رائعة المرحوم شاعر العراق الكبير الدكتور أحمد الوائلي ألقاها في مهرجان الشعر الذي أقيم ببغداد عام 1965م وقد جوبهت بالتصفيق الحاد المستمر حتى طلب الشاعر من الجمهور أن يتوقفوا عن التصفيق ليتسنى له إكمال فكرة القصيدة والقصيدة تدور حول رسالة الشعر الملتزم في تناول قضايا الأمة وبعث الوحدة وتحرير القدس وخلاص العراق في ترك الطائفية والتبصر في أن كل تلك النعرات أصلها أيادٍ خفية تحاول تمزيقنا لتقضي علينا جميعاً وهي إنما جزّءتنا بعد أن فقدت كل سلاح ولم تجد إلا أن تفرّقنا لتنهض من جديد، وكأن القصيدة بنت اليوم، وهذا هو نصها كاملاً:
ومدًى كريـمِ العيشِ ما نتوقّعُ
لــــغدٍ سخيِّ الفتـــحِ مــــــا نتجـمّــعُ
فإذا نهضـــــتَ بهِ فإنّكَ أروعُ
يا (مهرجانَ الشعرِ) عِبــؤُكَ مُجـــهِدٌ
بكَ رائــــــداً يبني وفكراً يُبْدِعُ
إنّا نريــــدُكَ والأمــــاني جُسِّـــــــدَتْ
ـلحنُ المحبَّبُ والنشيدُ الأروعُ
أنَا إنْ شــدا بكَ مـــزهري فلأنكَ الـــ
غمــــر العروقَ قرابةً لا تُقطعُ
ولأنَّ أهـــدافــــاً توحِّـــــــدُ أو دمــــاً
فيجــفُّ في يدهِ الأغضُّ الأينـــعُ
بالأمسِ والحقــدُ اللئيـــمُ يســومُنـــا
لتــــرفَّ مُجدبةٌ، ويورقَ بلقـــعُ
فابعثْ بــروحٍ منـــكَ في تلعَــــاتِنـــا
يبــسٌ، فدنيانا الربيعُ الممــرِعُ
لســـنا بمعهــــــودٍ على أبعـــــادنـــا
ممـــــا نسجنـــاهُ العقودُ اللمَّعُ
أيُّ الكـــــرائم ليـــس في أعنــاقهـــا
قبسٌ لنا يجــلو الظلامَ مشعشـعُ
أم أيُّ وضَّـــــــــاءٍ وليـــس بجـــذرهِ
أســمى، ولا خــلقٌ أعفُّ وأورعُ
سُدنا.. فما ســـاد الشعـــوبَ حضارةٌ
فكـــــــرٌ ولا دينٌ، ولا من يَتبعُ
قُدنا الفتـــــوحَ فما تشــــكّى وطـــأنا
كرَمــــــاً ، فأوليناهُ ما لا يطمعُ
حتى الرقيـــــقُ تواضـــعتْ أحســابُنا
للأمسِ أمري الضرعَ أو أسترضعُ
عفواً إذا جمـحَ الخيـــــــالُ فلم أجِئْ
ـفجرٌ الُمشرِّفُ والأصيلُ المفجعُ
لكنَّها صـــورٌ جلـــــوتُ ليُرسَــــمَ الـ
يُدعى لها ؟ وبـأيِّ أمرٍ يَصْدَعُ ؟
وليستبيــــنَ الشعـــــرُ أيَّ رســــــالةٍ
أوصــــــالَه بيدِ الهبــــاة ويقطعُ
يُدعى إلى وطنٍ يشــــظّي خصــــــمُه
تعطيـــــــه مزرعةً لمن لا يزرعُ
والمبتلى بِبَنِيْـــــــهِ في نـــزواتـــــها
ويلمَّ مـــــا قد مــــزَّقوهُ وَوزَّعوا
يُدعى ليهـــدمَ ما بنــــوهُ حواجـــــزا
أن الهـــــوى ممـــــا تعتّقَ يكرعُ
