جذبت انتباهه بشدّة حين رآها من نافذة سيارتها تمرّ من أمامه فى أحد شوارع العاصمة
وتمنى لو أتاحت له الأقدار أن يتعرّف عليها ..
بات ليلته ووجهها لا يكاد يفارق عينيه ..
بعد أيام قلائل دخل أحد المطاعم ليتناول غداءه فإذا بتلك السيدة ذات الجمال الحزين
كما كان يصفها لنفسه ,فإذا بها تجلس وحيدة إلى المائدة المجاورة له
لم يقاوم رغبته فى التعرّف عليها ..فحيّاها بجرأة وأخبرها
ففوجىء بها يصفّر وجهها وترتبك وتتلفت حولها فى قلق,ثم ترجوه أن يخفض صوته
حتى لا يسمعه أحد !!
تعجب الشاب لإرتباكها ,لكنّ سعادته بمبادلتها الحديث كانت أكبر من كل شىء
قدّم لها نفسه وأبدى رغبته فى أن يزورها فى بيتها
رحبت به السيدة وأعطته عنوانها وموعداً للقاء فى اليوم التالى .
وفى الموعد المحدد كان يطرق باب بيتها ,فخرجت إليه الخادمة وأبلغته أن سيدتها قد غادرت البيت منذ دقائق!!
أحسّ الشاب بضيق شديد وكتب لها رسالة تاركاً لها إياها مع الخادمة ومطالباً إياها أن تحدد موعداً
جديداً وأنّه سوف ينتظر منها الرد
ومضت أيام قبل أن تصله على بيته رسالة تُحدد له موعد الزيارة القادم .
ذهب الشاب إليها فى الموعد الذى قامت بتحديده ,فاستقبلته فى صالون بيتها بترحاب
تكررت زيارات الشاب لها ,وفى كل مرّة يزداد افتتاناً بها
وقد عرف منها أنها أرملة ولم تنجب وميسورة الحال ..واعترف لنفسه أنه يحبها بجنون
وحدّث نفسه بأنه يرغب فى الزواج منها وليس هناك مايمنعه من ذلك
فكل ظروفه تؤهله لذلك وهذه السيدة جميلة وجذابه ,لكن شيىئاً واحداً فيها يثير فى نفسه الشكوك
إنه غموضها الغريب
فهى تتكلم معه دائماً بصوت خافت,كأنما لا تريد أن يسمعها أحد ,وتتلفت حولها بقلق كأنما
تخشى شخصاً مجهولاً يمكن أن يفاجئها فى أىّ لحظة ,وهى رغم أنها تعيش وحيدة فقد طلبت منه
ألا يتصل بها مباشرة وإنما عن طريق صديقة لها تعمل بإحدى المكتبات العامة
تكالبت عليه شكوكه وبالغ فيها حتى تصور أنها خاضعة لسيطرة شخص مجهول لا تريده أن يعلم بأمره
ولا يعلم الشاب به ,فزاده هذا الغموض رغبة فى أن يعرف كل شىء عنها قبل أن يرتبط بها
فى أحد الأيام كان الشاب يسير فى حى فقير متوجهاً إلى دعوة غداء
ففوجىء برؤية الأرملة الجميلة تمشى فى الشارع وهى تغى وجهها بإيشارب أسود
ودهش لرؤيتها فى هذا الحىّ الفقير ودهش أكثر لهيئتها المضطربة وهى تسرع فى خطواتها
وتتلفت حولها قبل أن تدخل بيتاً متواضعاً فى نهاية الشارع .
وقف الشاب ذاهلاً فى مكانه وضربات قلبه تتزايد...
إذن هذا هو السرّ الذى تخفيه عنه..لابد وأنه رجل آخر تأتى إلى لقائه فى هذا البيت القديم ..
لكن..لماذا إذن رحبّت بالتعرف عليه واستجابت لتودده .!!
طاف الشاب حول البيت حائراً وخمّن أنه بيت يؤجر كغرف مستقلة ,فازداد سوء ظنه بها
قادته قدماه إلى مدخل البيت ,فرأى منديلاً صغيراً عرف أنه منديلها الذى سقط منها وهى تدخل البيت فى إرتباك
التقط المنديل وغادر مكتئباً
كان لديه معها موعداً فى نفس اليوم فى بيتها ..تردد فى الذهاب ..ثم قرّر ألا يذهب
ثم تراجع عن قراره وقرر أن يزورها ليضع حدّاً لحيرته معها
وفى الموعد استقبلته فى الصالون ..أتته مبتهجة مرحبة وأخبرته بأنها أمضت ساعات اليوم كلّه تنتظر موعد زيارته
حينها لم يتمالك الشاب نفسه من الإنفعال وأخرج لها منديلها وقدمه لها وأخبرها بأنه قد شاهدها
ظهر اليوم فى شارع كذا تدخل بيتاً يتم تأجير غرفه مفروشة
ثم سألها بإنفعال عن الرجل الذى تلتقى به هناك ..فأجابته بأنها لا تلتقى برجل سواه
هاج الشاب المخدوع وثار عليها ثورة عارمة والبها بالإعتراف بالحقيقة حتى يمكنه الوثوق بها
وطالبها بأن تعترف بالحقيقة حتى يمكنه الوثوق بها
فأجابته باكية بأنه ليس لديها ماتعترف به
وأن الحقيقة هى ماذكرته من أنها لا تلتقى بأى رجل آخر .
