلى أن الرياضيات هي إدراك للطبيعة الأساسية للعقل والإبداع في شكل رموز.
إذن، فإن التوافق العجيب بين الرياضيات والواقع المادي «المادة» كان مصدرًا للدهشة منذ عصر اليونانيين القدماء حتى يومنا هذا - كما نوقش في كتاب الفيزيائي الفلكي ماريو ليڤيو Mario Livio: "هل الله عالم رياضيات ؟ - يشير إلى أن العقل والمادة «الجسد» جزء من أحادية مشتركة .
لماذا نتائج العمليات الحسابية صحيحة في كل أنحاء العالم؟
لقد ابتكرت البشرية رموزًا للأرقام منذ أكثر من 5500 عام. من المعروف أن أكثر من 100 نظام تدوين متميز قد استخدمته الحضارات المختلفة ، بما فيها الحضارة البابلية في العراق والحضارة المصرية في مصر والحضارة الإترورية في ايطاليا القديمة وحضارة المايا في أمريكا الجنوبية وحضارة الخمير في جنوب آسيا.
لقد طورت الثقافات المختلفة رموزًا للأرقام خاصة بها، ولكنها جميعًا تستخدم الجمع والضرب
والحقيقة اللافتة للنظر هي أنه على الرغم من التنوع الكبير في الرموز والثقافات، إلا أن جميعها تعتمد على الجمع والضرب. على سبيل المثال، في الأرقام الهندية العربية المألوفة لدينا فإن 1,434 = «1 × 1000» + «4 × 100» + «3 × 10» + «4 × 1».
لماذا اخترع البشر نفس العمليات الحسابية مراراً وتكراراً؟ هل يمكن أن تكون العمليات الحسابية حقيقة عالمية كامنة تنتظر من يكتشفها؟
لحل هذه الأحجية، علينا أن نتساءل لماذا يعتبر الجمع والضرب عمليتين أساسيتين. لقد طرحنا هذا السؤال مؤخرًا ووجدنا أنه لا توجد إجابة مرضية - إجابة تفي بمعايير الدقة العلمية - لا من الفلسفة أو الرياضيات أو العلوم المعرفية
حقيقة أننا لا نعرف لماذا نتائج العمليات الحسابية صحيحة تُعتبر فجوة حرجة في معرفتنا. العمليات الحسابية هي أساس الرياضيات العليا «المتقدمة»، وهو أمر لا غنى عنه في العلوم الطبيعية.
خذ مثلًا تجربة فكرية. الفيزيائيون يعملون على تحقيق هدفهم في المستقبل من الانتهاء من وضع ”نظرية كل شيء “ أو ”معادلة الإله [9,10]“. وحتى لو تمكنت مثل هذه النظرية من التنبؤ بشكل صحيح بجميع الظواهر الفيزيائية في الكون، فإنها لن تكون قادرة على تفسير مصدر العمليات الحسابية نفسها أو سبب صحة نتائجها في كل ناحية من العالم.
الإجابة على هذه الأسئلة تعد أمرًا ضروريًا لكي نفهم بشكل كامل دور الرياضيات في العلوم.
النحل يلهمنا أفكارًا
لقد طرحنا مقاربة جديدة تعتمد على افتراض أن العمليات الحسابية لها جذور بيولوجية.
عدة كائنات غير بشرية، بما فيها الحشرات، لها قدرة على الملاحة المكانية [المترجم: الملاحة المكانية هي القدرة على تحديد المسار من نقطة إلى أخرى والمحافظة عليه في الأثناء] والتي يبدو أنها مهمة تتطلب ما يكافيء الحوسبة الجبرية [أي استخدام المعادلات الجبرية [11,12]]. على سبيل المثال، يمكن للنحل أن يقوم برحلة بمسار غير مستقيم / غير مباشر «متعرج» للحصول على رحيق الأزهار، ثم يعود بعد ذلك بمسار مباشر إلى خليته «كما هو مبين في الشكل التالي»، كما لو كانت تستطيع حساب الاتجاه والمسافة إلى الخلية
تتمكن النحل من القيام بحساب تفاضلي لمسار طيرانها المتعرج لحساب المسار الأكثر مباشرة للعودة إلى الخلية. تقول نيكولا جي مورتون Nicola J. Morton.
كيف يتمكن دماغها الصغير الحجم «عدد خلاياه العصبية يبلغ حوالي 960 ألف خلية عصبية» من تحقيق هذا الإنجاز لا يُعرف حتى الآن. قد تكون هذه الحسابات بمثابة سلائف غير رمزية للجمع والضرب، والتي شحذها الانتخاب / الانتقاء الطبيعي باعتبارها الحل الأمثل للملاحة المكانية.
قد تعتمد العمليات الحسابية على البيولوجيا خصوصًا بطريقة ما بسبب دقة الضبط في عملية الانتخاب الطبيعي أثناء عملية التطور.
التفكير خارج الصندوق
لكي نتعمق أكثر في العمليات الحسابية ، نحتاج إلى تجاوز فهمنا المعتاد والملموس والتفكير بمصطلحات أكثر عمومية وتجريدًا. تتكون العملية الحسابية من مجموعة من العناصر والعمليات التي تجمع شيئين لتعطي شيئًا ثالثًا.
في عالم من الاحتمالات، لماذا تُمثل الأشياء بالأرقام «الرموز» والعمليات بالجمع والضرب؟ هذا سؤال ما وراء الرياضيات - سؤال حول الرياضيات نفسها ويمكن الإجابة عنه باستخدام الأساليب الرياضية.
في دراستنا، أثبتنا أن أربعة افتراضات كانت كافية لتحديد العمليات الحسابية «الجمع والضرب على الأعداد الحقيقية» من عالم من الاحتمالات. هذه الافتراضات الأربعة هي الدالة الرتيبة والدالة المحدبة والدالة المتصلة / المستمرة ، والتماكل [تَساويْ الشكل ].
الدالة الرتيبة هي حدس ”يحافط على الترتيب “ ويساعدنا على تتبع موقعنا بالنسبة للمحيط حولنا، بحيث كلما اقتربنا من أحد الأجسام يبدو أكبر وأكبر ولكنه يبدو أصغر وأصغر كلما ابتعدنا عنه.
التحدب متأصل في حدس ”النقطة البينية «بين النقاط» على المنحنى / الخط المستقيم“. على سبيل المثال، الزوايا الأربع لملعب كرة القدم تحدد ساحة الملعب حتى لو لم توجد خطوط حدودية تربط بينها.
الاثصالية تصف السلاسة التي تبدو بها الأشياء وكأنها تتحرك في الزمكان.
التماكل هو فكرة التماثل أو التناظر. وهذا ما يسمح لنا أن ندرك أن القطة أكثر شبهًا بالكلب من شبهها بالحصاة.
إذن فالعمليات الحسابية خاصة لأنها نتيجة لهذه الحالات النوعية البحتة. ونحن نرى أن هذه الحالات هي مبادئ تنظيم الإدراك الحسي [20 - 22] الذي يشكل الطريقة التي ندرك حسيًا بها نحن والحيوانات الأخرى العالم من حولنا وهو نوع من ”البنية العميقة “ في الإدراك ولها جذور في التاريخ التطوري.
في استدلالنا، فإن هذه الحالات النوعية تعمل كقيود للتخلص من جميع الاحتمالات باستثناء العمليات الحسابية - بما يشبه إلى حد ما كيف يكشف عملية النحت التي يقوم بها النَّحات عن تمثال مستور داخل كتلة صخرية.
ما هي الرياضيات؟
هذه المبادئ الأربعة مجتمعة على تنظيم ادراكنا الحسي لمحيطنا بحيث تكون تجربتنا منظمة ويمكن التحكم فيها ذهنيًا. فهي مثل النظارة الملونة التي توثر في كيف نرى الأشياء. عندما ننظر من خلال هذه النظارة إلى عالم الاحتمالات المجرد، فإننا لا ”نرى“ إلَّا الأرقام والعمليات الحسابية.
تشكل هذه المبادئ الأربعة ادراكنا الحسي لمحيطنا، وتشير جميعها إلى العمليات الحسابية باعتبارها نظامًا رمزيًا شكليًا مجردًا يعكس تلك البنية. المصدر: مجلة Psychological Review. [المترجم: كمثال على النظام الرمزي، اشارات الجمع والطرح والضرب والقسمة، وقطع الشطرنج وبرامج الكومبيوتر
وهكذا، تبين نتائجنا أن العمليات الحسابية قائمة على أساس بيولوجي ونتيجة طبيعية لكيفية تنظيم إدراكنا الحسي للمحيط.
وعلى الرغم من أن تنظيم الإدراك الحسي للمحيط مشترك مع حيوانات أخرى، إلا أن البشر فقط هم الذين ابتدعوا الرياضيات. هذا الإبداع هو الأكثر حميمية بالنسبة للبشر، وهو إدراك لرموز الطبيعة الأساسية وإبداع العقل.
وبهذا المعنى، تعتبر الرياضيات ابداعًا إنسانيًا فريدًا، ومن جهة أخرى اكتشافًًا «قائمًا على أساس بيولوجي». يشير النجاح المدهش للرياضيات في العلوم الطبيعية إلى أن العقل والمادة «الجسم» ليسا منفصلين، بل جزء من أحادية مشتركة.
يشير قوس / منحنى الرياضيات والعلوم نحو اللَّاثنائية، وهو مفهوم فلسفي يصف مدى علاقة العقل والكون ككل، وأن أي احساس بالانفصال هو وهمٌ. وهذا يتوافق مع العديد من التقاليد الروحية «الطاوية والبوذية » وأنظمة المعرفة عند السكان المارويين الأصليين في نيوزلند .
تنظيم الإدراك الحسي يعني كيف تتلقى حواسنا المعلومات وتفسرها وتجعل لها معنىً. الكثير مما نعرفه عن تنظيم الإدراك الحسي أتى من علم النفس الغشتالتي «21». يعتقد علماء نفس الغشتالتي أن الدماغ البشري يدرك المنبه ككل وليس كمجموع أجزائه. - مبادئ تنظيم الإدراك الحسي هي المحاذاة والتشابه والاتصالية والإغلاق والترابط. المحاذاة هو الميل إلى رؤية الأشياء القريبة من بعضها البعض على أنها مجموعة واحدة. التشابه هو طريقة تصنيف حيث نصنف تلقائيًا الأشياء التي لها سمة مشتركة، كاللون أو الشكل على أنها مجموعة واحدة. الاستمرارية هي نزعتنا إلى تتبع خطوط مستقيمة حين ننظر إلى شيء معين [المنبهات الحسية في المحيط، التي تثير انتباهنا، تشكل نسقًا واحدًا ندركها حسيًا على إنها تنتمي لنفس المجموعة «22». الإغلاق هو إدراك الاكتمال [ندرك الشيء المكتمل أسرع من الشيء غير المكتمل. وأن لم يكن كذلك فإن جهازنا الادراكي يعمل على سد الثغرة واكمال الناقص بناءً على الخبرات / المعرفة السابقة للوصول إلى الاكتمال. الترابطية هي تصنيف الأشياء المرتبطة بخطوط أو بلون أو بشكل على أنها مجموعة واحدة. "