فجعت باكتشاف خيانة فتاها فأسرعت هاربة ورجعت إلى بيت أمها تجر أذيال الخيبة وتقتلها الحسرة
سألت نفسها وهى تمضى الساعات صامتة لا تتجاوب مع ثرثرة أمها :لماذا يخون الإنسان أحياناً من يخلص له الحب والمشاعر ؟!؟
إنها فتاة فى الرابعة والعشرين من عمرها ..رقيقة ..هادئة الطبع ..حلوة العشرة..عيناها طفلان شقيان ,يبثان فى نفسك البهجة
وروح التسامح معهما ..أما الجمال فهى ليست جميلة فقط , وإنما باهرة الجمال..فماذا ينقصها لتنعم براحة القلب والأمان؟ وماذا يفتقده فيها فتاها لكى
ليبحث عنه عند غيرها؟
أسئلة كثيرة ومحيرة ..ولا جواب لها.. لكنها تشغلها منذ الصباح وهى تجلس تتصفح فى ملل صحيفة الصباح بذهن شارد
ثم وقعت عيناها فجأة على إعلان مثير للإهتمام
مطلوب فتاة , لها بعض الإلمام بشئون التمريض والمرتب مجزِ..
بغير تردد نهضت من مكانها لتتجه إلى العنوان المذكور فى الإعلان ,فهو فرصة مناسبة جداً للإبتعاد عن عملها السابق الذى قد يجمعها مرة أخرى بفتى القلب الخائن
اتجهت إلى العنوان ودخلت بيتاً من بيوت الأثرياء , وقادها مدير البيت العجوز إلى غرفة مكتب صاحب البيت
وجدت رجلاً مهماً يتحدث فى الهاتف وفتاة تملأ استمارة بيانات ..وحين جاء دورها وعرف منها صاحب البيت أنها ليست ممرضة مؤهلة
اعتذر منها باقتضاب عن عدم قبولها وحين ذكرّته أن الإعلان لا يطلب ممرضة مؤهلة ,فأجابها بجفاء أنه ليس
مسئولاً عما كُتب فى الإعلان ..فانصرفت غاضبة مبتعدة عن البيت وقد ازدادت اكتئاباً
فوجئت بمدير البيت العجوز يهرول خلفها راجياً منها العودة من جديد فرفضت مستاءة من جفاء صاحب البيت ,لكن الرجل العجوز أكد لها أنه قد غادر البيت
فى رحلة عمل خارج البلاد ,لكنه يستدعيها لمقابلة ابنه الشاب الذى نشر الإعلان وكان يرقبها من خلف الباب أثناء المقابلة
ترددت للحظات ثم رجعت معه والتقت بالشاب الذى رحب بها واعتذر على جفاء أبيه معها لأنه لم يعرف بأمر الإعلان الذى نشره بغير اذنه .
لاحظت خلال حواره معها أنه شاب وسيم , رقيق, لكنه شاحب الوجه ومكدود ويلف رأسه بمنديل ملون على طريقة الغجر ...أخبرها أنه فى الثامنة والعشرين من عمره
وأنه يحتاج إلى فتاة لديها بعض الإلمام بشئون التمريض لأنه يتلقى علاجاً مكثفاً ومرهقاً ويحتاج لمن تصاحبه إلى جلسته الأسبوعية ومن تهتم بأمره بعدها
لأنه يعيش وحيداً فى هذا البيت الكبير .
تكتشف الفتاة أن الشاب مصاب بذلك المرض اللعين منذ عشر سنوات وبعد تردد قليل وافقت على العمل الجديد
وتصبح مهمتها رعاية شئونه حتى موعد جلسة العلاج الأسبوعية المكثفة فى يوم الإثنين من كل أسبوع .
وفى اليوم المحدد يأتى شاب ليقود السيارة وتخرج معهما إلى المشفى .وفى الطريق يطلب منها ألا تنزعج لأى رد فعل قد يصيبه بعد الجرعة المكثفة
فهى _ كما قال لها_ سموم تقتل سموما بداخل جسمه ..لكنها ترهقه وتؤذيه وتعرضه لبعض المتاعب
تذهب معه إلى المشفى ويتلقى جرعة العلاج ثم تعود معه إلى البيت ,فيهولها مايعانيه هذا الشاب من آلام تهد الجبال بعد العلاج ...فهو يرتعش ,ويتصبب عرقاً
ويهرول كل بضع دقائق إلى الحمام ليفرغ معدته وهو يتمزق من الألم
تفزع الفتاة لما تراه وتحاول جاهدة أن تخفف آلامه وتقضى الليل مستيقظة بجواره إلى أن تهدأ آلامه بعض الشىء ويستسلم لنوم قلق.
