صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 11 إلى 13 من 13
الموضوع:

حمامة آلمسجد وآلفتاة آلفارسية - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 22 المشاهدات : 1241 الردود: 12
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #11
    من أهل الدار
    ام علي
    تاريخ التسجيل: July-2011
    الدولة: العراق
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 70,417 المواضيع: 17,968
    صوتيات: 164 سوالف عراقية: 12
    التقييم: 22601
    مزاجي: حسب الزمان والمكان
    المهنة: ربة بيت
    أكلتي المفضلة: المشاوي
    موبايلي: XR
    مقالات المدونة: 92
    الفصل الحادي عشر

    زهد وحسان

    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :

    وسُر أبو محمود لِما رأى من تغيُّر يسار ، وصفَّق وهو يقول :
    - ألم أقل لكم ، سأسقيه الخمر بيدي .
    وكان أبو محمود يظن أنه يستطيع أن يغوي أي شخص مهما كان من علو المنزلة ، والمكانة والزهد والعفاف .. ومهما أحاط بذلك الشخص نفسه ، بأسوار تقيه شر الموسوسين من الجنة والناس أجمعين ..!! وأن الشيطان لو عجز عن أحدهم ، فلن يعجزه .

    قال أبو العرفان :

    كان حسَّان بن معيقيب أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت تأثير حكيم . وقصته كما حدثنا بها غير واحد ، أنه كانت له ابنة عمة ، وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وكانت جميلة ، تقيَّة ، مؤدَّبة ، ذات خلق ودين .
    عاش معها في بيت واحد ..
    ترعرعا سوية .
    كانا يلعبان سوية ..
    يتذاكران قصار السور من القرآن الكريم ..
    كانت تسبقه دائمًا في الحفظ .. وإذا تأخر في قراءة آية أو أخطأ أخذت تنظر إليه وتضحك .
    وكانت تعجبه ضحكاتها ..
    ولاسيما إذا احتوى فمها الصغير قطعة من الخبز ..
    ولكنه كان يغضب كثيرًا إذا استرسلت في الضحك ، وجاوزت الحد الذي يرضيه .
    وقد يضربها .. فتذهب إلى أمها تبكي . وإذا غضبت أمها فلا يقوم لها شيء ، فقد تنهال عليه تعنيفًا ، وقد تمنعه من اللعب مع ابنتها زهد . وذلك أقسى عقاب بالنسبة له ..
    فهو لا يصبر عنها ..
    ولا يجد لذة للعب مع غيرها ..
    ولا يعوضه أحد من أطفال المحلة عنها ..
    وإنه ليتذكر كيف كانا يحتالان على اللقاء واللعب .. كان يقف في زاوية من الدار ، وتقف هي في زاوية بعيدة ، ويتقاذفان كرة من الصوف ، أو يتحدثان بالإشارة ..
    كانا يضحكان كثيرًا ..
    إنه لا ينسى ضحكتها أبدًا ، ولا ينسى عندما ترفع يدها الصغيرة وتخط على الحائط كلمة التحذير : أمي ..
    فيهرع إلى أقرب مكان يختبئ فيه .
    كانت تسرق منه غطاء الرأس وتهرب في المحلة ، فيتبعها يركض وراءها ، يحاول أن يمسكها من ضفائرها التي تتراقص على ظهرها . ولكنها تروغ من بين يديه بكل خفة . فإذا أوشكت على التعب عادت إلى البيت ولاذت بأمها .. فيقف لاهثًا يتمنى لو ظفر بها .!!
    ولكنها تقف وراء أمها ، وتضع الغطاء على رأسها ، وتخرج لسانها الأحمر الصغير .. شامتة ومتحدية ..
    كانت أمها قوية شديدة صارمة ، وكانت عبوسًا متجهِّمة ينضح الحنظل من وجهها .. إذا رأت بقعة أو وسخًا على ثوب ابنتها زهد ، عنَّفتها ، وألقت اللوم على حسَّان ..
    لا يدري لماذا كانت تكرهه .. ولماذا تحاول النيل منه أمام والده ..
    ومع كل ما كان يقاسي من أمها ..
    فإنها كانت تلك .. تلك هي الأيام الحلوة في طفولته ..
    ثم استيقظ ذات يوم فلم يجدها ..
    لم تدغدغ ضفيرة شعرها وجهه ..
    ولم يسمع زقزقتها ..
    قيل إنها سافرت مع أمها ..
    وقيل أن أمها قد تزوجت .. وأنها انتقلت إلى بيت الزوج ..
    وقالت له أمه وهي تمسح دموعه :
    - لا تبك يا بني .. إنها ستأتي .. ستزورنا مع أمها ..
    وأخذ يعد اللحظات والساعات والأيام ..
    وطالت غيبتها ..
    وكان يبكي كلما خلا إلى نفسه ..
    وكان يحتفظ ببعض اللعب ، والأشياء الصغيرة الجميلة التي تركتها .. ولم ينسها .. ولن ينساها أبدًا .
    ثم علم أنها زارتهم مرتين .. ولكنه كان نائمًا وقت الظهر ..!!
    فعزم على أن لا ينام وقت الظهيرة ما دام حيًا ..
    ولكنه لم يرها ..
    ومرت سنوات ..
    وشبَّ الفتى .. تقيًا صالحًا يتردد على مجالس أهل العلم ..
    وبقيت صورة زهد مستقرة في نفسه .. في قلبه ..
    حتى عاد ذات يوم من المسجد .. بعد أن أدَّى صلاة الجمعة ..
    وعندما دخل البيت ، سمع صوتًا يقول :
    - هاهو قد عاد .
    ووقف مكانه ..
    لقد رأى على بعد خطوات منه فتاة طويلة نحيفة متوردة متفتحة رائعة ..
    كانت تنظر إليه ..
    كأنها لا تصدق ..
    وأخذ قلبه يدق بسرعة ..
    وأراد أن يتكلم ..
    فاحتبست الكلمات في فمه ..
    ورأى الدموع تطفر من عينيها ..
    فهتف بكل قلبه :
    - زهد .
    وتقدمت خطوة ، ومدت يدها وهي تجيب :
    - حسَّان .
    ولم تتحدث الألسن .. ولا العيون ..
