رسولا من أنفسهم
كيف يمكن لنا أن نقيم شخصية معينة ونضع لها درجة معينة في عالم الألق ورفعة الشأن بكل حيادية وموضوعية؟
يرجع في التحديد لمكانة الإنسان وشأنه بما خلفه من آثار ومدى تأثيرها ونفعها للإنسانية النبيلة، فهناك من العلماء والمخترعين الذين خلدوا أسماءهم وذكراهم بأحرف ذهبية في صفحات التاريخ البشري بحسب تخصصه ومعارفه، وأما رسول البشرية محمد (ص) فلا يقاس بأحد في عظمة تأثيره والنقلة النوعية التي أحدثها في أحوال الناس وتغيير جوانب حياتهم المختلفة نحو الإيجابية والفاعلية، فقد كان الناس في زمن الجاهلية تلف بهم الضلالات ليست على المستوى العقائدي فقط، بل امتدت إلى مختلف الجوانب المسودة لجبين الإنسانية لما وصلوا إليه من انحطاط فكري وأخلاقي واجتماعي، فاستطاع الرسول الأكرم (ص) أن يعيدهم إلى جادة طريق الصواب فغير من طريقة تفكيرهم وأسندهم إلى الاستدلال العقلي على وجود الخالق العظيم وتنظيمه لمفاصل وأجزاء الكون بنظام بديع، ودعاهم إلى مكارم الأخلاق والتحلي بالفضيلة كأساس للرقي والتفاضل الحقيقي بين الناس، وفصل (ص) بين خصوماتهم واحترابهم فدعاهم إلى نبذ العصبية والطبقية والعنصرية والتخلص من جذور المشاعر السلبية والكراهيات واستنقاص الآخرين والسخرية بهم، فانماطت تلك الكراهيات واستبدلت بالاحترام والتقدير للعنصر الإنساني مهما كانت اتجاهاته وأفكاره.
والرسول الأكرم (ص) في سيرته مع ربه ونهجه التبليغي وأخلاقه مع الناس يعد أعظم آية ربانية، وقد أحدث نقلة منقطعة النظير في النفوس حيث بعث فيها روح التوحيد وكشف ظلام الجهل والاعتقادات الخاطئة بعبادة الأصنام والأوثان وتقديم ألوان الطاعة لها، وعلمهم النضج في التفكير والتمسك بالاستدلالات العقلية لتكوين تصوراتهم وقناعاتهم؛ ليقيم نظام البرهنة على أنقاض التقليد الأعمى للآباء وتقبل الأعراف والعادات الاجتماعية مهما كان مستوى تباينها مع الرؤى العقلية الرشيدة، وهذب وربى نفوسهم بالدعوة إلى الاستقامة في السلوكيات والتصرفات والترفع عن الرذائل الأخلاقية المتفشية بينهم والتي حطت من سمتهم ومقامهم، إذ المرء الذي يتخلى عن القيم التربوية والأخلاقية الصانعة للتكامل الإنساني ويتحول إلى عالم البهيمية وإطلاق العنان للغرائز والشهوات المتفلتة، يفقد حقيقته وهويته وينسلخ تماما من ثوب الإنسانية الجميلة والنبيلة.
إن السيرة النبوية تعد المنعطف والمحطة المهمة الكبرى في تاريخ البشرية، وعلى نهجه ومآثره (ص) يدور النهج التربوي والتكاملي الإنساني، فهذه سيرته كتاب مفتوح أمام البشر لينظروا نظرة تأمل وتدبر ليستخرجوا من لآلئها كنوز الحكمة والتوجيهات النيرة في مختلف جوانب حياة الإنسان وعلاقاته، فهو (ص) منقذ البشرية من ظلمات الضلال والانحراف الفكري والسلوكي، والموجه لها نحو مستويات الرقي والتحلي بالفضيلة، وهو المزكي والمهذب للنفوس من أشد أعدائها وهي الأهواء والشهوات المتفلتة والتي تسقطها في مهاوي التخلف والجهالة والتسافل الأخلاقي «الانحدار الفكري والسلوكي»، ولقد عمل (ص) على نشر الفضيلة من خلال صناعة الضمير الواعي الذي يستقبح الظلم وازدراء الغير، ودعا (ص) إلى تعلية مقام النفس الإنسانية من خلال تخليصها من التمسك بالحياة المادية والانشغال بقشوريات زينتها، وليس معنى ذلك هو الاتجاه نحو الرهبنة بل هو التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، فذلك الإنسان يجد فاعليته ونشاطه من خلال الاتصال بالله تعالى والوقوف في محراب العبادة، فينطلق في ميادين الأرض بكل جدية ومثابرة ليعمر الأرض بمختلف النشاطات التعليمية والاقتصادية.
الأثر العظيم الخالد للنبي الأكرم (ص) هو كتاب الله تعالى والذي يعد دستورا ومرجعية تأخذ موقعيتها في رسم معالم الفكر الإنساني وتأسيس قواعد الاستدلال والبرهان القائم على تحريك العقل من المجاهيل والشبهات والإشكالات إلى نور القناعة المعرفية، هو أسلوب حياة يكشف عن أسس العلاقة مع الخالق والعلاقات الإنسانية بما يحفظها ويجنبها ويلات الخلافات والخصومات.