من مقامات النبي (ص)

قد ينبهر الإنسان المعاصر باختراع لمخلوق بحيث يقف عقله عاجزاً عن الرد أو المناقشة لذلك الاختراع، بينما يعطي نفسه المساحة الكبيرة لمناقشة أو رد وعدم قبول مقام أعطته السماء لمن هو أهل لذلك.
فهذه الدنيا العريضة بل وجميع المخلوقات كلها خلقت لأجل ثلة من المخلوقين، فعبرت الرواية ”وعزتي وجلالي وعلو شأني لولاك ولولا علي وعترتكما الهادون المهديون الراشدون ما خلقت الجنة والنار، ولا المكان ولا الأرض ولا السماء، ولا الملائكة ولا خلقا يعبدني...“
فإذا علمنا بعض مقامات أهل البيت (عليهم السلام) التي لا يدرك كنهها العقل وأنهم علة الإيجاد لهذا الكون بما يحتويه، فلماذا نستكثر عليهم ما لا يدركه عقلنا القاصر، وذلك ناشئ من قصور الإدراك الذي
يتمتع به الناقص مقابل الكامل المطلق.
وأنى لعقل ناقص أن يدرك تلك المقامات، والتي يبين رسولنا (ص) معرفة الإمام علي (ع) حين يقول: ”يا علي ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك حق معرفتك غير الله وغيري“.
وتيمناً بأيام ميلاد رسول الله (ص) أحاول استعراض بعض مقاماته (ص) سائلاً منه العون والسداد.
فهو (ص) الرحمة العامة المطلقة لجميع الخلائق من جميع أصنافها بل جميع الموجودات والنشآت سواء السابقة؛ كعالم الذر والأرواح، والحاضر؛ كعالم الدنيا المشهودة، والآخرة؛ كعالمي البرزخ والقيامة وما بعدها.
فهو رسول إلى كل العالمين ومظهر الرحمة الإلهية وحتى لا يتصور البعض أن هذا أمر مبالغ، لنرجع قليلاً إلى الآيات المباركة، ولنجمع بعضها مع البعض لنستخلص تلك النتيجة.
فقد أخبرنا الله في كتابه المنزل بقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وبقوله: في آية أخرى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ومحصلة هاتين الآيتين أن كل ما في الوجود ويصدق عليه شيء هو من مخلوقاته تعالى، وأن كل شيء خلقه الله وسعته رحمته، فإذا ما اتضح المطلب نجد الآية الكريمة تبين في حق رسول الله (ص) بقولها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فيتضح بأبي هو وأمي أنه هو الرحمة.
المقام الثاني: إن النبي (ص) له صفة من صفات الله وهي الغنى رغم أنها من مختصات الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وهو ذاته وصف وعطف صفة «الإغناء التي تدل على صفة» الغنى لنبيه في آية صريحة بقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، والغني هو المستغني عن الخلق بقدرته وعز سلطانه والخلق فقراء إلى تطوله وإحسانه.
فرسولنا هو الموجود الأكمل والمظهر الأسمى لأسماء الله الحسنى لذلك استحق أن يكون هو الغني، وربما لا يقبل من له حظ ضعيف من التعقل والإيمان، فيقرب له الوصف ببيان ذلك أنه بإذن الله تعالى أو بشفاعته وتوسطه.
فقد ذكر في كنز الفوائد للكراجكي، أن أبا حنيفة أكل طعاما مع الإمام الصادق (ع) فلما رفع الصادق (ع) يده من أكله قال الحمد لله رب العالمين اللهم هذا منك ومن رسولك (ص)، فقال أبو حنيفة: يا أبا عبدالله أجعلت مع الله شريكاً، فقال (ع): ويلك إن الله تبارك وتعالى يقول: في كتابه {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، ويقول عز وجل في موضع آخر {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}
فقال أبو حنيفة والله لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت، فقال: أبو عبد الله بلى قد قرأتهما وسمعتهما؛ ولكن الله أنزل فيك وفي أشباهك {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} وقال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
المقام الثالث: وهو الاستغفار فكل رسول أرسله الله ليطاع بإذن الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}
فقد يتصور القاصر أن هذه الآية مختصة بوجود جسده المبارك أي أيام حياته ولا أثر بعد رحيله عن الدنيا وانقطاع عمله، ولكن هل حقا انتهى دور ومقام النبي الأعظم بعد رحيله؟! وهل روحه المقدسة ومقامه في عالم الإمكان كروح وحياة أي إنسان بل كأي نبي أو رسول؟! وهل أن حقيقة النبي بجسمه المادي فإذا ما مات انتهى فعله وأثره.
وقد تبين أنه مظهر رحمة الله للعالمين وهو الشاهد على جميع الرسل من الأولين والآخرين يوم القيامة، وأن له مقامات خاصة فهل يستقيم مقام الرحمة المطلقة، ولا يستطيع أن يلجأ إليه من يريد أن يستغفر له ويشفع، فهو (ص) سواء في غياب جسده المقدس كما هو حاضر في حياته الشريفة.

فهذا المقام الذي اعتبر للشهداء بأنهم أحياء فكيف بسيد هذا الخلق والذي جميع المخلوقات هو علتها، فلا يكون له أثر، فالنبي هو حي يرزق وله مقام الحضور، فإذا ما تنبه العبد العاصي توجه له (ص) وسيجده يستغفر له.
نسأل الله أن يرزقنا في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته.