كالبحر يمطره السَّحابُ وما له
فضلٌ عليه لأنَّه من مائه!
كتب بعض السادة الأجلّاء (عافاه الله تعالى):
«لكُلِّ إنسانٍ أمانٍ وأحلام،
وكانت من أمنيات العمر أن يكون لي موكبٌ حسينيٌّ أخدم به الزوَّار، ولكن لقلَّة المال، وانعدام المعين والمساعد، وارتباطي بعملٍ يوميٍّ في مؤسسةٍ حيويَّة كلُّ أولئك بدَّد هذا الأمل، وفرَّق ذاك الحلم.
وكنتُ من قبل كورونا أُضيّف بعض الزوَّار الكرام في البيت، يبيتون فيه ويخرجون في اليوم الثاني، ولكن هذه السَّنة والتي قبلها صار هناك تشدُّدٌ في الدَّوام، فتوقَّفت – إلى إشعارٍ آخر – الزمنيات، والإجازات، والاستراحات بجميع أنواعها، فسدَّت باب الخدمة، وأوصدت كوَّة المساعدة.
ولكن، هل تقديم الخدمات يقتصرُ على أن يكون عندك بيت؟ وأن تكون خلياً من عمل، عاطلاً عن شغل؟
أحياناً لا تحتاج الخدمة إلى جهدٍ، ولا المعونة إلى بذل، ولا المساعدة إلى وقت.
صرتُ وأنا ذاهبٌ في الطريق إلى عملي – وهو على طريق نجف – كربلاء – أحمل الزوَّار في سيارتي من الكوفة إلى العمود رقم 100 قرب الجسر الجديد.
وكانت لي في ذلك سعادة بالغة.
ثم قلتُ في نفسي: سيارتي تسع لأربعة ركَّابٍ غيري، فلم لا أصنع فطوراً صباحياً خفيفاً لأربعة أشخاصٍ ممن يركبون معي، فتكون السيَّارة كالموكب الصغير المتنقل؟
وأخبرت أهلي بذلك ففرحت، واقترحت عليَّ أشياءً في صنع الفطور الصباحيّ تزيده لذَّة، وتطيّبه في عين الزَّائر الكريم.
وصنعت فطوراً لأربعة أشخاص، أخذته معي في السيارة وصرتُ أمشي الهوينا أبحث عن زائرٍ أتشرَّف به، ولكن وصلتُ إلى حي ميسان وليس من زائرٍ، فهم يمشون ليلاً، وأحزنني ذلك جدَّاً، وقرب المزارع رأيتُ تسعةً أو عشرةً منهم – لم أضبط العدد – فوقفت جانباً وطلبتُ منهم بالإشارة الصعود في السيارة، ظننتُ أن الذين سيصعدون أربعة فقط، فإذا هم رفقةٌ واحدة فصعدوا جميعاً هم وحقائبهم، اثنان في الصدر، وخمسة أو أربعة في المقعد الخلفيّ، واثنان في صندوق السيَّارة "الجنطة" وكان فيها كتب فجلسوا عليها.
وأعطيتهم الفطور وقلتُ لهم بالإشارة: هذا لكم.
ثم ندمتُ أنّي لم أصنع فطوراً زائداً لمثل هذه الحالات.
واليوم صنعت فطوراً زائداً، فركب الذين معي أربعة إيرانيين كرام، وطلبوا أن أنزلهم قرب مسجد السهلة، فأعطيتهم فطورهم، ووزَّعت الباقي على الماشين في الطريق.
من قال إنه ليس عندي موكب؟
سيارتي هي موكبي، ومكتبتي.
الغرض من هذا المنشور التنبيه على أن كلَّ أحدٍ باستطاعته الخدمة، وليست الخدمة مقصورةً على المواكب، مثلاً : أن تشتري كيلو برتقال وتوزّعه في الطريق، هذه خدمة.
أو تفتح بيتك للصلاة وتضع للزائر الكريم مبردةً أو مروحة، هذه خدمة.
بل لو تفتحه ليتخلَّى الزائر الكريم في الحمَّام، هذه أيضاً خدمة.
بل لو تضع حنفية ماءٍ في الشارع ليغسل الزائرُ وجهه من العرق، أو يتوضأ للصلاة، تلك كذلك خدمة، وأنت لا تدري أيُّها عند الله أكثر قبولا.
بل حتى لو تمسك "باكيت كلينس" بخمسمائة دينارٍ لا أكثر في طريق الزوَّار وتفتحه ليأخذ الزائر الكريم منه قطعةً يمسح بها عرقَه المبارك، فهذه خدمة ولعلَّها تكون مقبولةً أكثر من خدمة موكبٍ يُطعم آلاف الزوَّار يوميَّاً.
ولقد قرأت ذات مرَّة أن أخاً كريماً ليس عنده ما يقدّمه للزائر الكريم، فوقف على رأسه ليُضلّله من أشعة الشَّمس، لدرجة أنَّ الزائر الكريم تأثَّر وبكى.
حتى ظلّك يمكن أن يكون موكباً قائماً بنفسه، وربما يكون له من القبول ما لا يكون لغيره، فالمعيار في العمل هو النَّوع لا الكم، وضربة أمير المؤمنين – عليه السلام – يوم الخندق بأعمال الثقلين.
بل تبسّمك بوجهه لرفع روحه المعنويَّة، وإزالة العناء عنه هو خدمةٌ مقبولةٌ بمنِّ الله وكرمه إن شاء الله تعالى.
اخدِّم والإمام الحسين – عليه السلام – من يُسدّد الثمن، والحسين غنيٌّ بالله تعالى، فلا تخشَ فقرا، والله واسعٌ عليم.
وتذكَّرْ أن للزائر الكريم فضلاً عليك بقبول خدمتك لا العكس.
وأن الخادم مع كرم الإمام الحسين – عليه السلام –
كالبحر يمطره السَّحابُ وما له *** فضلٌ عليه لأنَّه من مائه».