تمهيد
الحوار ضرورة اجتماعيّة، ولا غنى عنه بين الناس، إذ بالحوار يتفاهمون على الأمور المشتركة التي تعنيهم.ولكنّ للحوار آداباً وفنًّا، ويتفاوت فنّ الحوار بين شخصٍ وآخر، لذا ترى بعض الناس متميّزين بقدرة كبيرة على التحاور والإقناع، وآخرين يتلعثمون في تبيان مقاصدهم، وقد يكون ذو الفكر الخاطئ بليغاً، وذو الفكرة الصحيحة ضعيف البيان.
ويتّخذ الحوار بين أفراد المجتمع أشكالاً متعدّدة، فمنه العلميّ، ومنه التعليميّ، إضافة إلى أنواع أخرى من الحوار للتفاهم والتعايش بين الأفراد.
وسنسلّط الضوء في هذا الدرس على نوع من أنواع الحوار وهو النصيحة، مشيرين إلى آدابها وأساليبها، التي وردت في الشريعة الإسلاميّة الغرّاء، سائلين الله تعالى التوفيق لما فيه رضاه، إنّه سميع مجيب.
للمستنصح حقّ!
لم تمرّ الشريعة على النصيحة مرور الكرام، بل أعارتها اهتماماً خاصّاً، فالتناصح إن لم يكن بالطريقة المناسبة، فقد يتحوّل لعداوات أو تصارع بين المتناصحين، لذا أورد الإمام زين العابدين عليه السلام له فقرة كاملة، في رسالته رسالة الحقوق، حيث قال عليه السلام:
"حقّ المستنصح أن تؤدّي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به، وحقّ الناصح أن تليّن له جناحك، وتصغي إليه بسمعك، فإن أتى الصواب حمدت الله عزّ وجلّ، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتّهمه وعلمت أنّه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك، إلّا أن يكون مستحقًّا للتهمة، فلا تعبأ بشيءٍ من أمره على حال" .
وسنتعرّض هاهنا لبعض الفقرات شرحاً وتفصيلاً:
1- أدِّ النصيحة
وهو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: "حقّ المستنصح أن تؤدّي إليه النصيحة"، فالمراد به من طلب منك النصيحة، فأوّل الحقوق له عليك أن تنصحه بما لديك من خبرة تعلّمتها في الحياة، لا أن تحجب علمك المكتسب عنه، فالعلم ليس حكراً على حامله، وقد جاء في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: "زكاة العلم أن تعلمه عباد الله" .
2- إرفق به
فلا تكن عليه فظًّا غليظاً، معيباً عليه قلّة إدراكه ولو كان كذلك، فليس من المعيب أن لا يعلم المرء، بل المعيب أن يبقى على الجهل، والمستنصح سلك طريقاً ندبه إليه العقل في استشارة ذوي العقول، واستنصاح أولي التجارب، فلا ينبغي الإساءة له من خلال الغلظة والتعنيف، يقول الله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾ .
هذا فيما يتعلّق بحقّ المستنصح على الناصح، وأمّا حقّ الناصح على من يؤدّي إليه النصيحة، فيشير إليه الإمام عليه السلام وهو:
1- الاستماع له
وهو ما أشار إليه عليه السلام بقوله: "وحقّ الناصح أن تلين له جناحك، وتصغي إليه بسمعك".
فأمّا لين الجناح فهو من باب التواضع لمن هو أعلم منك، وأعقل، وأمّا السماع فهو من باب التأدّب في الحديث، فمن الأدب عدم المقاطعة، والإنصات لمن يتحدّث إليك.
وقد جاء في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "إسمعوا النصيحة ممّن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم" .
2- الطاعة
هذا إذا كان في رأيه صلاحاً، وتوافقاً مع الشريعة والعقل، وهذا ما أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله: "فإن أتى الصواب حمدت الله عزّ وجلّ، وإن لم يوافق رحمته، ولم تتّهمه وعلمت أنّه أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلّا أن يكون مستحقّاً للتهمة، فلا تعبأ بشيءٍ من أمره على حال".
وأمّا لزوم طاعته فيما لو أسدى لك النصح الحسن الذي فيه خير الآخرة، فلأنّه يحمل إليك خيرك، بل ما هو أبقى لك، و﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ .
وقد جاء في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أمرك بإصلاح نفسك، فهو أحقُّ من تطيعه"
بل إنّ من التوفيقات الإلهيّة للإنسان المؤمن، أن يكسر نفسه التي تتأبّى غالباً سماع النصيحة، أن يستمع ويطيع الناصح، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه: "طوبى لمن أطاع ناصحاً يهديه، وتجنَّب غاوياً يُرديه" .
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة"
نعم طوبى لهم، لأنّ في استماع النصيحة كسراً لكبرياء النفس وعنفوانها, وينبغي على مستمع النصيحة تحمّل المرارة التي قد تتضمّنها، وأن لا يؤدّي ذلك للإنزعاج الشخصيّ من الناصح، الذي لا يستهدف أشخاصنا، بل تقويم أعمالنا أو دلّنا على ما فيه الصلاح لنا، فعلى المستمع الإنصياع أوّلاً وآخراً لقول الحقّ، على صعوبة تحمّله، وقد جاء في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إتّبع من يُبكيك وهو لك ناصح،ولا تتَّبع من يُضحِكك وهو لك غاشّ" .
لأنّ بعد المرارة النفسيّة التي يتحمّلها المرء، حلاوة الوصول للمرام،كما جاء في الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "مرارة النصح أنفع من حلاوة الغشّ" .
أحبب ناصحك
يتذمّر البعض من الأشخاص الذين يتوجّهون إليهم بالنصيحة، والأولى أن يقدّر هؤلاء الناس الذين يبذلون لنا كلّ الخير ممّا علمتهم إيّاه الحياة، أو اكتسبوه في عمرهم المليء بالتجارب، فهم أفضل الناس بالنسبة لنا، وهم من يدلّنا على الصلاح بدون منّة أو مقابل، ووصيّة أهل البيت عليهم السلام لنا أن نحبّ هؤلاء الناس، فقد جاء في الرواية عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "ليكن أحبَّ الناس إليك المشفق الناصح" .
ناصح لا يستمع إليه
وهو الذي يشكونا يوم القيامة، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ .
إنه كتاب الله تعالى، كتاب الهداية للبشر، والذي يصفه أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: "إتّعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله... واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ... واستنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم" .
فهل أنّ كتاب الله تعالى هو المستنصح لنا دوماً، وهل نقيم له في تقييم أمورنا وزناً، هذا ما نسعى لأن نكون عليه، لأنّ الناصح في حياتنا العادية قد يغشّ، وقد يموّه، وقد يضلّل، وقد يدلّنا خطأ على غير طريق الصلاح، أمّا القرآن فلا؛ لأنّه الكتاب الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ .