جدّي الذي كان يصلي في العراء والبراري
قال لي وهو ينظف بندقيته التي كانت أطول من قامتي
أن المراعي طهارة الرعاة الحفاة
وأن المطر الذي تتنفسه غلاصم التراب أوقات الجفاف
سكن قريتنا عندما طبخ القرويون حلة واسعة من الطعام
كانت النار متقدة جدا كعيني فلاح وزع الفطائر على المزارعين
لم تك تلك الملاعق الخشبية التي تناقلتها الأفواه حطب الشتاء
جدّي الذي اصطاد العصافير ببندقيته القديمة
دفناه تحت شجرة زيتون تاركاً بارودته في فناء الدار
وأذكر جيداً أن مخرن الرصاص كان خاوياً
ورائحة البارود كانت بعضاً من رائحة جدي
كانت شيئاً لم يعد يخيف عصافير قريتنا
2
الوطن الذي نام في القفص صار وحشاً مفترساً
كان العدو كالذباب يأكل يدي الصباح
أتذكرين يا جدتي حين كنا نلم الخبيز قلتِ لي
أن هذه الورود التي نزرعها تمرُّ عليها أبقار العدو
وبدلا من الحليب يبيعوننا الرصاص
كان الصيف حاراً لم نشترِ مروحة ولا فتحنا النوافذ
مرّت حافلات قريتنا تحمل سلال عرقنا
في الصباح حين يبدو الذباب مزعجاً كانوا يغسلون بها أرصفة المدن
أفكرُ كثيرا..
أصمتُ كثيراً..
وحين يجافيني النوم أعدّ أسماء الذين رحلوا
وأشنق كوابيسي على حبال البامياء التي كانت تعلقها جدتي على عتبة البيت
أجلس كثيرا ..
وأعيد حياكة الأمل كلما انفتق ثوب الوطن
3
أحيانا أشعر أني سعيد جداً لدرجة أدق بها أبواب الجيران وأختبئ
سعيد كمحارب ينام لدقائق وسط الحرب
عندي صندوق مليء بالذكريات
كصندوق الدنيا أستطيع أن أحدثك عنه كل مساء
وأحدثك عن تلك التي كانت في العيد لا تخبئ حزنها
توزعُ علينا السكاكر وبعضا من دمعها
كان لها أسئلة عديدة
وأنا بسيط جدا تستهويني قصص الجن وأفلام الرعب
وحين لا أعرف الجواب أكون عنيفاً
أحياناً أكون سعيداً جدا أكتب اسمك على جدار الكنيسة القديم
وأحفظ كل التعاويذ التي ربما تمسح عن ثغرك الأسئلة وطعم السكاكين الصدئة
لأزرع مكانها شجرة غاردينيا بيضاء بيضاء جدا لا تهرب منها الحمائم
أشغل أغنية و أعطي البقال بقشيشاً
أوزع الحلوى على كل الجيران
عندما اكون حقاً سعيداً سعيداً جداً
4
بائع المظلات والزقاق الذي غاب عنه المطر
الشوارع التي مرت كئيبة في وجهه كأنشوطة حمراء مرمية على الطريق
كانت تقيس خطواته التي أصبحت أصغر مما كانت عليه
النوافذ المغلقة والشرفات التي غابت عنها الستائر تجعل الشوارع ضيقة
طارت الهدايا والذكرى
والريح مقتل المظلات
في ذلك الليل الجالس على قلبه
غابت الكراسي الخشبية ودكاكين الألبسة الصيفية
كان يروي أسرار مدينة تفقد مفاتيحها
و كم كان يشتهي الملح في مواسم السكر حين كان لص اللوز
في تلك القرية التي أصبحت قامة العشب فيها طويلة
بائع المظلات الحزين أصبح يبيع البالون ويكتب عليها رسائله
في مدينة لا أطفال فيها
5
أخبريني أما زالَ كل شيء بخير
لي الكثير لأقوله عندما يغلي الليل مع شاي المساء
حيث يشتد صوت الأغاني القديمة أكتب على جدران الغرفة
الجدران المؤدبة أكثر من اللزوم أريد أن أرجع طفلاً
على اليمين كانت لي الكثير من الأبواب والياقات البيضاء
وسجادة حمراء
اللص الذي كان يحمل كيساً كبيراً على ظهره
كيساً بحجم بطيخة صيفية
كانت قبعته طويلة وكان القمر كُرتَه التي مشى عليها
حين تنام النوافذ اقفز إلى شبّاك حبيبتك وقلبك يرتجف من عيون البوم
اسمع أصوات أنفاسها
وغنِّ لها بصوت هامس ..
هامس جدا فوق اللزوم أن كل شيء بخير
6
غداً سنأكل من صحن واحد ونشربُ من طاسة نحاسية واحدة ..
البئر الممتد في بساتين القرية وزّع علينا حبات البندورة و أسراب الجراد
لا توصد أبواب المدرسة بالسلاسل والأقفال الكبيرة
حين أكتب بالطبشور على اللوح
تضيعُ مفاتيحي في رنين السلاسل
لا توقف الموسيقى وأنا في العرس وسط ساحة القرية
الهدوء حزن القرويات الحلوات وقشٌ يحترق فيه الرحيل
للفجر الذي يوزع قطع قماش بيضاء وأحذية للرياضيين
سنركب الأمواج
لن تلتوِ أقدام البحر حتى لو ركض على جبهة الصخر
وعند المساء.. عندما تتوزع اكواب الشاي ودفاتر الشعراء
سنشعل ناراً هادئة على الجبل من حطب قريتنا
ذي الرائحة الحلوة كألف زجاجة عطر
غداً سنأكل من تلك الحلة الكبيرة التي طبخناها على نار هادئة
لا تقل لي تحب المعلبات والمياه الغازية
ولا تشرب إلا في كؤوس زجاجية
في الصباح الذي تأخر جداً على غير عادته
كعاشق تأخر عن موعده عندما وجد دكاكين الزهور مغلقة
7
عدت صغيرا سأسهر حتى الصباح ما
إذن تعالي غنِّ لي عن مواسم التوت و رائحة السفر وأغاني الليل
عن أيلول والحقائب المدرسية و فطور الصباح
عن القمر عندما يسكن زجاجة الخمر فيكثر المتسكعون وبائعو السجائر
كنجمة بيضاء يؤشر إليها العشاق ألمع وحدتي
تعالي وامسحي بيديك حبة الخوخ هذه و غبار الرحلات وأعمدة الخيام
منذ زمن أغني لا لأحد بل ليستيقظ الجيران
8
لا تخافي الجو جميل أمّا الغبار تعودتُ عليه
أصبحت شاحباً قليلاً بدلاً من القهوة أشربُ الليمون صباح مساء
أقف كالبهلوان وسط الشارع و الجروح
أجمعُ حزن العالم وأبدأ بتدويرها على إبهامي كالكرة
أطل أحيانا على الغابة كذئب فقد أنيابه يراقب ما يجري ويرحل
هل تعلمين في ذلك اليوم أكلت لحماً كان طعمه محلياً جدا
تقيأت عدة مرات كما تقيأت عندما مرّت بائعة اليانصيب قربي في كراج العباسين
حيث يجتمع الحليب والنبيذ وتفقد كل الشوارع أحذيتها
كانت تعتمر قبعة شتوية مرّ عليها ألف طريق
تصنع من الليل علباً فارغة وتضعها في حاويات المدينة
قالت إن الدجاج الذي نربيه تأكل بيوضه الأفاعي
لا تخافي الجو جميل وأن المطر الجميل الجميل جدا كأستاذ الموسيقى قادمٌ
و لن تلزمكم بخاخات الربو ولا الصيدليات المناوبة
9
ما دام هناكَ طريق لن تعرقل عربتنا الحجارة
عربتنا الملونة بالبالونات و قطيع الحملان وصناديق الحلوى
الطفل الذي جلس في أيلول رغماً عن حزنه
شمّر عن ذراعي الصباح
لم ينسَ أن دفاتره ورسوماته تدفأ يها الجنود وقت الحرب
وأن حقائبه التي احتوت على عروسة الزعتر وحبات البرتقال خبؤوا فيها القنابل
ابتسم وسحب الشمس من ياقتها إلى شرفتي
تذكرتُ أيلول و فرحة الحقائب المدرسية الجديدة
وأبي الذي لا ينام إلا على صوت المذياع وساعة لندن
ما دام هناك طريق أزرعُ ضحكة من مراعٍ و شتلات البندورة
وأبكي مع مواسم المطر
تنمو شجرة فاصولياء طويلة جدا وأبحث عن الغول الذي يسكنني
الغول الذي صار عملاقاً منذ أن تسلق جدار الحي القديم و سرق أسناني اللبنية
يداي باردة كجدران الغرفة
يداي ساخنة كرغيف الفرن
أفكر كثيرا وأعرف أن هناك طريق معتدل عندما يمر بائع الفراولة وحيداً في زقاق المدن
أشتري سلتين أو ثلاثة ولكن بعد أن تذوقها
تتلون شفاهي وشفاهكِ بالأحمر
لن تعرقل عربتنا شيء حتى لو انطفأت الكهرباء عن كل الشرفات
10
كان عليَّ أن أكذبَ عليكِ مرتين
قلتُ لكِ لا أحبُّ الصيف
يشتعلُ الصباحُ ولا أبحث عن أحد
أمسك الجريدة بيدٍ وبالأخرى رغيفاً ساخناً
أبحثُ عن بائعِ اليانصيب وأوزع أحذية لتلك الأقدام التي تيبّست من تسلق الجدران
كانت المصابيح أغنية الأجنحة
يؤلمني هذا الصباح أن أنظف مداخن المدينة
من حطب الغابة التي كانت أساسات بيوتنا
وكم كانت تدفئ خبزنا الأسمر في فرن التنور وأيدي الضيوف
قبل أن يستوردوا القفازات
كان يجب أن أكذب عليكِ مرتين هذا الصباح
إنه نيسان والكذبة بيضاء بيضاء جدا كصحن مهلبية في الصالحية
كالسحاب الذي مرَّ قبل قليل سريعاً
هل رأيته؟.... افتحي النوافذ هل من مطر؟....
11
من تركُ القمرَ وحيداً لن يأكلَ خبز الليل
كجندي على الحدود يغني
لا في المهرجانات ولا لحبيبته بل في حراسته الليلة
ستبقى أغانيكَ تهزها الريح و المناسبات
كشاحنة مليئة بالبطيخ تمر في حقول القرية
لن تقف لإشارات المارة
ستمضي تحمل البطيخ وبعض الجرائد القديمة
الطالب القصير في المقعد الأخير رفع يده
قلتُ له أن التوزيع في هذا العالم غير منصف
لم يصدق
سأل بفم كبير كأنه مضغ علبة كاملة من العلكة
في أخر مرة ُوقفتُ فيها على الشاطئ كانت السفن بعيدة كما وجه أمي
وبعض الصيادين جلسوا وجلسنا
كان القمر شهياً كقرص فلافل
ترك القمر وراءه كأم تنسى طفلها في السوق
سحبَ شباكهُ وأغلقَ كل النوافذ والأبواب في غرفة كمخبر طبي
نمت فيها بيوت العنكبوت وبعض المسامير الصدئة
شرّح كل ذكرياته فيها
تماماً كما طبخ الفاصولياء داخلها
من ترك القمر وحيداً لن يأكل اللوز في ليالي الصيف
سيملأ جيوبه بالملح
12
لا تفتحوا الأبواب في الليل حين يحين الصباح كل أبوابنا مفتوحة
نضع الكراسي الخشبية أمام العتبة في الفيء
للضيوف والقطط أثناء قيلولة الظهيرة
وحين تفتح النافذة في الليل
لن يطرق القمر الباب إنما يجلس في كراسي العيون
بدون استئذان كالحب الطازج
أمسكه من رقبته واصنع مثلجات من حليبه لكل الأطفال
الأطفال الذين سرقهم الحرامية حينما فتحوا الباب
في ليل غريبٍ كعيون الماعز
كانت تعويذة الليل بعضاً من كلمات علي بابا
بعضاً من أخشاب أبوابنا الدافئة
عندما مرّوا في الممر الضيق بأقدام حافية
13
أخبار مدينتي لا تسر ولكن سأحكي لكِ سراً
المدينة الممتدة كسيف دمشقي حولها الحبشي إلى مقصلة ليمارس هوايته
الحبشي الذي توزع كطالب ينشر القمل في المدرسة
وأبي يدخن كثيراً ويسمع الجيران سعاله في المساء
منذ أن احترق محصول جارنا في الليل
لم نجلب الماء وقتها قبضنا على من وزّع القبل
أما أنا ما زلت أشرب النعناع حين يصيبني الزكام واستنشق غبار المدرعات
ولا زلت على العهد حققت رقماً قياسياً بالأحلام
أصبحت ملياردير أحلام
يؤرقني أن العيد هذا العام سيحل في الصيف
يقولون لن نستلم الراتب
وأننا لن نستطيع شراء بدلة جديدة ولا دمى للعاطلين عن العمل
نسيتُ أن أسألك ما أخبار أمي ؟....
هناك سر أريد أن أقوله لها سر خطير جدا كأسرار الطفولة
لن أقوله إلا على سطح بيتنا ونحن نشرب القهوة
حين تمشي قطة جارنا الهوينا على الجدار وتنبعث رائحة ريحانة الدار في المساء