الشاعر العراقي جعفر المهاجر
والإلتصاق بالوطن
.................................
لفجرك ياعراقَ الشمسِ أصبو
لنخلك والقبابِ .. وللسـواقي
وماؤك ياعراقَ المجدِ شهدي
كأنه في دمي عطرُ الدهاقِ
بسقفك أحتمي من كلِّ عصفٍ
بنورك سـيدي يحـلو عناقي
بهذا البوح الشجيّ والشدو النديّ ينسابُ نهرُ التعلق بالوطن والحنين الحرّاق شعراً رقيقَ المبنى جميلَ الصياغة مشبوبَ العاطفةِ متأجّجَ التعبير يطلّ علينا الشاعر العراقي المتألق جعفر المهاجر في قصيدته (فما أبهاك يا حضنَ العراق) ليصبَّ حبه لوطنهِ في قالبٍ من الشعر الجميل المتقن الصياغة والمترف الأسلوب والمؤثر في المشاعر، وليملأ كؤوس الأحاسيس بألذ نبيذٍ من المحبةِ والحنين الى الوطن.
الشاعر جعفر حسين أحمد المهاجر المولود في قضاء الحي/ محافظة واسط العراقية شاعر عراقي متميّز بشعره المصاغ في اطار عمود الشعر الكلاسيكي شكلاً وفناً مُختاراً للتعبير، وبابداع عالٍ يضعه في مصاف شعرائنا البارزين. إنه يصنع القوافي بمقدرة المتمكن من أداته الشعرية والمتمرس في فنه، تقف خلفه ثقافة لغوية عالية، إذ كان معلماً للغة العربية في المدارس الابتدائية والمتوسطة بمحافظة واسط ، ومن المشاركين في وضع مناهجها الدراسية النحوية. كما ترفده ثقافة واسعة في الشعر والأدب عموماً ومعرفة دينية واضحة نجد آثارها في شعره وكتاباته النثرية. وكل هذه السمات والخصائص التي نشير اليها نلمسها في منتجه الابداعي من خلال استقرائنا لما يكتب بغزارة وحرص مبني على المراجعة العلمية والموضوعية والاستشهاد والاشارة حتى تكون نصوصه موثقة شعراً ونثراً ومقالات سياسية ودراسات دينية وأدبية.
المستقرئ لشعر جعفر المهاجر يلتقي بمضامين عديدة تتوزعها قصائده، وتتنقل بينها قوافيه ليسكب في ذائقتنا أقداح أحاسيسه ومشاعره الجياشة في كلّ غرض شعري يتناوله. فهو يكتب في حبّ الوطن والحنين اليه والتعلق بأرضه بحرارة الموجود المكتوي بنار العشق الأخّاذ، والعاشق الذي يختنق بحبال الحبّ والالتصاق والبعد عن موطن صباه ونشأته والذي تركه خلفه بسبب ما لقيه من ظلم وبطش واعتقال مما أجبره على المهاجرة، وكأن لقبه (المهاجر) دلالة معاناته وايجاز لتاريخه. إنه لا يتوقف عن أنْ يصور عشقه وتعلقه وعطشه لوطنه وأرضه ويُغنّي حنينَه الى واديه كأي عاشق هائمٍ موجودٍ، متغزلاً بمحبة طاغية ومشاعر مكتوية بلظى الشوق والحنين مصوِّراً حلمه وأمله بالتلاقي بمن يحبّ على أديم العراق:
عشقتكَ في الطفولة والشبابِ
فما أبهاك ياحضنَ العراقِ !؟
وبي ظمأ تعجُّ به دمائي
ولا غوثٌ سوى حضنِ العراقِ
فياأمي ، ويا أهلي وصحبي
فليس بغيركم يحلو التلاقي
عسى الرحمنُ يجمعنا قريباً
هناك هناك في حضنِ العراقِ
فما تكراره لـ(حضن العراق) و (هناك هناك) إلا تعبيرٌ عن كمية الحبّ الذي يختزنه في صدره لوطنه، وتأكيدٌ لذلك الدفء الذي هجره قسراً ففقده ظلماً، وافتقده ناراً تتأجّج في نفسه فتسلمه لألم الفراق الممضّ المشتعل بين الضلوع. ألمٍ يغرز سكينه في القلب وفي الروح فيصوّره لنا الشاعر بأشجى صورة وأبلغ تعبير وأصدق وأحرّ مشاعر وأصفى وأرقّ أسلوب.
