حكت لي جدتي أقصوصة من زمانهم، حيث كانت الحياة هادئة، هدوء السمع، والبصر والنفس، هدوء ما يمكن للإنسان السوي أن يعيش فيه.
منذ ستين سنة ,
كان البشر بشرًا، الرجل رجلًا كما ينبغي أن يكون، يحمل على عواتقه الجبال ولا ينحني، يرسم البسمة رغم كل المشاق، ولا يتذمر، يودع الدَعَةَ والترف عند الخمس أو الست سنوات؛ فينشأ كما تنشأ النخلة، شاهقة، باسقة، تحمل في أكنافها الخير الرُطَب، والظل الرَطِب، تمتد جذورها الرواسخ في الأرض تأخذ من الماء أقله، وتُعْطِي الأفرع المنتشرة من الرزق أوفره.
كانوا رجالًا صوالين جوالين، لا يتركون النمل ينخر في أعواد بيوتهم، ولا ينتظرون الطيور لتأتي فتطعمهم. يعبدون الله على خوف، ورجاء، وقليل من العلم، فقد نشأوا في الكُتَّاب، وتربوا فيه على احترام الكبير، ومساعدة الغريب، فلا تجد لهم قبضة لأحد، أو عن أحد.
لا تجد لهم قبضة لأحد فلا يدفعون شره بعراك أو مشاجرة، أو بقبض الوجه عنه، حيث كانوا يعودون لشيخ المسجد، أو العاقل المتعلم ويكون غالبًا حافظًا للقرآن عالمًا به، أريبًا ذو حكمة وتجربة، فيقضون جدالهم، ويتزودوا بالتقوى ثم يعودون بقلوب صافية كأن شمس الضغينة لم تُشْرِق عليها.
ولا تجد لهم قبضة عن أحد، فلا ينزعون أيديهم عنه عندما تدركه مصيبة أو ضائقة، ولا يسحبون أكتافهم عنه في فرحه وحزنه.
الرجال كانوا رجالًا كما تقول جدتي، إن لم يكن جميعهم فأكثرهم، والباقين قلة قليلة لم تحتسبهم هي من فئة الرجال أصلًا.
كان البشر بشرًا، المرأة مرأة كما ينبغي أن تكون، تخرج فتملأ القِراب في السَحَر، متلفعة بثوبها الأسود لا يراها رجل - والذي من مروءته أن يسير وجهه بين يديه، وعينيه على الأرض، تعد الحصى، وتسرع في الخطى- ، ثم تعود هي فتنظف البيت، وتُعِد الفطور، وتُطعِم الصغار، الطيور، والبهائم إن وجدت.
ثم تقضي أشغال الصغار، و تراقب تجهيز الغداء، وتَحُكُ ماعونها بيدها، وتشعل حطبًا في فرن القش أو تُسقِط الجاز في (البابور) إن كانت مترفة العيش، وفي أغلب الأوقات يُؤْثِرُون استخدام فرن القش لأن زجاجة الجاز تساوي ثلاثة أبيض ( قرش ، ساغ ) وقد كَثُرَت المطالب على كتف زوجها، وقليل من دخان القش لن يُؤَثِّر.
يعود الزوج، فيخرج الولد يحمل عنه متاعه، يسحب منه حماره إن كان فلاحًا، حقيبته إن كان موظفًا، ثم يدخل الوالد يضع من يديه بطيخة، كيلو موز، أو بعض الحلوى للصغار، ثم يخلع حذائه، ويدخل غرفته فيجدها تحمل عنه معطفه وجلبابه، وتضع أمامه ماءًا قد دَفَأَتْه بقلبها فيريح به جسده، ويضع حمل اليوم عنه؛ فيقوم نشيطًا يداعب الصغار، ويساعد زوجته فيما يقدر عليه ثم يجلس يستمع لشكواها، وحكاويها، وهي تستمع ليومه وتهون عنه.
وفي أواخر الليل يجتمعون حول أكواب الشاي، وحكايا الأب عن العفاريت، والناس، وأحاديث الأبناء مما تعلموه في الكُتَّاب، وهكذا يقضون ليلتهم ثم يهنئون بنوم عميق، كل في مضجعه أو كل في مضجع واحد، تحت غطاء واحد.
هكذا كانت المرأة كما كانت تقول جدتي، كانت تصنع من التراب ذهبًا، ومن فؤادها ما يكفي ليرمم ما نهشته الحياة من زوجها، وأبيها، وإخوتها، وأبناءها في سبيل العيش.
منذ ستين سنة تقول جدتي :
كان جرام الذهب يساوي خمسين قرشًا
ومنذ عشر أو خمس عشرة سنة تقول :
كنت أذهب للسوق بعشر جنيهات، فتحمل السوق على كتفها وتعود.
أما اليوم فقد جاءتها إحدى حفيداتها الصغار تطلب مصروفًا، فلم تجد غير نصف جنيه فقالت تأخذيه، فنظرت الفتاة بتعجب " وماذا يفعل النصف جنيه، أريد خمسة " وأشارت بيدها خمسة.
هنا أدركت كيف " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ".