السخرية والمزاح والنكتة
السخرية هي الاستصغار كصورة عامة، وباقي الأفعال متولدة من هذه النظرة.
والسخرية ترجمة لطاقة التكبر والغرور والاستعلاء في نفس الساخر، فإما أن تكون هذه السخرية على شكل كلام يراد منه الضحك لتحقير ذلك الشخص، أو على شكل فعل معين أو رسم كاريكاتيريا مثلا، أو على شكل إشارة معينة حسب ما يفهم منها، وغاية ما يفهم منها هو التقليل من الشأن.
أما الاستصغار، فتكون غائبة في بعض الأحيان في الوضع الظاهري، وتفسر على أنها مجرد رغبة في الضحك واللهو، وفي الحقيقة أن الغاية منها الأساسية هي تحقير الغير لرغبة مكبوتة في النفس البشرية في أن تكون هي الأعلى والأفضل، فهي ترصد وتتبع أخطاء الغير، وقد تتصنعها في بعض الأحيان وتحاول أن تصور هذا الخطأ بأبشع وأتعس صورة لتحقيق الهدف الأساسي وهو الاستعلاء، ومن هذه الأساليب والتصورات السخرية والمصحوبة في بعض الأحيان بغاية ظاهرية وهي اللهو.
والمؤمن من روض نفسه فكبتها عن هذا السوء، فاحترم أخوه المؤمن حتى في مورد خطئه، وعامله فيما يقلل من تأثير ذلك الخطأ على الفرد نفسه وعلى المجتمع، وعامله بما يصلح في نفس ذلك الشخص، فلا يخطئ مثل هذا الخطأ مستقبلا، هذا إذا وجد خطأ حقا.
أما في الموارد التي تكون فيها السخرية في غير موطن الخطأ والصح، أي في أمور الحياتية وما يتعلق بالمعيشة والميول الشخصية، فإن هذه السخرية اعتداء مباشر على ذلك الشخص، وحرام يسجل على الساخر لحظيا، ولا يغفر له حتى يعفو من وقع عليه ظلم الساخر، وابتلاه الله، كرد فعل طبيعي أو جزاء دنيوي بخطئه هذا، بأن يسخر منه أما في المورد نفسه مستقبلا أو في موارد أخرى.
وطبعا الشخص الذي يكثر من السخرية على الآخرين وخاصة من يحاول إضحاك الآخرين على حساب شخص ما فإنه سيعيش مستقبلا في وحدة عن الأصدقاء المخلصين، لأن لا أحد يريد الارتباط بهذا الصنف من الناس.
واعلم أن السخرية بالدين هي أشد من العصيان والرفض، ولذلك كان عقابها أشد، فالساخر لا يحمل رفض الفكرة ورفض الانقياد لها فقط، وإنما يحمل أيضا التصغير والاستصغار لهذه الأفكار، والسخرية من جملة هذه الأفكار، وبالطبع هذا يحمل تأثيرا أعظم وأشد وقعا سواء على الرسل، أو على باقي الناس ممن هم بين مصدق ومكذب لهذه الأفكار، أي أن هذه الأفكار والأفعال المتعلقة بالاستهزاء أكثر عصيانا وتأثيرا في نفوس الأنبياء المرسلين، وكذلك نفوس العامة، لأنك تحمل في قلبك تعظيما لها واحتراما، وهؤلاء المجرمون الذين يسخرون بالدين أو برموز الدين لم يتصرفوا تجاه هذه الرسالات وفق هذا المنظور، لذلك استحقوا عذابا أشد من التكذيب والعصيان، لأن فعله كان أشد من ذلك، فلعنة الله على الساخرين بالدين وأهله.
والنكتة أو المزاح هي كذلك جيدة في مكانها الصحيح، ولنبدأ أولا في الحديث عن المرح بشكل إجمالي، حتى تكون النظرة أشمل، فنقول: المرح له تأثير إيجابي عموما على نفسية الإنسان وعلى جسده، أما النفس فيعطيها نوعا من الاستقرار والطمأنينة؛ مما يجعل النفس أكثر قابلية التفاعل الإيجابي مع واقع الحياة، والعكس بالعكس، هذا طبعا ضمن إطار حدود المقبول، فعن الإمام الصادق (ع): «ما من مؤمن إلا وفيه دعابة».
وفي بعض الأحيان يزداد تكرار هذه الحالة، أو يزداد زمن معيشتها فيسبب بلاهة في التفكير، وعدم جدية في التعامل الصحيح مع واقع الحياة، وهنا يتحول إلى فعل سلبي، فالضحك له تأثيرات إيجابية كثيرة على جسد الإنسان، إذ إنه يفعل نشاطاته الحيوية كلها تقريبا، إلا في حالة الانفعال الشديد في الضحك، فإنه يبدأ بالتأثير السلبي المباشر على جسم الإنسان، وعلى القلب والجهاز العصبي، هذه أهم التأثيرات للمرح كما استفدناها من أئمة الدين، وهم أهل البيت (عليهم السلام).
والمزاح والنكتة داخلة في عنوان المرح، إلا إذا كان تأثيرهما المباشر والأكثر هو على المقابل أو على الغير، والنكتة والمزاح لا يكون بطبيعة الحال جيدين في كل الحالات، ولا تركهما سلوكا صائبا في كل الحالات، والدين الإسلامي أرشدنا إلى موارد يحسن فيها المزاح، ويثاب فيها على النكتة، وموارد قد يعاقب فيها ويأثم على ذل.
ومن الموارد المستحسنة للنكتة مورد التوتر والحزن، قد يكون التوتر بسبب الأمور الحياتية، ومن الموارد المستحسنة للمزاح ما إذا كانت لغرض جلب السعادة أو البهجة إلى النفس، وقد يكون المزاح على نحو الاستهزاء بالمقابل، وقد يكون هذا الاستهزاء بوسيلة النكتة أو الرسم الساخر في غير محله ولغير مستحقه وخاصة إذا كان من المؤمنين، فإنه أقل ما ينتج عنه هو زرع الكراهية والعداوة في نفس المقابل، وحسابه على الله، وقد يرجع ضرر هذا النوع من النكتة على فاعلها.
أما الإفراط في استخدام المزاح والنكتة فهو سلوك سيئ، يتسبب في تراكم السلبيات على الصعيدين الشخصي والاجتماعي. فزيادة المزاح تُعتبر تجاوزًا لحدود الشخصية وقدرتها على كسب احترام المجتمع. يمكن أن تُفسر بعض الروايات التي تنصح بضبط استخدام المزاح هنا، إذ يُشدد على أهمية التوازن بين الجدية والمزاح، ومن ذلك «إياك والمزاح فإن المزاح يذهب بنور إيمانك ويستخف بمروءتك»، «لا تمزح فيذهب بهاؤك»، و«آفة الهيبة المزاح».
إذاً، كثرة المزاح لا تعني نبذًا للمزاح نفسه، بل تحذيرًا من الإفراط فيه. ومن الناحية العقلية، يمكن أن يؤدي الإفراط في المزاح - كما ذُكر سابقًا بشكل عام - إلى تشويش في عمليات الاستدلال والتفكير، نتيجة تعود الشخص على زيادة والمزاح.
فكثرة المزاح مزرعة لفساد العقل والذهاب بالرشد.
والله ولي التوفيق،