معنى الحنين إلى الكتب
- الحنين إلى الكتب هو حنين الإنسان إلى نفسه، هو الحنين الذي لا معنى له قياسا بالحنين على الصعيد الإنساني، ثمة فرق بينهما، لا يمكن أن يلتقيا إلا على مستوى اللغة المجازية.
الحنين إلى الكتب حنين مخبوء، لا يظهر أمامك مثلما يظهر من تحبه بعد انتظار حارق، لا تلمسه بيديك مثلما تتلمس بنظراتك وجه الحبيب، لا تحضنه بعد طول غياب لأن غيابه لا معنى له سوى أنه أنت بلا تمايز، يا له من حنين لا يمكن وصفه، ولا يمكن تتبع أثره، ولا الالتفات إلى ما تبقى من فوضاه بعد رحيله.
- لكن الحنين إلى الكتب ليس حنانا كما نحنّوا إلى الذين نحبهم، أنه نوع مختلف تماما، رغم أنه في مستوى معين من تشابه المعاني يلتقيان، فالحنان إلى الذين نحبهم هو الحنان الذي يكون فيه الجسد موضع العلاقة مع الواقع، موضع الكشف عن قدرتنا على استرجاع النظرة الأولى، على استرجاع الظلال التي انفصلت عن المكان الذي احتضن ذكرياتك الأولى لحظة انبثاق فكرتك عن الحب، فالحنان هو الحنان الذي نعرفه مع الأب، أو مع الأم والأخت والأخ والزوجة والأبن والأبنة، أي أنه الرابط المقدس الذي لا غنى لمؤسسة الأسرة عنه؛ كي تستمر الحياة، لكنه ليس بالضرورة أن يتحول هذا الحنان إلى حنين، فهذا الأخير أشبه بقلعة محصنة على شاطئ، مهما ضربتها الأمواج لا تستطيع اجتياحها إلا بقدرة استثنائية نسميها وحدة الانجذاب بين المشاعر الإنسانية.
- ولأن الحنين هو محاولة استرجاع للزمن الماضي، ومحاولة تثبيته في لحظة معينة، تكون فيها المشاعر على درجة كبيرة من الغليان، فإن الحنان هو سلوك مستمر في الزمن الحاضر ولا يتوقف لأن الحياة اليومية قائمة عليه خصوصا في العلاقات الأسرية،
بينما كلمة الحنين إلى الكتب لا تحمل اشتقاقا دلاليا، مثلما تحمل الكلمة ذاتها مع الإنسان، هي كلمة كالصخرة لا تنكسر ولا تلين، ولأنها أيضا لا تخضع إلى سياق متشابه، فكل تجربة مع الكتب هي فريدة من نوعها بالضرورة، فالتجارب لا تتشابه ولا تتماثل
لكن الكلمة المعبّرة عنها لا تتغير ولا تتحول.
- التاريخ أعطانا شواهد وقصص عديدة على شغف الإنسان «العالم والأديب والمثقف» مع الكتب من بناء مكتبات ضخمة، والبحث في أصقاع العالم عن مخطوطة هنا أو هناك، وإذا كان الشغف كما أراها هو اندفاع الشخص في علاقته بالكتب إلى المستقبل والتخطيط له وبذل الجهد والمال والنفيس في سبيل ذلك، فإن التاريخ نفسه لم يعطنا الكثير من الشواهد على تجسيد كلمة الحنين بالمعنى الذي حددناه في هذه المقالة، وإن كان ذلك مجازا، أي أنها ارتباط بماضي الكتاب في حياة الشخص نفسه، فقد نجد أشخاصا مثقفين معظم حياتهم ارتبطت بعالم الكتب، وقد عبروا عن الحنين إليها بالكتابة عنها في أواخر حياتهم وهناك شواهد عديدة لا مجال لذكرها هنا.
- لكنه استرجاع لمعنى الحنين جزئيا ولا يشمل دلالة كليا، أظن سلوك الجسد في علاقته بالكتاب هو الذي يستغرق دلالة الكلمة إلى القاع.. لكن السؤال الذي يظل معلقا إلى مقال آخر ما الصورة التي يكون عليها الجسد كي تتحقق دلالة الكلمة كاملة؟