لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
حدث في يوم ما أنّ السيدة هاجر كانت مع ابنها نبي الله إسماعيل، وحيدة بلا مأوى في وادٍ مُخيف، مُقْفر بلا رفيق يؤنس وحدتها غير أنّها كانت مطمئنة لاختيار الله ونبيه. فلم تكن تعلم بأنّ جميع الناس سوف تقصد هذا المكان يوما ما
وجاء أمر الله تعالى:
{وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا} «سورة البقرة: 127»
وتعاقبت السنون والمشهد يتكرر حيث كان النبي محمد (ص) وحيدًا يعبد ربّه أمام الكعبة، لكنهم لم يتركوه فقد كانوا يضعون غلّهم وأحقادهم وأوساخهم على ظهره وهو ساجد يصلي لله.
وتدور عجلة الزمان، ويبتلع الزمان القرون العديدة ونصل لمكة المكرمة باختلاف لغاتنا وأجناسنا وأمصارنا.
أصبحت مكة مكانًا يضجّ بالناس في كلّ زمن، وفي كلّ ثانية يقف المُلبّون ينادون «لبيك الله» قدِموا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
وجئتُ مع من لبّى النداء، أتابع سيري وأنا أحدّق بالكعبة المُشرفة، تشدّني طاقة المكان الرّهيبة فتُحدث في جوفي طمأنينة لبلوغ أقصى ما أرغب، وأناشد الله بكرمه فأنا ضيفته، وفي بيته، لابد أنّ كرمه يتّسع لهذه الجموع الغفيرة الوافدة عليه، غير أنّني عاشقة لمكة وشعابها، أتنفس هواءها عبيرًا، وأسرع الخطا في مسعاها.
وفي كلّ زيارة لي لمكة المكرّمة والمدينة المنورة أبحث عن خطوات النبي الكريم، أستشعر وجوده الكريم وأرى أشكال الناس وألوانهم المختلفة يقفون صفوفا للسلام عليه، أرى الحبّ الذي يربطنا بنبي الرحمة محمد (ص).
وكلّما تجوّلتُ في مكة المكرمة رأيت ألسنة «لغات» البشر المختلفة وحسبِتُ أن لغات العالم كلّها مجتمعة هنا إضافة إلى لغات الطير والحشرات والجمادات هي طلاسم قد لاتفهمها ولكن ترجمة القلوب تتحدث فتقول:
مرّ هنا سلطان عظيم اسمه محمد، أحبّ أمّته كثيرًا، اتّصف بالرحمة وكان يُهدي موعظته لجميع النّاس مقرونةً بالحبّ والرأفة فلا عجب أن أرسله الله رحمة لنا، يقول الله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} «الأنبياء: 107»
ولم تقتصر رحمته على أصحابه وإنما امتدت لتشمل كفار قريش الذين تعنتوا له وناصبوه العداء، وشهد التاريخ على أقواله الكريمة عندما أُصيب في يوم أحد، وشُجّ وجهه الكريم فقال له أصحابه: لو دعوت عليهم، فقال (ص): «إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة»
وفي وداعي لقبره الشريف أبصرتُ امرأة تبكي فراق الروضة الشريفة، رأيت علامات العشق في عينيها لرسول عظيم قدِمتْ كغيرها مِنْ فَجٍّ عَمِيقٍ، لم تره ولكن رحمته لامست قلبها، وربما فطَنتْ لقوله الخالد «لوْلا أنْ أشقُّ على أمتي» فقد كان يخشى على أمّته ويسعى جاهدًا ليحببهم في الإسلام، وليتنا نقتدي به ونُحبب العالم كلّه بإسلامنا.
أغمضتُ عينيّ وأنا في طريقي للخروج لعل خيالي يأخذني في رحلة أرى فيها ذلك الزمن الذي تشرّف بلقاء النبي الكريم، خاطبتُه (ص):
سيدي يارسول الله جميع أمتك يعشقونك، ويشتاقون لرؤيتك، يحبونك ويحبون أهلك وذويك، يشقّون الطرق لزيارتك ولزيارة أبنائك وابنتك.
جزاك الله خير الجزاء عنّا وعن جميع المؤمنين، وختمتُ حديثي وأنا أدعو الله:
«ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧّﻲ ﺁﻣﻨﺖ ﺑﻤﺤﻤﺪ (ص) ﻭﻟﻢ ﺃﺭه، ﻓلا ﺗﺤﺮﻣﻨﻲ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺭﺅﻳﺘﻪ، ﻭﺍﺭﺯﻗﻨﻲ ﺻﺤﺒﺘﻪ، ﻭﺗﻮﻓّﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﻣﻠّﺘﻪ، ﻭﺍﺳﻘﻨﻲ ﻣﻦ ﺣﻮﺿﻪ ﻣﺸﺮﺑًا ﺭﻭﻳّﺎ ﺳﺎﺋﻐًا ﻫﻨﻴﺌًا لا ﺃﻇﻤﺄ ﺑﻌﺪﻩ ﺃﺑﺪًا ﺇﻧّﻚ ﻋﻠﻰ ﻛﻞّ ﺷﻲﺀ ﻗﺪﻳﺮ»