    وتشابكت الأيدي في لهفة وشوق ..
    وانهمرت الدموع ..
    ونسي حسَّان كل ما حوله ، ولم ينتبه إلى وجود أمها وأمه وأخته وأبيه ..
    وقال وهو ينظر في عينيها الواسعتين الكحيلتين :
    - زهد .
    فهتفت ملبية :
    - حسَّان .
    قال وهو لا يكاد يصدق عينيه :
    - أنت كبرت يا زهد .
    قالت :
    - وأنت يا حسَّان .
    قال :
    - لقد بكيت وراءك يا زهد .
    قالت :
    - وأنا يا حسَّان .
    قال :
    - كدت أموت يا زهد .
    قالت :
    - وأنا يا حسَّان .
    قال :
    - لماذا لم تأت يا زهد .
    قالت :
    - لم أستطع يا حسَّان .
    قال :
    - كنت أتضرع إلى الله أن يجمعني بك يا زهد .
    قالت :
    وأنا يا حسَّان .
    قال وهو ينظر إلى ضفائر شعرها اللتين تدلتا على صدرها :
    - أنت جميلة يا زهد .
    وتورَّدت خدودها وهي تقول :
    - وأنت يا حسَّان .
    كانت القلوب تتحدث بأكثر من هذا ..
    والعيون بريد القلب إلى القلب ، تروي أحاديث السنين التي مضت واللسان لا يفصح إلا بالقليل .. القليل .
    وبقيت الأيدي في عناقها الطويل .
    وسألها بلهفة :
    - ستبقين هنا زهد ..
    فهزَّت رأسها وهي تنظر في عينيه :
    - أجل يا حسَّان .
    ثم سمع أمها تقول :
    - نعم يا حسَّان .. ستبقى كما تشاء .
    وسحبت يدها في رفق بالغ .. فتركها ..
    وقد أحس في صوت أمها مزيجًا من الحزن واليأس .. ثم نظر إليها ، وأقبل يسلم عليها ..
    ولم تكن كما تصورها في طفولته .. فقد نهضت واعتنقته .. وأخذت تنظر إليه وتثني عليه . لم تكن طويلة ولا ضخمة ولا صارمة ، كانت امرأة عادية كباقي النساء ، تحمل قلبًا طيبًا ، يتأثر ويبكي ، ويحب ويكره .
    لقد توفي زوجها الثاني .. فعادت إلى بيت أخيها ..
    وستقيم ..
    وستبقى زهد إلى جانبه ..
    وفي المساء ، عاد حسَّان بعد صلاة العشاء ، ولم يتأخر كعادته كل ليلة .. لم يذهب إلى مجلس الشيخ أبي الوفاء ، بل أسرع إلى البيت ليرى ، وليتحدث مع زهد .. كانت الدنيا لا تسعه من شدة الفرح .
    ولكن فرحته لم تقف عند هذا الحد ..
    فقد سمع أباه يحدث عمته في أمر زواجه من زهد ..
    وأخذ قلبه يدق بشدة ، وتلهَّف لسماع الجواب ، ولكنه لم يسمع شيئًا .. فبات تلك الليلة ساجدًا ، ورافعًا يديه إلى السماء سائلاً المولى الكريم الرحيم أن يمنَّ عليه بزهد .. وعندما ارتفع صوت المؤذن لصلاة الفجر ، خرج مع أبيه إلى المسجد .
    وتمنى لو حدَّثه أبوه ..
    لو أخبره بما قالته عمته ..
    ولكن أباه مضى يردد أدعية الصباح ، ودعاء المشي إلى المسجد ..
    حتى همَّ بأن يسأله .!!
    ووقف أبوه فجأة ..
    والتفت إليه ، وقال :
    - لقد وافقت بعد إلحاح طويل ..
    ولم يصدق حسَّان أذنيه ، وتمنى لو كرر أبوه العبارة ، وأراد أن يصيح : ماذا يا أبي .
    وتمهل أبوه ، وقد اختار ناحية مظلمة من الزقاق ، لكي تستر الانفعال الذي يظهر على وجه ابنه حسَّان .. ثم عاد يقول :
    - لقد وافقت ..
    وتنحنح قبل أن يضيف :
    - ستتزوج ابنة عمتك يا حسَّان .
    هكذا هجمت عليه السعادة مرة واحدة .. وهجم حسَّان على أبيه يقبله من وجهه ويده .. ثم خرَّ على الأرض ساجدًا لله شكرًا على ما أنعم عليه .
    وتزوجها ..
    وعاش معها تسعة أشهر ..
    تسعة أشهر كأنها رؤيا ..
    كانت تحدثه برؤى كثيرة لطيفة تراها في منامها ، وكانت تلك الرؤى تتحقق كما تراها ..
    وكان يستيقظ بعد منتصف الليل فلا يجدها إلى جانبه ، ثم يراها قد وقفت في ناحية تصلي ..
    كأنها رابعة العدوية ..
    أو إحدى العابدات الصالحات ..
    كانت تعيش في عالم الملائكة ..
    كانت كأنَّها حورية من حور الجنان ، جاءت في زيارة قصيرة إلى الدنيا ثم عادت إليها خفيفة مسرعة ..
    تسعة أشهر ..
    تسعة أشهر فقط ..
    ثم ماتت ..
    نعم ماتت زهد ..!!
    وأظلمت الدنيا في عينيه ، وهام على وجهه ..
    كانت الشمس الذي تضيء له دنياه ..
    كانت الابتسامة الحلوة التي تملأ نفسه نورًا وبهجة ..
    كانت اللحن الجميل الذي يطربه بأنغامه ..
    كانت ..
    وكاد يجن .. لولا أنه كان يراها في منامه .. وتواسيه وتصبِّره ، وتقول له :
    - لا تيأس يا حسَّان .. إنني أنتظرك .
    وقالت له مرة :
    - ارحم نفسك يا حسَّان ..
    ولم يجد أبوه وسيلة أو حيلة لتسليته ..
    وفي تلك الأيام التقى به حكيم بن محمود ، فأخذ يشير عليه بأن يداوي ما به بشرب الخمر .. وهاله أول الأمر سماع هذه الكلمة ..! ونظر إلى حكيم بغضب .. ولكنه تقبلها بعد ذلك .. وذهب معه إلى الأماكن المنزوية .
    وفي المساء الذي قارف فيه هذا المنكر .. رأى زوجته في المنام .. رآها تهرب منه إلى مروج بعيدة خضراء .. أما هو فقد رأى نفسه واقفًا في خرائب سوداء مهدَّمة ..
    ثم لم يعد يراها بعد ذلك ..
    لم تعد تواسيه ..
    لم تعد تصبره ..
    لم تعد .. لم تعد ..!!!
    وغرق فيما هو فيه إلى أذنيه ..

    .

    .

    يتبع

  2. #12
    من أهل الدار
    ام علي
    الفصل الثاني عشر

    الزائر الجديد

    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :

    شتان ما بين معلم الناس الخير ، وبين من نصَّب نفسه داعيًا إلى النار ، هاديًا إلى الضلال ، دالاً الناس على طريق المغضوب عليهم أو الضالين ، ممن ذمهم الله في كتابه الكريم .

    وحكيم بن محمود ، فيه خصلة من النوع الثاني ..
    ولعله لم يتلقَّ في صغره ما يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة في كبره .!
    قال : والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .. كما جاء في الحديث .

    قال أبو العرفان وفي إحدى الأمسيات ، وبعد صلاة المغرب .. التقى هؤلاء في بيت الجارية ، فلما اكتمل الجمع ، سأل أبو محمود :
    - أين الخادم ؟
    قال سعيد بن منصور :
    - لقد علمت أنه ترك الخدمة ..
    فقاطعه حبيب بن مسعود وقال :
    - إنه تاب .. إنه لم يرض لنفسه هذا العمل ..!!
    وصرخ حكيم بن محمود وهو ينهض غاضبًا :
    - هل تريد أن تنغِّص علينا ليلتنا يا حبيب ؟
    فهز حبيب رأسه ، وأجابه بصوت هادئ :
    - كلا .. إنما تكلمت بما علمت .. ودونك سرشير فاسألها ..
    قال سعيد :
    - من الأفضل أن نعيده إلى خدمتها ، سنغريه بالمال ..
    فضحك حبيب وقال :
    - إنك لن تجده ، ولن يأتي ..
    وقبل أن يسأله واحد منهم مضى يقول :
    - إنه ترك بغداد .. ولا أحد يدري إلى أين ذهب ، لقد أراد أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد .. أراد أن يبدأ حياة جديدة بيضاء ..
    فهتف سعيد مؤيدًا :
    - لقد أحسن والله صنعًا ..
    وسأل أبو محمود :
    - وما يدريك أنه قد ذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ؟
    قال حبيب مؤكدًا :
    - رأيته عشية اليوم الذي ترك فيه هذا البيت ، فاستوقفته وسألته أين يريد .. فأجابني بأنه يريد التفرغ للعبادة ، يريد أن يبدأ حياة جديدة لا تشوبها معصية .
    فضحك أبو محمود وقال باستخفاف :
    سيعود إلينا .. سوف يندم .
    فأجابه سعيد .
    - لا يا أبا محمود .. إنه لا يعود ..
    فضرب أبو محمود بقبضة يده على المائدة ، وقال مؤكدًا :
    - بل يعود .. وسوف ينحني على أيدينا يقبِّلها يسألنا أن نعفو عنه .
    فرفع حسَّان بن معيقيب رأسه ، وكان قد ظل صامتًا طول الوقت ، ونظر إلى حيكم وقال :
    - لا أظن ذلك .
    وضحك أبو محمود ، وقال وهو يحوِّل وجهة الحديث :
    - ليذهب .. لا حاجة لنا به .
    ثم نظر وجه حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير :
    - سوف يأتينا من هو خير منه .
    وهتف سعيد بن منصور :
    - من هو ؟
    أما حبيب بن مسعود ، فقد خشي أن يتكلم ، لئلا يكون ..
    ونظر أبو محمود في وجه حبيب وهو يقول :
    - من تظنه يا حبيب ؟
    أما هذا ، فقد روعته لهجة حكيم ، وبقي صامتًا جامدًا ينظر إليه . لعل الشيطان قد عملها ..
    ونقر أبو محمود على المائدة بإصبعه وهو يقول :
    - قد وقع صاحبك يا حبيب ؟
    ولم يصدق حبيب ما سمع ، وقال بكل ثقة وهو يردُّ عليه .. ولم يكن قد علم بما جرى من الأمور :
    - هيهات ..
    قال أبو محمود ، وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب :
    - إنه سيأتي ..
    فرفع حبيب يده اليمنى ، وقال وهو يحرِّك إصبعه في وجه حكيم :
    - هذا محال .. إن يسارًا لا يقع ، إنه كالنسر لا يحلق إلا عاليًا .
    وضحك أبو محمود وهو يقول متحديًا :
    - وإذا جاء هذه الليلة ؟
    قال حبيب جازمًا :
    - إنه لن يأتي ..
    وعاد أبو محمود يستثيره ، وينقر على المائدة ويقول :
    - وإذا حضر ؟
    - إنه لن يحضر .
    ولم يعلِّق حسَّان بن معيقيب ، أما سعيد بن منصور فقد هزَّ رأسه وقال :
    - لننتظر .
    وقال حبيب بانفعال :
    - إن يسارًا لا يقع .. أنتم لا تعلمون أي رجل هو ..
    وراح يتحدث عن يسار :
    - كان يصوم يومين في الأسبوع ، عدا رمضان ، وكان يقوم كل ليلة .. إنه يعيش في هذه الدنيا ومع الناس ، ولكن قلبه ، ولكن روحه لا تعيش إلا في السماء ..
    من مثل يسار ..
    وتنهَّد وهو ينظر إلى القناديل التي أضاءت المكان ، وقال وكأنه يخاطب نفيه :
    - من في الدنيا مثل يسار ..
    وضحك أبو محمود بتهكُّم وقال :
    - كذلك كنت أنت يا حبيب .
    وأجاب حبيب بصوت كأنه الهمس ، وقال بأسف وندم :
    - كلا .. لم أكن مثل يسار .. ولا نصفه .. ومع ذلك فأنت السبب ، وعليك الوزر .
    وصاح أبو محمود وهو يتصنَّع الغضب :
    - اذهب يا أخي .. اذهب إلى صلاتك وعبادتك وزهدك ..
    وتنهَّد حسان بتوجع ، وقد أثارته كلمة زهد .. وراح يردد وهو يتطلع في وجه حكيم :
    - نداء دعا زهدًا فخف له قلبي ..
    ثم نكس رأسه وراح يدمدم مع نفسه بصوت خفيف لا يتبينه أحد . وكان سعيد ينظر إلى حسَّان ويتألم لحاله ..
    وقال حبيب ، وكأنه يخاطب نفسه :
    - لا يا أبا محمود .. ليس كما قلت .. لقد كنت أنت السبب في كل ما نحن عليه الآن .. أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أترككم .. لأني تلوثت معكم .
    وضحك أبو محمود ، وقد سرَّه ما رأى من حال حبيب وقال :
    - لماذا لا تعود إلى سابق عهدك ؟
    قال حبيب وقد أطرق مفكرًا :
    - قلت لك لا أستطيع ..

    وقبل أن ينتهي حبيب من جملته الأخيرة ، طرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول :
    - هذا هو صاحبك قد حضر .
    وخرج من الغرفة .. ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور عن ابتسامة حائرة ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم ..
    وعاد أبو محمود وهو يجر وراءه شابًا تطوق وجهه لحية سوداء وتسبقه رائحة عطر زكي ..
    وهتف أبو محمود بسرور :
    - أقدِّم لكم ضيفنا الجديد .. يسار .
    وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحـبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه تحيط بفمه ابتسامة حزينة .
    ودخل يسار مطرقًا خجلاً ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
    ومضى حكيم يدير الحديث ، وينثر الدعابة والنكتة ، فيضج الجميع بالضحك ، ما عدا حبيبًا الذي أخذ بما رأى .. وما عدا يسارًا أيضًا .. الذي لم يشارك إلا بابتسامة حيية تمر على شفتيه .

    ولم يشعر يسار بوجود حبيب .. ومضى أبو محمود وقد أطربه ما أحرزه من ظفر لم يكن يتوقعه ، واجتاحته موجة من السرور أفقدته رشده .
    وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
    فأجاب يسار بهمس :
    - إنني في أسوأ حال ..
    وضحك أبو محمود وهو يقول :
    - إنه الحب يا أخي ..
    وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم :
    - إنني لم أرها منذ مدة ..
    فنهض أبو محمود وقد استخفَّه الطرق وقال :
    - ستراها اليوم .. إنها ستأتي .
    ولم يصبر حبيب ، فصرخ محتجًّا :
    - هذا محال .. إن هذا لا يكون ..
    والتفت يسار فرآه ..!!
    وكاد يذوب خجلاً ..
    إنه يحتج ..
    حبيب بن مسعود يحتج ..
    وعلى من ؟
    على يسار .. الذي طالما نصح حبيبًا بالإقلاع عمَّا هو فيه ، وكان يذكره ويقص عليه كثيرًا من أخبار المتقدمين ، وكان حبيب يشعر بالندم ، وقد يبكي .. إن حبيبًا هو الذي يحتج . إنه يلتقي معه في المكان الذي كان يحذره منه ..!
    وصرخ حبيب مرة أخرى :
    - ما الذي جاء بك يا يسار ؟
    ونهض أبو محمود فدفعه زاجرًا :
    - وأنت ما الذي جاء بك ؟
    وتنهَّد يسار ، وشعر بالامتنان العظيم لحكيم ، لقد أنقذه في الوقت المناسب . ولكن هذا صرخ مرة أخرى :
    - إن هذا ليس مكانك يا يسار .. إن هذا لا يليق بك .. أنت لا تنزل إلى هذا المنحدر .
    وكاد يهب حكيم وسعيد في وجهه ، لولا أطرق الباب طرقًا عنيفًا . فسكت الجميع ، ولم يتحرك أحد منهم ، وتعلَّقت الأنظار بحكيم ، فهزَّ هذا رأسه وهو يقول :
    - لا أدري من الطارق ، سوف تفتحه هي ..
    وكانت الجارية في الداخل ، فأسرعت تفتح الباب .. ولما رأت القادم هتفت بكل جوارحها :
    - مريد .. أنت عدت يا مريد ..
    وأفسحت له وهي تقول :
    - لقد كان قلبي يحدثني بأنك ستعود .. تفضَّل .
    وسكتت ريثما تلتقط أنفاسها وقالت :
    - إن مثلك لا يفرِّط في الأمانة .. لقد كانت ثقة أبي رحمه الله في محلها ..
    فأجاب مريد دون أن يتحرك من مكانه :
    - جئت أدعوك للعودة إلى الهند .
    وبينما وقفت تنظر إليه وعلامات التعجُّب والاستفهام على وجهها ، مضى يقول :
    - جمعتني القافلة برجل رحَّالة قادم من هناك .. وأخبرني ..
    فقاطعته مستعجلة :
    - ماذا أخبرك ؟
    قال :
    - أخبرني بأن السلطان عبد الحليم قد جهَّز جيشًا كبيرًا ، استطاع أن يدحر جيوش الممالك الوثنية التي خفت لنجدة الوزير الغادر ..
    وأعاد السلطان محمود على مملكته في منداو .
    وهتفت فرحة ومستبشرة :
    - أتراه صادقًا فيما قال ؟
    فأجاب مؤكدًا :
    - كل الصدق .. لقد رأى ذلك بعينيه ، وأخبرني بأن كثيرًا من الذين هربوا قد عادوا إلى منداو ، وعادت لهم أملاكهم .

    واستبد بها الفرح ، فأرادت أن تجذبه من يده لكي يدخل ويحدثها بكل شيء .. لكنها تذكرت .. أنه إذا رأى هؤلاء القوم مرة أخرى فسوف يغضب ، وربما يذهب ويتركها ولا يعود إليها بعد ذلك .
    وسألته قائلة :
    - متى تريد أن نذهب ؟
    فأجاب :
    - غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
    ثم أضاف قائلاً :
    - نذهب أولاً في قارب من بغداد إلى البصرة ، ومن هناك تركب البحر في سفينة إلى الهند ..
    قالت ، وقد غمرتها الفرحة ، فتنفست ملء صدرها وقالت :
    - الله .. كم كنت أتمنى أن أرى البحر ، وأن أشمَّ نسيمه .
    قال ، وكأنه يريد أن ينصرف :
    - سأمر عليك غدًا صباحًا بعد ارتفاع الشمس فلا تتأخري .
    قالت وهي تحاول إرضاءه :
    - كما تشاء .. ولكن أين ستنام هذه الليلة ؟
    فأجاب وهو يتنفس بارتياح :
    - في المسجد ..
    وسكت قليلاً ، وكأنه يريد أن يستحضر شيئًا غاب عنه وقال :
    - إنه خير مكان يجد فيه المرء الراحة لنفسه وقلبه .
    ثم ودَّعها وهو يقول :
    - أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
    فلوَّحت بيدها وهي تقول :
    - سأكون في انتظارك .

    وقبل أن ترد الباب ، رفعت رأسها إلى السماء ، فرأت سربًا من الطيور محلقًا ، عائدًا إلى عشه ، يتغنى بصوت فيه معنى الحث والاستعجال لبلوغ المكان قبل أن يرخي الليل سدوله .
    وخيَّمت عليها موجة من الحزن ..
    إنها ستعود إلى الهند ..
    ستكون وحيدة .. بلا أب ولا أم ..
    حتى مريد .. ربما سيرى من واجبه أن يوصلها فقط ، ثم يتركها ويذهب إلى إحدى التكايا التي يتعبد فيها الزهاد . إنه يبدو وكأنه طلَّق الدنيا ثلاثًا .. نفضها من قلبه ، فلا يعود إليها ، ولا يسمح لها بالعودة إليه ، مهما أغرته بمباهجها .
    يقال إن البحر واسع واسع أوسع من دجلة ، وأوسع من أي نهر رأته في حياتها ..
    أصحيح أنها ستذهب في البحر .. في الطريق الذي سلكه السندباد في رحلاته السبع .. وهل سترسو السفينة على جزيرة تقف على ظهر سمكة ..!!
    لابد أنها سترى من عجائب الدنيا أكثر مما قرأته في قصة السندباد .
    ومريد .. هذا الأسود الذي يحاكي الليل في سواده ، إنه يحمل قلبًا أشد بياضًا من النهار .. مع نقاء سريرة وصفاء ذهن وإخلاص ليس له مثيل .
    وردَّت الباب ثم عادت لتأخذ زينتها ، ثم تقضي بقية الليل مع القوم الذين حضروا .
    الليلة سنودع هذه الرواية اللتي جمعت بين الجمال ودقة الوصف و الموعظة والتذكرة

    الليلة ...

    سنودع يساراً .. والجارية

    .

    .


    يتبع

  3. #13
    من أهل الدار
    ام علي
    الفصل الأخير

    تذكرة الشيخ

    قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :

    قال أبو العرفان :
    كانت الجارية ترتدي حلة وردية زاهية ، وقد تقدمها عطرها الفواح ، واكتملت زينتها ،
    ولكنها بدت حزينة أسيفة على غير عادتها .
    وألقت نظرة سريعة على الحاضرين ، فلما رأت يسارًا وجمت وتسمَّرت في مكانها .. وبدا عليها وكأنها فوجئت ..
    كـأنها لم تكن تعلم بمجيئه .. وحولت نظرها إلى حكيم .. فضحك هذا وقال :
    - إنه يسار .. ألا تعرفينه ؟
    وتقدَّمت على مهل ، فسلمت على يسار ، ومالت إليه ، ورحَّبت به ، ولكن بتحفظ واحترام كثير ..
    وجلست إلى جانبه .
    فلم يتحمل حبيب هذا ، فترك المجلس وخرج وهو ينفخ من شدة التأثر ، ولما رأى القلق الذي اعترى يسارًا ، بادر يقول :
    - لا عليك .. إنه سيعود .. وسيشرب الخمر حتى ينسى نفسه .
    وكان يسار يتمنى ألا يعود حبيب .. لأنه شعر بأشد الحرج في حضوره ، وهنا رفع حكيم كأسًا ، قدَّمه إلى يسار وهو يقول :
    - خذ .. اشرب ..
    وهزَّ هذا رأسه ، ونظر في عيني الجارية كأنَّه يستنجد بها ، فلم يجد لديها الرغبة في ذلك ، وأشارت بيدها تمنعه ..
    فالتفت يقول :
    - أنا لا أشرب الخمر ..
    وضحك أبو محمود وهو يمد يده بالكأس ويقول :
    - اشرب .. اشرب يا يسار ..
    إنها تزيل عنك الخجل ، وتذهب الهم ، وتنسيك الدنيا ، ولا تعيش إلا هذه اللحظات .
    وتردد يسار .. وقال مرة أخرى :
    - لا .. أنا لا أشرب الخمر .
    وخيل إليه في تلك الساعة ، أن الدنيا تدور به .. فقد نما إليه أن صاحبه أبا الحسين عندما سمع بما آل إليه أمره ، قال :
    - اتركوه .. فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ، متمثلاً بالحديث .
    وطرق سمعه قول أبي أنس :
    - كنت والله أظن أن أساسه أقوى من هذا ..
    ولم يعلق ناقل الخبر .. وكأنه يؤيد ما قاله ...!
    والتفت يسار ينظر إلى هذا الواقف الذي يحمل كأس الخمر بيده ، ويحثه على الشرب ..
    - اشرب .. اشرب .. خذه يا يسار .
    وطالعه وجه أمه الحزينة المتألمة ، وهي تنظر إليه ولا تستطيع شيئًا ، وأخته الصغيرة سناء ، وهي تحمل قطتها الكبيرة ، تنظر إليه بإشفاق ..
    وعاد صوت حكيم يقول بإلحاح :
    - أين أنت يا يسار .. خذ .
    وقرَّبه منه ، فتناوله يسار .. وبقي الكأس في يده ..
    وهنا أطلق أبو محمود ضحكة عالية ، وكأنه قد نال غاية ما كان يتمناه .. وصرخ وقد استبد به الفرح :
    - عليَّ بحبيب بن مسعود .. أين هو .. ألم أقل له .. سأسقيه الخمر بيدي ؟
    ولم يفهم يسار معنى لما قال حكيم ، وظلَّ يدور في دوَّامة من الأفكار ، وأخذت صور أصحابه الفتية الذين كان قد قضى شطر حياته معهم في المسجد وكان الشيخ يحدثهم ..
    أخذت صور هؤلاء تتعاقب عليه ..
    فإذا بأبي الذهب يعض على يده ..
    وتخيل أبا الحسين ، علي بن حسين ، بوجهه المستدير ، وشعره القصير ، وهدوئه المعتاد ، وابتسامته الخفيفة اللطيفة ، وإيماءاته القريبة البعيدة .. تخيَّله وكأنه يقول :
    - إنه لم يبتعد كثيرًا ، ومهما ابتعد فسوف يعود ..
    أما أبو محمود ، فقد مضى يهذي في نشوة المنتصر :
    - لقد بذلت للجارية ألف دينار لكي تأتي بك إلى هنا ..
    لقد أقسمت أن أسقيك الخمر بيدي ..
    اشرب .. اشرب يا يسار ..
    أين حبيب بن مسعود ؟
    والتفت يسار ينظر إلى سرشير ..
    أحقًا ما يقول هذا ؟
    إنه لا يكاد يصدق مما يسمع ..
    ألف دينار من أجل أن يسلبوه دينه ؟.!!!
    من أجل الإيقاع به بين فكي الشيطان ...!!؟
    ونظر في عيني الجارية ، فروَّعها منظره .. وهزَّت رأسها تنفي بكل شدة وتقول :
    - لا تصدقه .. لا تصدقه يا يسار .. إنه ..
    كان سعيد بن منصور ، قد وضع الكأس أمامه ، وبسط ذراعيه على المائدة ، وجلس يتسلَّى بالنظر إلى ما يدور ..
    وبقي حسَّان بن معيقيب ساكتًا ، سارحًا في تأملاته وأحزانه التي لا تنتهي مردِّدًا بين فترة وأخرى بصوت خفيض رتيب :
    - مناد دعا زهدًا فخف له قلبي ..
    وتذكر يسار في تلك اللحظة ..
    كان أبو أنس قد التقى به عصر هذا اليوم في السوق الكبير ، وسلَّمه رقعة مطوية قال إن الشيخ قد بعثها له ..
    وحوَّل الكأس من يده اليمنى إلى اليسرى ، وخفضها حتى لامست المائدة ، ثم مدَّ يده يتحسس الرقعة في جيبه ، فأخرجها ، وفضَّها ، فقرأ فيها :
    (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ، وبغض نظرك ، وتلاوة القرآن .
    وذكر نفسك ، أن وجه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وأن في الجنة من الحور العين ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .
    كانت الرقعة بخط الشيخ نفسه ..
    إن الشيخ لم ينسه ولم يهجره كما خيل له ..
    هاهو يذكِّره ..
    ويحذِّره ..
    وكان أبو محمود مستمرًا في الضحك ، مستمرًا في إغرائه على شرب الكأس .
    أما الجارية ، فقد لاحظت التغير الذي طرأ على وجهه ، فسحب نفسها قليلاً قليلاً ، ولاذت بقرب حسَّان . وأخذ سعيد بن منصور ينظر إلى القناديل التي بدأ نورها يسطع ..
    ومضى أبو محمود يحثُّه ويغريه :
    - اشرب .. لابد أن تشرب ..
    أنا الذي جئت بك إلى هنا .. أنا الذي أخرجتك مما كنت فيه من العبادة .. أنا الذي أخرجتك من المسجد ..!
    متِّع نفسك .. انس الدنيا .. فغدًا نموت .. نموت ونترك الدنيا لغيرنا ..
    وزادت كلمات حكيم في يقظته ..
    غدًا نموت .. ونقف بين يدي الله للحساب .. سيحاسبنا على كل شيء .. على كل خطوة ، كل كلمة ، كل معصية ، وسوف يهتف كثير من الناس : { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا } .
    ونكس رأسه ينظر في الرقعة ، وخيل إليه كأنه يسمع صوت الشيخ يحدِّثه .. يحذِّره .. يطرق أذنيه : (( إني أذكِّرك .. إن الشيطان سوف يدخل عليك من أبواب شتى ، وعلى رأسها المرأة .. فاعتصم منه بذكر الله الدائم ... )) .
    وقبض أبو محمود على يد يسار التي تحمل الكأس ، وأراد أن يرفعها إلى فمه وهو يقول :
    - اشرب .. اشرب يا يسار .
    وعاد حبيب بن مسعود كما ذكر سعيد ، وصرخ من مكانه محذِّرًا :
    - لا .. لا تشرب يا يسار .. لا تشرب .
    سر أبو محمود لرؤية حبيب ، وأراد أن يريه كيف يستطيع أن يسقيه الخمر بيده .. وراح يلح على يسار وهو يقبض على يده يريد أن يرفعها بالكأس إلى فمه .. وكان في عمله هذا فرحًا مزهوًا كأنه يقوم بما يستحق عليه الثناء والتقدير ..!!
    وهتف يخاطب حبيبًا :
    - انظر .. ها أنا أسقيه الخمر بيدي .. ألم أقل لك ؟
    وكان يسار قد وصل إلى حدٍّ لا يطيق معه الصبر .. فانفجر غاضبًا ، ونهض ثائرًا ..
    ورمى الكأس في وجه حكيم .
    وركل المائدة بقدمه .. فتحطَّم كل ما كان عليها .
    وانهال على حكيم ضربًا ..
    وأظلمت الدنيا في عينيه ..
    وانقلبت المائدة .
    وهربت الجارية وقد أصابتها شظايا كأس تحطم بالقرب منها فجرح ساقها .. ولم يقف في وجه يسار شيء .
    لقد قذف بكل ما في نفسه ..
    مرة واحدة ..
    لقد جمع الران الذي تراكم على قلبه ، وكوَّره وألقى به في وجه حكيم .. وفرح حبيب بن مسعود ..
    وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وهو يجلس صامتًا مبتسمًا وقد أعجبه المشهد .. ولم يحاول سعيد بن منصور شيئًا يقلل من هياج يسار ..
    وخرج يسار .. وصوت الشيخ يرن في أذنيه :
    (( إن وجـه المرأة الجميل هذا ، صائر إلى جيفة قذرة يقتتل عليها الدود ، وإن في الجنة من الحور ما تستحي منهن الشمس الطالعة )) .