لم يصدقها ..ووجّه إليها كلمات قاسية ..
قابلتها بالإنهيار والدموع
ثم ألقى بمنديلها على الأرض وغادر بيتها منفعلاً
وفى بيته أدرك أنه لن يستطيع تحمل إنهيار أحلامه فجأة ,فقرر السفر خارج العاصمة لفترة طويلة
سافر بعيداً ورجع بعد أسابيع ومازال حبها كامناً فى أعماقه لكنه لم يستطع أن يعود إليها
وبعد شهر واحد علِم بوفاتها المفاجئة فصُدِم صدمة هائلة واحتجب فى بيته عدّة أيام
لا يقوى على الخروج منه
ثم خرج أخيراً فوجد نفسه يتجّه إلى البيت القديم فى الشارع الفقير ويطرق بابه
خرجت إليه صاحبة البيت فسألها عن السيدة التى تستأجر إحدى غرف بيتها وتأتى إليه وقت الظهيرة
فتذكرتها على الفور وقالت له عنها:
إنها سيدة محترمة استأجرت غرفتها منذ عامين لكنها
لم تأتِ إليها منذ شهور.
تردد الشاب قليلاً قبل أن يسألها عمن كانت تلتقى به حين تأتى إلى غرفتها
فانزعجت السيدة وأكدت له أنها لم تلتقِ أبداً بأى رجل فى هذا البيت
وإنما كانت تأتى وحدها فتجلس فى غرفتها ساعة أو ساعتين تقرأ المجلات وتشرب القهوة ثم تنصرف فى هدوء
لم يصدقها الشاب فى البداية ..لكنها أقسمت له على صحة ما قالته فانصرف متعجباً وحزيناً
مضت الأسابيع وصورة الأرملة لا يفارق خياله ومع كل يوم يمضى يتزايد إحساسه بأنه قد آلمها كثيراً فى لقائهما
الأخير ويتمنى لو كانت على قيد الحياة ليعتذر لها ويواصل معها قصة الحب المبتورة
وذات يوم التقى بصديق قديم له من أيام الدراسة وحكى كل منهما للآخر عن حياته وهمومه
روى الشاب قصته مع الأرملة المحيّرة وسأل صديقه:
هل تصدق أنها لم لم تكن تلتقى بأحد فعلاً فى ذلك البيت؟
فكّر صديقه الذى كان على دراية بالنفوس البشرية طويلاً ثم فاجأه بقوله :
نعم أصدق ذلك ,وأصدق أنه لم يكن فى حياتها رجل سواك!!
فسأله الشاب متحيراً:
فأجابه الصديق :
تفسيرى الوحيد أنها كانت تعيش وحيدة وحياتها رتيبة خالية من الأسرار
وليس فى حياتها من تحبه وتحلم بالإرتبا به
ساعات نهارها ويلة مملة ..وساعات ليلها بطيئة ثقيلة
وكل من حولها من النساء لهن أسرارهن الخاصة مع أزواجهن أو خطابهن أو أصدقائهن
فقررت أن تصنع لنفسها "سرّاً خاصاً" تتخفى به عن الآخرين ففعلت كل مافعلته
فقد كانت حياتها خالية من الأسرار
فاشتاقت أن يكون لها هذا السرّ الخاص ..ولو لم تُفسد أنت هذا الأمر مبكراً
لأصبحت أنت سرّها المثير ..وتخلّت عن استئجار تلك الغرفة !!
وسواء اقتنع الشاب بذلك التفسير أو لم يقتنع
فأنا شخصياً مقتنعة به طالما أنها رؤية الكاتب العبقرى الأيرلندى
أوسكار وايلد
الذى كانت لديه من البراعة ماتمكنه من الغوص فى أعماق النفس البشرية
فكتب لنا قصته الرائعة
أبو الهول بلا أسرار"
أنتظر قراءتكم ومناقشاتكم المثمرة وأرجو أن تكون رائعة أوسكار وايلد قد نالت إعجابكم