اقتحم مع الثوار سراي الحكومة وقتل الحاكم العسكري
عبد الماجد
هل نقول اننا امام اسطورة وملحمة جهادية كبيرة قادها اولئك المجاهدون الاوائل يتقدمهم الحاج نجم البقال؟ ذلك الثائر الكبير الذي لم يقبل الضيم والذل والهوان الذي كان سائدا من الاحتلالين العثماني والانكليزي في تلك الحقب المريرة الماضية واللذين دنسا الارض الطاهرة المقدسة النجف الاشرف.
فقد قاد هذا الرجل الفذ رفاقه ومع بزوغ فجر الثلاثاء السادس من جمادي الاخرة من سنة (1336) وبموجب العهد والاتفاق بينهم على مواجهة الانكليز الذين عبثوا في البلاد ومن بوابة "الثلمة" وهي بوابة صغيرة توجهوا الى دار الحكومة القلعة الحصينة التي تبعد عن المدينة بمسافة (200- 300 قدم)
وهذه الدار التي تعد قلعة شيدها الحاج عطية ابو كلل وهو احد المجاهدين الذين قاوموا العثمانيين والانكليز وتولى ادارة مدينة النجف الذاتية سنتي (1915 – 1916) اخذتها بعد مطاردته واتخذت منها دارا للحكومة وهو من الزعماء المرموقين والبارزين والمعروفين بالكرم والشجاعة والصدق والنجدة والاصرار
كانوا اربعين ولكن العدد تقلص الى سبعة عشر شخصا هم :
الحاج نجم البقال ومحسن ابو غنيم ومجيد بن الحاج مهدي دعيبل وحميد عيسى حبيبان وعبد حميمة وعلوان البو دليهم الفتلاوي وعبد الحمامجي وسعد العامري وصادق الاديب وشمران العامري وحميد احمد ياسين ابو السبزي والسيد جعفر بن السيد حسن الصائغ وحسن البوجوري وحبيب بن جاسم خضير وحمودي ناجي وجاسم السيد محمد علي طيار الهوا...

مهمة صعبة
ولبسوا زي الشرطة في ذلك الزمن وزينوها بالنياشين ودخلوا الى دار الحكومة بوصفهم شرطة خفر ويحملون رسالة من حاكم المنطقة الفلانية ولامر مهم ففتح لهم الباب ودخلوا وكان يتواجد في الدار او القلعة زهاء الستين او السبعين عسكريا من الهنود والجنود. فضلا عن الموظفين الحكوميين من مستخدمين وغيرهم عدا القوة التي كانت في المدينة والتي تتألف من سبعين شرطيا في انحاء عديدة من المدينة والعسكريين الذين كانوا قد استخدموهم من اهل المدينة نفسها وعددهم بين الخمسين والستين
وتمكنوا من الدخول الى السراي واعترضهم احد الموجودين فقتلوه بواسطة الخنجر لئلا يسمع صوت ا لرصاص
ودخلوا الى غرفة الحاكم (مارشال) ووجدوه منتصبا شاهرا مسدسه فصوب نحوه الحاج نجم عدة عيارات فارداه قتيلا ووجه احد المهندسين من ذوي الرتب العسكرية والذي كان يشارك الحاكم العسكري غرفة نومه عدة اطلاقات اوقعت احد الثوار ولكنه اصيب بنيرانهم
وبعد ان انجز اولئك الرجال الافذاذ مهمتهم كما يروي صدر الاسلام الشيخ محمد الامين الأمامي في مذكراته (مذكرات شاهد عيان عن ثورة النجف) 1918 قرروا الاستيلاء على دار الحكومة وكانوا قد قسموا الى مجموعتين احداهما تقتحم دارالحكومة والثانية تهجم داخل المدينة فتستولي على الجنود وممتلكاتهم ان العملية التي نفذها اولئك الابطال تعد عملية نوعية رائعة وجريئة وجسورة وهي اقتحام دار الحكومة بتلك الطريقة التي تدل على وعي مبكر وقدرات قيادية وفهم عميق لطبيعة الاحداث والمواجهة بدلالة ارتداء زي الشرطة واتباع اسلوب ذكي في المناورة والاختراق الذي اعتمد على المباغتة في ذلك الزمان والمكان وحقق فعلا تعرضيا نادرا بالمفهوم العسكري وهو درس يفترض ان تهتم به الجهات العسكرية في يومنا هذا، ونقلا عن شاهد العيان الذي يقول بطبيعة الحال فان كل عاقل سيدرك على الفور ان عملا كبيرا كهذا وحركة محفوفة بالمخاطر كهذه لم تنجز دون دافع قوي جدا وهدف غاية في الاهمية، معسكر ضخم مجهز بكامل المعدات وفجأة يهجم اشخاص معدودون من غير قوة او عتاد على دار الحكومة فيقتلون الحاكم العسكري

