قصة قصيدة...
□في شتاء تشيكوسلوفاكيا القارس عام 1962.
يمسك الجواهري قلمه لينفس عن اكتئابه وغربته،
لتخرج هذه القصيدة،
التي لو لم يكتب غيرها في حياته الطويلة لكفاه ولأصبح ملكًا للشعراء.
كنت دومًا أبقى متردد في اختيار أفضل مطلع عمل أدبي، ما بين مطلع
رواية "التحول" لكافكا و"الغريب" لألبير كامو،
إلى أن قرأت هذه القصيدة فرجحت كفة مطلعها عندي. وهي ليست مجرد قصيدة
بل صرخة رجل مغترب عن بلده، العراق، يكتب تاريخه السياسي والاقتصادي
والاجتماعي والثقافي.
يبدأ القصيدة وقد اشتبكت ذات الجواهري وموضوعها،
ثم ينكب في تفكيك هذا التواشج إلى أن ينتهي بك الأمر وكأنك شهدت
لتوك انفجارًا نوويًا.
يا دجلة الخير
محمد مهدي الجواهري
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني
يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ
على الكراهةِ بين الحِينِ والحين
إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ
نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ
لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني
يُحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني
يا دجلةَ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا
حتى لأدنى طِماحِ غيرُ مضمون
أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً
بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟
خِلْواً مِن الـهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ
بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني
تَهُزُّني فأُجاريها فتدفعُني
كالريح تُعجِل في دفع الطواحين
يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ
يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ
يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ
مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا أمَّ تلك التي من «ألفِ ليلتِها»
للآنَ يعبِق عِطرٌ في التلاحين
يا مُستَجمَ «النُّوُاسيِّ» الذي لبِستْ
به الحضارةُ ثوباً وشيَ «هارون»
الغاسلِ الـهمَّ في ثغرٍ، وفي حَبَبٍ
والمُلبسِ العقلَ أزياءَ المجانين
والساحب الرِّقِ يأباه ويُكرِهُه
والمُنْفِقِ اليومَ يُفدى بالثلاثين..