يا (مهرجانَ الشعرِ) حَسْب جراحنـــا
يلهــو بها الآسي ويسخرُ مِبضعُ
ولقد نغصُّ لمـــــا نقـــــــول بأنَّهــــا
أنّ التغنِّي بالجــــــــراحِ تَنَطُّـــعُ
غنَّى بهــــــا نفــــرٌ فألَّمَ حزنَــــــنــــا
صــــوتُ المُساومِ بالكرامةِ يَرفعُ
ولشدَّ ما يــــؤذي الكـــــرامةَ أن نرى
صـــرعى إلى زعقاتنـــــا تتسمَّعُ
هذي رحـــــابُ القدسِ منـــــذُ ترنَّحتْ
وتــراه من خُدعِ السحاب فتَهْطِعُ
تصحـــو على نـــــوءٍ فتتلعُ جيــــدَها
مَهـــــوى يدٍ مغلــــولةٍ إذْ تصفعُ
عشــــرون كفّاً حــــرّةً ما أوقفـــــــتْ
لو كانت الأيدي يـــــــداً لا تُشفعُ
ويحَ التَّعَــــــــدُّد .. ما أعــزَّ ذمـــارنا
دونَ الســـــــروجِ لِفارسٍ يتطلَّعُ
الشــــوطُ تُغرِقــــهُ الســــــروجُ وإنَّهُ
صِـرنا ننامُ على الزعيقِ ونَهجعُ
كنا نَهــــبُّ على الزعيـقِ، ومُذ طغى
ثوري فمــن مثلِ الجراحِ يُلعلعُ ؟
فأَثِرْ مُنــــوَّمةَ الجـــراحِ وقُلْ لهـــا :
فالخطبُ ليــــــسَ بمثلِ ذلكَ يُدفعُ
لا تشتمنَّ الخطـــبَ أو تبــــكي لــــهُ
آذانُــــــهُ، والـــرزءُ بـــاقٍ مُزمعُ
فلقدْ شتمنــــا الرزءَ حتّى أُتخمــــــت
تحيا وإن خفتَ المماتَ ستخضعُ
لكــــنْ تَصَــــدَّ له ، فإنْ أخضـــــعْتَهُ
شربَ الصدى وعلى يديهِ المنبعُ
فالمجدُ يحتقــــرُ الجبـــــانَ ؛ لأنَّــــهُ
وسبيــــلُ مرتـــــزقٍ بـــه يتذرَّعُ
قالوا بأنَّ الشعـــــرَ لهــــــوُ مُرفَّــــهٍ
للنفسِ ، يلبـــسُ ما تريدُ ويخلعُ
وإذا تســــــامينا به فهـــو الصـــدى
وإذا شجـــاها الحزنُ فهو الأدمعُ
إنْ تطربِ الأرواحُ فهـــو غنــــاؤها
فنــــــنٍ ، وملتـــاعاً يئنُّ فيوجعُ
فذروه حيــــث يعيـــــشُ غرّيداً على
يُعطي ويمنــــعُ، أو يضرُّ وينفعُ
لا تطلبــــوا منهُ ، فمــــــا هو بالذي
وعرفتُ رزءَ الفكرِ فيمن لم يعُوا
أكبرتُ دورَ الشعــــر عمّا صــــوّروا
يلــــوي أنوفَ الظالمينَ ويجدعُ
فالشــــعــرُ أجَّجَ ألفَ نـــــارٍ وانبرى
يزهـــــــو به عنُقٌ أرقُّ وأنصعُ
لو شــاءَ صــــاغَ النجمَ عقداً ناصعاً
خضِلاً بأنفــاسِ الشذى يتضوَّعُ
أو شــاءَ ردَّ الرمــــلَ من نفحـــــاتِهِ
واحــــــاتِ نورٍ تستشفُّ وتلمعُ
أو شــاءَ ردَّ الليــــلَ في أسمــــــارهِ
يعنـــــو لهــا من كلّ أفقٍ مطلعُ
أو شــاءَ قادَ من الشعــوبِ كتائــــباً
نُوَبٌ، يخلِّي ما عنـــــــاهُ ويقبعُ
أنا لا أريدُ (الشعر) إنّ جــدَّتْ بنـــــا
ليُضـــــاءَ ليلُ المترفين فيسطعُ
أو أن يُوَشّي الكأسَ في سَمَرِ الهوى
تــاجٌ من المدحِ الكذوبِ مُرصَّعُ
أو أن يبـــــاعَ فيشـــــتري إكليـــــلَهُ
مجدٌ، وسيفٌ في الكفاحِ، وأدرُعُ
لكنْ أريدُ (الشعرَ) وهـــــو بدربنــــا
مجدٌ، وسيفٌ في الكفاحِ، وأدرُعُ
لكنْ أريدُ (الشعرَ) وهـــــو بدربنــــا
بالعطـــــرِ تعبقُ والسنـــا تتلفَّعُ
بغدادُ .. يا زهوَ الربيـــعِ على الرُّبى
سَمَــــراً على شطآنِ دجلةَ يُمتعُ
يا ألفَ ليلــــةَ ما تــــزالُ طيوفُهــــا
وصــــلٌ كما شاءَ الهوى وتَمنُّعُ
يا لحنَ (معبدَ) والقيـــانُ عيونُهــــا
صُـوَرٌ على طرفي نقيضٍ تُجمعُ
بغدادُ يـــــومُك لا يـــــزالُ كأمْسِــــهِ
يطغى الشِقــــا فمُرَفَّـــهٌ ومُضَيَّعُ
يطغى النعيـــــــمُ بجـانبٍ ، وبجـانبٍ
والكــوخِ دمعٌ في المحاجرِ يَلذعُ
في القصرِ أغنيةٌ على شفـــةِ الهوى
وبجنبِ زقِّ أبي نــــؤاسٍ صُرَّعُ
ومن الطــــوى جنْبَ البيـــادرِ صُرَّعٌ
ويــــدٌ تُقَبَّلُ .. وهي ممَّــا يُقطَعُ
ويدٌ تُكبَّــــــــلُ .. وهي ممـــا يُفتَدى
ودنــــــاءةٌ بيدِ المُبــــرِّرِ تُصنَـعُ
وبراءةٌ بيـــــدِ الطُّغـــــاةِ مُهـــــــانةٌ
ويُضـــــامُ ذاكَ ؛ لأنَّـــهُ لا يركعُ
ويُصـــــانُ ذاكَ لأنَّهُ مِــــنْ مَعشــــرٍ
باسمِ العُروبةِ .. والعروبةُ أرفعُ
كَبُـــــرَتْ مُفـــارقةٌ يُمثَّــــلُ دَوْرُهـــا
من مثلِـــــها، فوراءَ ذلكَ إصبعُ
فتبيَّــــني هذي المهـــــازلَ واحذري
شمــــلٌ يُلَمُّ، وأســـــــرةٌ تَتجمَّعُ
واستلهمي روحَ الوفــــــودِ فإنَّهــــا
فالركبُ أتفـــهُ ما بهِ مَــنْ يظلعُ
وترسَّمي الركـــــبَ الُمغذَّ ، ولا تني
وستلمحيـــنَ ؛ لأنَّ دربَـكِ أسفعُ
وإذا لمحتِ على طريقِـــــكِ عُتمــــةً
وبِعُهْدَتي أنَّ الكـــــــواكبَ تَطلعُ
شُدِّي وهُزِّي الليـــــلَ في جبــــروتهِ
وهجٌ يفِحُّ من السمــــومِ ويُفزِعُ
يا (مهرجـــانَ الشــعرِ) مَــــرَّ بأفقِنا
وبثـــــوبِ إنســــــانيةٍ يَتبـــرقَعُ
بالحقدِ تُسقى ما علمـــتَ جُـــــذورُه
بِـــرَكِ الدِّما ، وغليــــلُهُ لا ينقعُ
يمشي إلى الهدف الخدوعِ ولو على
ومشى على القيمِ الكريمةِ يقذعُ:
أغرى الخطــــايا بالنعـــــوتِ رفيعةً
تَرَفٌ ! وما رسمَتْ وما تستتبعُ
فاللهُ وهـــــمٌ ! .. والفضيـــــلةُ كُلُّها
وســـــواهما أكذوبـــةٌ وتَصنُّعُ !
ما الفــــــــردُ إلاّ معـــــدةٌ وغريزة ٌ!
يبـــــكي إذا أوحى لـــــه ويُرجِّعُ
ومشى بمعصــــــوبِ العيـونِ يقودُهُ
فِطَـــــرٌ سليمـــاتٌ، ولُوِّثَ منزعُ
سَوَّاهُ من دَنَسٍ ، فمــــــاتَتْ عنـــدَهُ
حتّى تعمـــــلقَ في ذراه الضفدعُ
وأسفَّ فاحتضنَ المُســـــوخَ يَرِبُّـها
وكبَــــا به بغيٌ وأوشــكَ يُصرَعُ
حتّى إذا الطغيـــــانُ طــــــاحَ بأهلهِ
لكنَّـــها تُنمى إليـــــــهِ وتـــرجعُ
ألقى لنا صــــــوراً تعدَّدَ نعتُــــــــها
فالفكــــــــرُ ليسَ بغيرِ فكرٍ يُقرعُ
فانْهَـــدْ لهُ بالفكرِ يخضــــدُ جـــذرُهُ
فكـــــرٍ يُسَدِّدُ من طعـــــامٍ أجوعُ
وأغِثْ جيــــــاعَ عقيدةٍ ؛ فَهُـــمُ إلى
عـــذبٌ، وســـــائغُ وردِهِ لا يُمنعُ
قُدهُمْ إلى نبعِ السَّمــــــاءِ نِطــــــافُهُ
أبعــــادَهُ، وجــلاهُ .. فهوَ المِهيَعُ
واسلُكْ بِهم دربــــاً أضــاءَ مُحمّــــدٌ
ألقَــــاً يَمُـــتُّ إلى السمــوِّ وينزعُ
وأنا الضميــــــنُ بأنَّهُ سيُــــعيــدُهمْ
يبني الكريم الرغد، لا ما شَرَّعوا
وسيعرفـــــــونَ بأنَّ ما شَرع السما
من كأسِ غيــــرِكَ عافَها المُترفِّعُ
يا (مهرجانَ الشــــعرِ) إنّ ثمـــالـةً
تُمــــلي ولاءً بالريــــــــــاءِ يُقنَّعُ
ما آمنتْ بـــــــكَ غيرَ أنَّ ظروفَهـــا
وأعيــــــذُ قومي من لَظـاه مُروِّعُ
ولجَتْ حِماكَ وفي الرؤوسِ مُخطَّطٌ
في غفلةٍ، فأنـــا وأنــت المصرعُ
وهي التي إنْ أوتـــرتْ أقواسهــــا
صّلاً على طــــولِ المدى لا يلسعُ
فتَوَقَّ أرقمَــــها فلستَ بــــــواجـــدٍ
كانتْ لغيـــــــرِكَ قبلَ ذلكَ تُقْــرَعُ
لا تطرِبَنَّ لطبــــلِها، فطبــــــــولهُا
عَلَقاً وهل تنسى ضناها المرضعُ
ما زلتُ أرعُفُ في يديهــا من دمي
تَضرى، فيمنحُها الوسـامَ المدفعُ
أيامَ نقتســـــــمُ اللَّظى وصدورُنـــا
فِرَقـــــاً يُصنِّفُها الهـــوى ويُنَوِّعُ
ودماؤنا امتزجَتْ ســـواءَ فلمْ تكنْ
منّــــا، فمـــا مِيزَتْ هُنالكَ أضلعُ
وتعـــانقَتْ فــــوقَ الحرابِ أضالعٌ
نــــــوءٌ ، زحمنــا منكبيهِ زعزعُ
حتّى إذا أرسى السفيــــــنَ وعافَهُ
والبعضُ حصَّـــتُهُ السفينةُ أجمعُ
عُدنا وبعضٌ للســـــفينِ حبــــالُهُ
مُتسَنِّــــنٌ هذا .. وذا مُتَشَيِّـــــــعُ
وَمَشتْ تُصنِّــــفُنا يـــدٌ مسمـومةٌ
لُمُّوا الشبــــــاكَ فطيرُنا لا يُخْدَعُ
يا قـــــاصدي قتلَ الأخوَّةِ غيـــلةً
فامتدَّ واشتبــــكَتْ عليـــهِ الأذرُعُ
غرس الإخــــــاءَ كتابُنــــا ونبيُّنا