هكذا هو في حبه لبلده وتعلقه والتصاقه به الى حدّ الولهِ والشغفِ والحزن والاحساس بالوحدة والضجر والغربةوهو بعيد عنه. فيُسلم نفسه الى أمل الانتظار لساعةٍ عساها قادمة ليحتضن التراب، ويشمّ فيه تاريخه الطويل المخطوط آثاراً على وجه الأرض التي شهدت ملاعب صباه واحتضنت عطاءه الغني بالعلم الذي غذّاه في نفوس تلاميذه وسطّرهُ صفحاتٍ ليستفيد منها الناس، فيكون زاداً له في آخرته وذكرى عطرة تبقى مشرقةً بعده، مترسماً في ذلك قول الرسول الكريم ص: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم يُنتفَع به ، وولد صالح يدعو له).
ونقرأ له في قصيدة (بغداد إرث وإشراق وجلجلة) هذا العشق الصوفي العالق بروح شاعرنا يبثه وجداً وجمراتٍ من الحبِّ الكامن في قلبه ، وقنديلاً يضيء جنبات روحه الهائمة في حبِّ بغداد رمزاً للعراق الأكبر وللوطن الأوسع بجغرافيته، فتواشجت محبةً متجذرةً في أعماق نفسه المولّهة بالأرض التي فيها وُلدَ، وعلى أديمها ترعرع. الأرض المغمسة بحرارة الشمس اللاهبة الناثرة شعاعها دفئاً من العلاقة الملتحمة بين روح شاعرنا وجذور تراب الوطن وفاءً والتصاقاً لا ينفكّ عراهما رغم الهجرة والبعد ومعاناة الغربة والتوق الدائم للقاء. لنقرأ معاً هذا العشق الشجيّ منساباً أناشيدَ من غمرات المشاعر المتدفقة قوافيَ من البوح الحزين المؤثر:
ألفْتُ فيكِ تسابيحاً وعرفانا
وفي جبينكِ فيضُ النور قد بانا
بغدادُ حاضرة التأريخ لحمتـه،
كالنبع أنتِ وكالبشرى لدنيانا
بغدادُ ملهمتي يشدو لها وتري
أظلّ في عشقها القدسي هيمانا
وأرشف الأملَ الوهّاج من فمها
ووجهها كالضحى يحيي بقايانا
لروض بغدادَ تهفو كلّ نورسة
لدفقها الثرّ يبقى القلب ظمآنا
كلُّ الحدائق فيها أينعت ثمراً
والزهر يسري شذاه في خلايانا
في نبضها ألقٌ لاينطفي أبداً
يبثّ في دمنا روحـا وريحانا
بغدادُ ياعبقَ الدنيا وشرفتها
بغداد أجمل لحن في حنايانا
بغـدادُ أمٌ رؤومٌ في محبتهـا
وكلّ من عقّها قد نالَ خسرانا
هذا العشقُ الطاغي للوطن عند الشاعر جعفر المهاجر خلق في نفسه جرحاً غائراً وألماً قاهراً وعذاباً ساهراً لما عاناه هذا الوطن في تاريخه من القهر والاضطهاد والظلم والاستبداد بحيث أستحالت حياة الشاعر وايامه سلسلة من الجراح النازفات في روحه الهائمة بحبّ بلاده وشعبه فوجدت طريقها في التعبير داخل لوحات من القصائد الرائعة المضمخة برائحة الألم ووخزات سكاكين السهر والغوص في التفكير والتساؤل الدائم عن الأسباب والعلل في المعاناة التي تسربلت بأردية الدم والموت والأنين، فلنقراْ ما يقول في قصيدة (فصول من غربتين):
رصد القهر خطانا من سنينْ
وأحال الوطن المأسورَ
روعاً وشررْ
تعبت أضلاعنا من وجع الأيام
أعيانا الكدرْ
بعضنا قد سأل البعض
لماذا صادروا أحلامنا؟
وأحالونا هشيماً للسعرْ؟
ولماذا حجبوا عنا ضياء الشمس
والبوح احتضرْ؟
ولماذا حطباً صرنا لبوق النصرِ
والنصرانتحرْ؟
ولماذا دمنا صار مباحاً
لزنيم ولقيطٍ
ولطاغوتٍ أشِر؟
وأما في قصيدته (ليس الا العراق ظلّ ظليل) فنقرأ كمّية الألم والاحساس بفداحة الجرح النازف من جسد العراق، فينعى الأخوان قاتلاً وقتيلاً، وبذا يكون الحزن دامياً حين يكون القتيل بيد أخيه، لنشهد قصة قابيل وهابيل تعود وبأبشع صورة تحوّل أيام شاعرنا ولياليه سلسلةً من الجراح والآلام لتكون الغربة اشدَّ وقعاً وأحدَّ نصالاً تطعن روحه لتفجر قوافيَ صادحاتٍ بحجم ما يعاني:
ياعبير الدهور ماذا أقـولُ
ها هو العمر يعتريهِ الذبولُ
وطنُ الشمس قبلتي ورجائي
وحديثي عن الفراق طويلُ
سيدَ النخل قد دهتك الدواهي
والأشـقاء ، قاتلٌ ، وقتيـلُ
ترك الغدرُ في رباك دماراً
وشقاءً لم ترتكبُهُ المغولُ
عشعش الموتُ في شجيرات أهلي
و تـوارى ربيعُهـا المأمـولُ
الليالي فيها اغتيالٌ وموتٌ
والصباحاتُ حسرةٌ وذهولُ
وصراع الديوك أضحى سجالاً
فعليمٌ بما جنى ، وجهـولُ
هذه البكائية المنسابة بمشاعر الحزن والأسى نشيداً عامراً بجمراتِ الألم دفعتْ جيوشَ الغربة والاحساس بوطأة الوحدة القاسية لتقتحم روحه الرقيقة المحبة بسنابك خيولها الثقيلة لتحيل أيامَه صراعاً من الحرقة تنهش في صدره لتزيد من معاناته، معاناة الخوف على الوطن، ومعاناة الحنين الجارف لتقذفه في مهاوي السهر وهروب النوم عن جفونه، وهجوم الأسى على جانحيهِ سرايا من العويل:
حزنُ بغدادَ جمرةٌ في جفوني
وأساها في جانحيّ عويلُ
حزنُ بغدادَ مِديةٌ في فؤادي
لستُ أدري متى سيشفى العليلُ
ويستمر في هذا البوح الشادي بألحان القوافي وطعنات مِدى الحزنِ والمنافي وجراح الظواهر النازفاتِ الطوافي وأحاسيس الهائجات الخوافي والأساليب الشفافة المرافي في مرابع الغربة واحتمال نزيف مِحن الأقاصي:
لاتسلْني عن محنتي في الأقاصي
فهي الـداء ، والبـلاء النزيـلُ
غرق العمرُ في خريف الليالي
لايواسيه صاحبٌ أو خليلُ
فدموعي على العراق جمارٌ
من فراق العراق تبكي الفحولُ
أتلوى من فرط عشقي واشقى
ففراقُ العراق خطبٌ مهولُ
ويستمر الشاعر جعفر المهاجر في تصويره وتعبيره عن حبه لوطنه بأجمل أنغام الشعر فينقل لنا معاناته من الوجد والعشق والتعلق الكبير ببلده في معظم ما نشر من قصائد تحمل في طياتها مقدار شاعريته خيالاً وأسلوباً ولغةً عالية النبر والفصاحة، وتصويراً وعاطفة متأججةً نحسها لوعةً تنخر في روحه الشفافة ألماً مضافاً الى ألم الغربة ليقع في براثن الإحساس المضبّب بالضجر والوحدة والاقتلاع عن الجذور وهو في هذا العمر، أطال اله سبحانه في عمره المديد ليغرّد أكثر فأكثر وأشجى فأشجى في عالم أمسى فيه التغريدُ غربةً، والانشادُ اغتراباً، والطيبة والتعلق بالمُثُل العليا ومنها حبّ الوطن والحرص على الأرض ومقارعة الظلم والعدوان والطغيان والفساد غريباً. وأضحت الكتابة والابداع عالماً من الكلام الفارغ، والدجل القائم، بحيث اقتحمه كلّ من هبّ ودبّ ليسمّي نفسه شاعراً أو كاتباً أومحللاً. وأما المبدعون الحقيقيون الذين يكتوون بنار الابداع الأصيل والفكر النبيل والمشاعر الطيبة طيبة النخيل، وعليلة مثل نسائم الظلِّ الظليل، وأصحاب الثقافة العميقة الغزيرة والموهبةالكبيرة والابداعات الغزيرة فهم في غربةٍ عن الواقع اللوّث والمُدجّن بالمزيفين والأدعياء وأنصاف وأرباع المثقفين الدهماء. يقول شاعرنا مصوّراً ما يضطرب في روحه وما يقيم في قلبه من شوق وحنين ونصال الاغتراب في قصيدة (شهقات الغربة على مشارف العيد):
ترفّقْ ، ياألهي بي فأني
عليل الجسم يرهقني اغترابُ
حنيني للديار غدا لهيباً
فلا تطفيهِ هندٌ أو ربابُ
وهذا النفي لا أحبابَ فيه
فياريحَ الصَّبا أين الصحابُ ؟
مثلما يصوّر في بدايتها ما يعانيه بأصدق وأبلغ وأحزن كلام وتصوير فينشد:
سلوا قلبي سيأتيكم جوابُ
فكلّ الجسم يطحنهُ العذابُ
سلوا قلبي ففيهِ ألفُ داءٍ
جراحٌ وانسحاقٌ واغترابُ
ليالٍ ثقلها أوجعْنَ روحي
وأحلامي غدتْ فيها سرابُ
وعيدٌ ضاق صدري فيه ذرعاً
وظلتْ فيه تطعنني الحرابُ
وعيدٌ فيه أشجانٌ كثارٌ
ووحدي فيه يلطمني العبابُ
وعيدٌ صبحهُ صبحٌ عبوسٌ
وقد غطى مراسيهِ ارتيابُ
وعيدٌ ليله ليلٌ بهيمٌ
فلا ضوءٌ يلوح ولا شهابُ
هذه الأحاسيس المحترقة في الغربة وفي يوم العيد تظلّ تدقُ فأسَ الألم في مرابع القلب حين يحاول الارتقاء ولو حلماً ليلتقي بوطنه وهو على البعد سافحاً كؤوس المعاناة الغزيرة وبصدقٍ يُمطر علينا شعراً يسيل من سحاب التجربة المُرّة التي يغرق في موجها المتلاطم في نفسه:
بعيدٌ عن أزاهيري وصحبي
وولّى عن شراييني الشبابُ
لقد ضيعتُ نفسي ياخليلي
فلا لومٌ يفيد ، ولا عتابُ
ثقيلَ الخطو أمشي في نهاري
وليلي ، فيه أحشائي تذابُ
وُعودٌ داعبتني خادعـاتٌ
وبانَ الزيفُ وانكشفَ النقابُ
شجيّ الروح في هذي الأقاصي
وكلُّ صحـائفي قفرٌ يبابُ
الشمس لا تُخفى بغربال، والينبوع الثرّ المتدفق لا يُغلقُ بغطاءٍ دجّالْ . فالشمس تبقى مشرقةً، والينبوع يظلَ متدفقاً، ليتدفأ الناس بتلك، ويرتوون بهذا. والشاعر العراقي جعفر المهاجر شمسٌ ساطعة، وينبوع ثرّ لن ينضب مهما اسشاطت روحهُ بنيران الغربة والاحساس بالوحدة القسرية والبعد عن الوطن والشعور بالألم والاغتراب والضيق والوحدة. هو في زاويته يغرّد بقصائد تنضح بما يختلجُ في روحه، وبسموٍ فني مشهود، وعلو باعٍ في فنه، وأسلوب يتغذّى من ثقافة لغوية وادبية ودينية وشعرية غنية.
إنّ الابداع الأصيل الحقيقي يتحدث عن نفسه بلا واسطة، ويكشف عن صاحبه ولو بعد حين. وجعفر المهاجر شاعر عراقي يحمل كل معاني فن الشعر والخلق الأدبي وهموم الفنان المبدع الأصيل، والتي منها عشق الوطن وحبّ الغير والخير ومقارعة الظلم والاضطهاد والدفاع عن حقوق الناس، يرفده في ذلك احساس شفاف وروح رقيقة حساسة وخيال واسع وتصوير بارع وأسلوب راقٍ مقتدر غني بالمفردات والصور.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
شاعر مبدع ...وفخر لاهل واسط
مما قرأت