    واهتزَّت النخلة طربًا وهي تشيع يسارًا ..
    ولمعت الفوانيس بنور جميل ..
    وشعر كأن الجدران ، والبيوت ، والدنيا ..
    الدنيا كلها ، ترحب به ..
    أين كان كل هذه المدة ؟
    ومضى في طريقه إلى المسجد ..
    إنه يريد أن يرى الشيخ ..
    أن يجلس بين يديه ..
    أن يعترف بتقصيره ..
    وكان الطريق طويلاً ، والمنعطفات كثيرة ، والبيوت تقف على الجانبين .. ولم يسمع أصوات المسلمين عليه ..
    ولا الفقير الذي مد يده يسأله الصدقة ..
    ولا أحدًا من الناس ..
    كان يريد أن يصل إلى المسجد ..
    أن يعود إلى سابق عهده ..
    أن يعود إلى الله بقلب تائب خاشع منيب ..
    لم يكن يظن أنه يستطيع أن يفارق أحدًا من أصحابه ..
    لم يكن يظن انه يستطيع أن يبتعد عنهم ..
    كيف ابتعد كل هذه المدة ؟
    لقد كان في رحلة خطرة .. المحظوظ فيها من يعود منها سالمًا .. لا له ولا عليه ..
    لقد كان صغيرًا يوم بدأ يعتاد المساجد .
    وكان صغيرًا يوم أخذ يتردد على حديث الشيخ .
    كان أبو الذهب يطرق عليه الباب كل يوم .. يوقظه ، ثم يقوده من يده في طريقه إلى المسجد . كان يحنو عليه ، كما يحنو الأخ الكبير على أخيه الصغير ..
    إنه يتذكر تلك الأيام ، وتلك اللحظات .
    لقد كانت ملء السمع وملء البصر ..
    وعبود .. الفتى الطويل الأسمر ، الذي أمضى سنوات عديدة وهو يحاول العثور على فتاة لكي يخطبها لنفسه . فلم يوفق .!!
    لأنه لم يجد الفتاة التي تناسبه ، أو التي تناسب أمه كما يقول أخوه ..!!
    وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، الفتي الطيب .. اللطيف الوديع ، الذي ذهب يدرس الطب .. والذي كان يراه يذرع ساحة المسجد ذهابًا وإيابًا وهو يحاول حفظ سورة التوبة ..
    وأبو أنس .. وخلاصاته التي لا تنتهي ، ودعاباته ، وروحه المرحة ، ومشاريعه الكثيرة التي يبنيها في الهواء ، وحكاياته عن أمه ، وكم مرة تخطئ في العد .
    وأبو الحسن .. علي بن حسين .. وسمته الهادئ اللطيف ، ودروسه الفقهية التي تعلمها في المدرسة المستنصرية .. وصاحبه جاسم الذي لم يكن يفارقه في ذهابه وإيابه ، وقصته مع الشاب الذي سخر من صلاته ، فرأى ذلك الشاب رجلاً يأتيه في المنام وينهال على ظهره ضربًا بالسياط ، حتى استيقظ وأثر السياط ظاهر على ظهره ..!!!
    وغيرهم .. وغيرهم ..
    كانوا يحيطون به .. يحبونه .
    بل يراه بعضهم قدوة له .. ويتمنى لو بلغ مبلغه .!
    أيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟.!!
    ومضى يسار يريد أن يصل إلى المسجد قبل انفضاض الجماعة من صلاة العشاء .. إنه لا يريد أن يطرق على الشيخ باب بيته .. لأنه لم يتعود أن يزوره في الليل ..
    وتمنَّى لو استطاع أن يطير .. أن يصل ..
    وتذكر العم عثمان ( أبو البحر ) .. هذا الذي تجاوز المائة من العمر .. والذي وقف مرة يخاطبه ويقول :
    - ليتني نشأت في طاعة الله كما نشأت يا يسار .. فهنيئًا لك ..
    ثم رفع المنديل يسمح دمعة ترقرقت بها عينه وقال :
    - لقد طال أجلي وقلَّ عملي ..
    إنه لا ينسى هذا ..
    ولا ينسى والده ، وكان يتمتم بعد صلاة الفجر فيقول :
    - الحمد لله الذي رزقني ولدًا صالحًا تصل دعواته إلى قبري .
    وأمه الحزينة المسكينة .. التي كانت تنظر إليه وتبكي بصمت ، والتي سمعها قبل أيام تقول لأبيه بصوت خافت :
    - لا أدري ما الذي جرى ليسار .. كلمه يا رجل .. كلمه لعله يحدثك .
    وأخته الصغيرة سناء .. لم يعد يداعبها .. ولا يسألها عن قطتها .. حتى شكت لأمها فقالت :
    - لماذا لا يكلمني يسار ؟ هل هو مريض ؟
    والشيخ ..
    لقد كان يحبه كثيرًا ، كان لا يمل سماع حديثه . كان يرغب بالمزيد المزيد ..
    وهل لدى الشيخ إلا كل نافع مفيد ؟ كان يتحدث وكأنه يغرف من بحر ليس له ساحل ..
    إنه في طريقه إليه ..
    سيقص عليه ما جرى ..
    سيقول له ..
    ماذا يقول ..؟
    ورأى المسجد أمامه .. ببنائه القديم ، وجدرانه التي يخيل للناظر إليها أنها توشك على التداعي ، ومئذنته المتواضعة ..
    وتقدم بخطوات بطيئة مترددة ..
    لقد شعر كأن حجارة المسجد تنظر إليه بعتاب ..
    وكأن جدرانه التي تتطلع إليه بصمت قد فرحت بقدومه ..
    إن هذا المسجد يعرفه .. إن كل حجارة فيه تعرفه ..
    كم مرة حضر إلى المسجد قبل أن يحضر أي إنسان ..
    كم مرة قضى الساعات الطوال .. قائمًا مصليًا ، أو قارئًا للقرآن .. أو ذاكرًا لله تعالى ..
    لقد كان مكانه في الصف الأول من صلاة الجماعة ..
    ومع التكبيرة الأولى ..
    وتعدى باب المسجد وهو يقدم رجله اليمنى ويقول :
    - اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
    إن أبواب رحمة الله مفتوحة دائمًا ، لم تغلق في ساعة من ليل أو نهار ..
    أين التائبون .. الآيبون .. النادمون ..
    هذه الشجرة الكبيرة في ساحة المسجد .. في مكانها لم تتحرك .
    والفوانيس المضيئة ..
    وزير الماء ..
    وخادم المسجد .. حميد بن سلوم الرقاق .
    وتقدَّم يسار ..
    كان المصلون قد خرجوا ..
    ولكنه لم ييأس .. فلعل الشيخ تخلَّف بعد صلاة العشاء ..
    وصدق ظنه ..
    كان الشيخ واقفًا ، مستندًا بظهره إلى الدعامة الوسطى من المسجد ، وكان ينظر إلى يسار ، بعين الوالد الرفيق الرحيم ..
    وتقدم يسار ..
    خجلاً مترددًا كأنه يحمل أوزار الدنيا ..
    واقترب منه ..
    فسلَّم عليه ..
    وهيئ له كأنه سمع الشيخ يرد عليه ..
    وشعر بيده توضع على كتفه ..
    وسمع صوته المضمخ بعبير القرآن وهو يتلو :
    { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم }.
    وهشَّ قلبه لهذه الآية.. وشعر كأنه يسمعها لأول مرة.. تحملها الملائكة.. ويهتف بها المسجد..
    وشعر كأن كل شيء ..
    حتى الفوانيس الكبيرة ..
    وحتى النخلة الواقفة هناك ..
    وكل حجر في هذا البناء الطاهر ..
    استقبله .. فرح به .. سر بعودته .. فتح ذراعيه له ..
    وأراد يسار أن يقول شيئًا أن يتكلم ..
    أن يقص على الشيخ ما جرى له ..
    ولكنه لم يستطع ..
    لقد تحوَّلت كلماته إلى دموع .
    وعاد صوت الشيخ ، الهادئ الوقور يتلو من القرآن الكريم .. ما وجد فيه يسار ، شفاء ، وأملاً ، ورحمة ، ورغبة في العودة إلى الله : { وإني لغفَّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى } .



    ** تمت بحمد الله


    منقووووووووووووووووووووول

صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال