بين البخار المتعالي من كأس شاي مخدر يغلي في رائحة زكية والدخان المتطاير من سيجارة عاليًا يعبث في الهواء النقي ترتفع بصمت آهات أو ضحكات وبسمات من يعب الشاي ويدخن السيجارة.
جلسنا وكان بالقرب منا أواني شاي أسود خالص الذي تناصفه بالماء مثل الدواء ليكون أحمر اللون ثم تضيف له نصف كوب من السكر وتأخذ منه اثنين في الصباح تكفيك من الشاي ليوم كامل. جربت واحدة عندما دعاني أحد الحاضرين، طيبة جدًا.
في اليوم الثاني رأيت شابًا واقفًا في الطريق، ساندًا ظهره إلى عمود حائط حاملًا طفلة جميلة بشعرها الأشقر ولون وجنتيها الوردي -لعلها ابنته- يدخن سيجارة طويلة من النوع الرخيص. مدت الطفلة يدها إلى رأس السيجارة بسرعة خاطفة فأحرقت السيجارة يدها وبكت. تألم الشاب وأخذ يفرك يدي الطفلة ويبرد الألم.
في لحظة ضعفه، تطفلت عليه وقلت له: أيها الشاب، هل تساوي هذه السيجارة حرق أصابع ابنتك الرقيقة؟ لماذا تدخن أنت وتنفث صحتك ومالك في الهواء؟ ستون سنة ما أنفقت قرشًا ولا فلسًا واحدًا في سيجارة لئيمة، أشتريها بمالي الثمين وتقتلني بسمها! شكرت له لطف الاستماع وأخشى أن أكون أضعت وقتًا في الحديث معه فمن غير المتوقع أن يترك هذه المدخنة الخبيثة وقد بان أثر تمسكه بها في أسنانه ومبسمه.
في الدنيا أسرار! هذا يدخن بعد وجبة دسمة يكمل متعته بسيجارة وثان يدخن لأنه مهموم لا يجد ما يأكل والرابح بائع السيجارة. في الدنيا من يستيقظ على كأس شاي حلو يرقع مزاجه الخرب من سهر ليلة جميلة وثان يبدأ يومه بكأس من الشاي المر يفكر كيف يدفع العربة ويكافح في السوق وفي آخر النهار يأكل خبزًا مبتلًا بالشاي. وفي كل الأحوال من يملك مصانع الشاي يكسب المال من الفقير والغني.
سبحان الله -المتعالي- من يقسم الأرزاق؛ من تصبه بندقية العطاء بطلقة ورشة من العطاء تغنيه والمحروم من تنال منه سهام البلوى أكثر من غيره وفي كل خير لمن أعطي وشكر أو حرم فصبر.
تفاوت البشر واختلافهم في المعيشة، لا يعني شيئًا في تفاوتهم في المقامات والمنازل المعنوية مطلقًا، فكم من جاهل ينفث الدخان في الهواء ويقضي لياليه في حانات ورصيده بالملايين، وعالم لا يملك قوت يومه يملأ صدره بدخان سيجارة رخيصة وكأس شاي رخيص؟
ابتسم أو ابك، ففي عالم الشاي والسيجارة متسع للجميع، الغني يمكنه أن يدخن السيجارة، يتغدى ثم ينام، وبعد القيلولة يشرب كأسًا من الشاي والفقير أيضًا باستطاعته بكل حرية ودون تمييز أن ينفخ دخان سيجارة ويأخذ كأسًا من الشاي! وفي كل الأحوال أرجو ألا يخرج أصدقائي القراء بخلاصة أنني أشجع على التدخين، معاذ الله!