فرضيات الانتفاضة
وسط ذلك الحشد من العساكر وعلى رؤوس الاشهاد يجرحون شخصين ولايكتفون بذلك بل يهم ثلاثة او اربعة منهم باسر (70 ـ 80 شخصا) ويفكرون بتنفيذ ذلك ويواصلون لزهاء ساعة قتال كل اولئك الجند ثم يغادرون المكان بكل ثقة وثبات وينجون بانفسهم
ويتساءل الشاهد الشيخ محمد امين الامامي: اي قلب يحتاج هذا الامر واية جرأة وصلابة سبحان الله! اية قلوب خلق وماذا خلق؟
ثم يعود ويحاول معرفة الاسباب والدوافع التي جعلت او دفعت اولئك الرجال للقيام بحركتهم والتي اصبحت ثورة كبيرة سميت (ثورة النجف) و دامت خمسة وعشرين يوما ويورد افتراضات عديدة من بينها (الغيرة والحمية الاسلامية) لان المسلمين اصبحوا لايطيقون رؤية مدينة النجف المقدسة التي هي مركز الروحانية والدين وقبة الاسلام ومركز اشعاع للمسلمين تحت هيمنة الصليبيين وهم يتحكمون بهذه البقعة المقدسة التي هي مطاف ارواح الانبياء والاولياء والملائكة المقربين ومهبط الرحمة والفيض الالهيين ثالث الحرمين وموضع فخر المسلمين ورؤية راية التثليث ترفرف على رؤوس اهل التوحيد
وافتراض ارتبط بتصرف احد الجنود الانكليز الذي التقط صورا للصحن الشريف وحرض على هذا العمل بدافع العصبية.
ورأى البعض ان من بين الدوافع قطع رواتب الشيوخ البالغة (30) ليرة شهريا لكل شيخ وحرضوا على هذا الفعل وغيرها من الافتراضات.
غير ان الشاهد يذكر دافعا اخر لتلك الايام المجيدة حيث نقل له احد الثقاة مباشرة عن نجم البقال قوله: كنت متألما جدا ومنفعلا بسبب هيمنة هؤلاء على هذا المكان المقدس ومنذ ثلاثة اشهر وانا اخطط لهذا العمل لكن لما لم يكن لي نصير فاني لم اتمكن من التحرك الى ان اتفقت مع اربعين شخصا فقمنا بالعمل وكنا ننوي مصادرة ما لدى الموجودين في مقر الحكومة من حاكم وجنود ومسؤول مالي ومن سلاح وغيره وطردهم من المدينة ولم نكن ننوي القتل ولكن لما تراجع العديد من رفاقنا وجدنا ان تحقيق هذه الفكرة لم يعد ممكنا لذلك قمنا بالقتل
ان تلك الانتفاضة كانت الشرارة الاولى لثورة العشرين ثورة العراق الكبرى حيث اتسعت وشملت جميع انحاء البلاد من اقصى شماله الى اقصى جنوبه

جمعية النهضة الاسلامية
ولكن من هو نجم البقال ؟ هذا الثائر الذي حكم عليه الانكليز بالاعدام مع اثني عشر رجلا من رفاقه ونفذ الحكم فيهم فجر يوم الخميس (30 مايس 1918) في الكوفة. هو نجم بن عبود بن فرج الدليمي من عشيرة المحامدة في لواء الدليم (الرمادي).
ولد في مدينة الرمادي ونزح مع والده الى مدينة الحلة على اثر خلاف مع اقربائه ثم غادرها الى مدينة النجف واستقر بها وسكنها في محلة المشراق وهي من محلات النجف البارزة العام (1857).
خدم في الجيش التركي واشترك معه في معركة مع الجيش الروسي في منطقة اسيا الصغرى وبعد عودته الى النجف اثر اكماله الخدمة العسكرية اتخذ له حانوتا في رأس السوق الكبير كان مملحة يباع فيها الملح على عهد الحكومة العثمانية وبعد ثورة النجف على الاتراك استولى الحاج نجم على هذه المملحة وجعلها دكانا لرزقه يبيع فيها الرطب واللبن والخضراوات ومن ذلك استمد لقب البقال.
انتمى الى جمعية النهضة الاسلامية التي تأسست في النجف سنة (1918) وضمت العديد من الشخصيات البارزة في المدينة فضلا عن رجال الدين علاوة على العديد من الشباب النجفي المتحمس لطرد قوات الاحتلال البريطاني من العراق وبعض رؤساء القبائل الذين انضموا الى الجمعية ايضا منهم الشيخ مرزوك العواد رئيس عشيرة العوابد والشيخ وداي رئيس البو علي والشيخ سلمان الفاضل رئيس الحواتم وغيرهم
وكان من اهم اهداف هذه الجمعية هي طرد القوات الانكليزية والمطالبة باستقلال العراق وبرز الحاج نجم البقال بعد تأسيس الجمعية بشهور عدة وكان من انشط الاعضاء مع اعضاء اخرين واقترح القيام بعملية جريئة تتضمن قتل الحاكم الانكليزي للنجف وهو الكابتن (و.م مارشال) مساعد الحاكم الساسي البريطاني وحدد موعد التنفيذ في فجر التاسع عشر من اذار (1918) مع رفاقه وعلى اثرها لتتمرد مدينة النجف فحوصرت بلواء يقوده الجنرال ساندرز، واعيد احتلالها بعد 30 يوما.
رحم الله الحاج نجم البقال الذي كان ثائرا من طراز فريد ورجلا شجاعا ووفيا للتربة التي عاش فيها ومخلصا لها وقد اصبح من رجال النجف الشعبيين ان الملحمة البطولية التي سطرها في تلك الايام الخوالد هي موضع اعتزاز جميع العراقيين ومستودع فخرهم وعنفوانهم فهي كانت عراقية خالصة اكدت على وحدة الهدف والمصير وجسدت التلاحم الوطني وروح الايثار وسيادة المحبة عند جميع شرائح المجتمع العراقي دون تمييز او تفرقة او اثرة.