فى الصباح تتصل بإحدى صديقاتها وتروى لها ماحدث وكيف أنها تشفق عليه مما هو فيه ,لكن لابدّ لها أن تتركه لأنه أحوج مايكون لممرضة مؤهلة تعرف كيف تخفف آلامه
يسمعها الشاب ويطلب منها البقاء ,وقلبه يخفق بالأمل فى ألا تتركه بعد أن ارتاح إليها , حتى ولو لم تكن تدرى شيئاً عن التمريض,فتتراجع الفتاة عن تنفيذ قرارها
حينها قررت أن تذهب إلى المكتبة لتقرأ عن تمريض المرضى بأمراض خطيرة وتواصل العناية به والإهتمام بأمره ..وتكتشف
أنه بحاجة إلى صحبة مريحة يتحدث إليها وتتحدث إليه أكثر من حاجته إلى ممرضة فهو وحيد حدّ الموت
ماتت أمه وهو ابن تسع سنوات , وفاجأه المرض وهو فى الثامنة عشر من عمره فلم تتح له الأقدار أن يعيش حياة الشباب
ولا أن يمرح مرحهم ..أما الفتاة الوحيدة التى عرفها فقد كانت فى فترة من فترات ترفق المرض به , وحين اشتد عليه المرض هجرته نائية بنفسها عن مأساته
وفى أحد الأيام يفاجأها أن الأطباء قد أخبروه بأن جرعة العلاج المكثف قد انتهت وآن له أن يلتقط أنفاسه ويستمتع ببعض متع الحياة التى حُرم منها
وإحتفالا بهذه المناسبة يدعوها إلى مصاحبته فى رحلة بقضاء إجازة على شاطىء البحر , ويحسم ترددها بمصارحتها بأنه لم يخرج فى رحلة مماثلة منذ بضع سنوات بسبب مرضه ويترقب موافتها فلا تملك إلا القبول
تنطلق بهما السيارة فى الرحلة السعيدة ويستقران فى بيت صيفى جميل على شاطىء البحر ..وتبدو على الشاب علامات المرح والإقبال على الحياة وحين تقرر أن تذهب معه إلى مقهى القرية الساحلية
فإنه يتردد خوفاً من تساؤلات الفضوليين عن رأسه التى تساقط شعرها بسبب جرعات السموم ,فتشجعه على مواجهة العيون بلا خوف.
فى اليوم التالى إكتشفت وجود بعض الامبولات الدوائية فى حقائبه , وحين سألته عنها أجاب بأنها مسكن قوى للالم , . كان يتناولها عند اشتداد آلامه ,لكنه لم يعد فى حاجة إليها الآن ويحتفظ بها من باب الإحتياط
تمضى بهما الحياة فى هذا البيت وكل يوم يمر يزيدهما افترابا وتفاهماً
تعرف أنه طالب دكتوراه ,كان يعدّ رسالة عن تاريخ الفن ,لكنه توقف عن استكمالها بسبب المرض فتشجعه على استكمالها فوافق مرحباً
وعازماً على أن يقوم بتدريس تاريخ الفن لها لتكتسب ثقافة مفيدة لم تتحها لها ظروفها وبالفعل يشجعها على قراءة كتب مختصرة فى تاريخ الفن
خلال إنشغاله هو بإكمال دراسته ويناقشها فى كل ماتقرأه .
تمضى الحياة هادئة إلى أن لاحظت الفتاة أن الشحوب قد عاود وجه فتاها من جديد وصحت من نومها ذات مرة فخيل إليها انها سمعت صوته يتلوى من الألم
ويجاهد حتى لا تشعر هى به ولا تسمع صوته , وما أن شاهدها حتى ابتسم وشكا لها من تقلصات بسيطة بالمعدة من أثر الإفراط فى الطعام
لكن قلبها لم يطمئن لمحاولاته التظاهر بأن كل شىء على مايرام
ففتشت عن أمبولات المسكنات فاكتشفت انه قد استهلك معظمها ولم يبق سوى القليل فواجهته بما يحاول إخفاءه عنها:
إنك لم تشف من المرض كما أوهمتنى ..لماذا تكذب على؟؟ ولماذا تفعل هذا بنفسك وبى؟؟
بإنكسار مؤلم يعترف لها بأنه أخفى عنها لكنه يرجوها ألا تتركه فقد كان يريد أن يستمتع معها ببعض متع الحياة التى حرم منها إلى جوارها .
أصرت على العوده به إلى المدينة ومواصلة العلاج ..لكنه كان يتوسل إليها ألا تفعل وخاطبها بصوت مرتجف:
لقد كان من الضرورى أن أوقف هذا العلاج فهو يقتلنى ويكفينى ما احتملته طوال عشر سنوات , وليس هكذا يعيش الإنسان حياته
أرجوكِ ابقى معى وساعدينى بأن تدعينى أموت سعيداً وأنتِ بالقرب منى .
ترفض الفتاة هذا الحل الإنتحارى وتعلن له بأنها تعيسة ومضطربة لانه قد خدعها
لقد أوهمها انه أنهى علاجه فكيف يتكشف لها ذلك عن سراب بعد ان وصلت معه إلى ماتصورت انه قصة العمر؟
وكيف يخذل نفسه ويخذلها ؟ إنها لا تستطيع الاستمرار معه بلا علاج لكى تعانى ماعانت منه من قبل وهى تصحو من نومها فى الصباح خائفة من أن تكون
قد فقدته خلال الليل ..
نعم هى لا تستطيع ان تبقى إلى جواره ترقبه وهو يموت أمامها بلا مقاومة ....ولا علاج .نعم لا تستطيع ولابد ان يعودا لإستكمال العلاج فإن لم يقبل بذلك راضياً فلن تبقى معه لحظة واحدة .
كان الأب قد عاد من رحلته خارج البلاد فقامت الفتاة بمهاتفته وأبلغته أن ابنه قد عاوده المرض.
هرول الأب إلى القرية الساحلية فوجد ابنه وحيداً حزيناً, فيتفهم الأب عمق آلامه ويطلب منه أن يعود معه إلى المشفى
يوافق الإبن ويطلب من أبيه أن يمهله ليلة واحدة
لكنه كان قد عقد العزم على الهروب ..وبينما هو يجمع ملابسه ويهمّ بالرحيل
تدخل عليه الفتاة وتفاجأ بما يفعله فتثور عليه معاتبته : هل تهرب الآن مرّة أخرى؟
وإلى أين؟ ولماذا تيأس من العلاج؟
يرقبها فى صمت للحظات ثم يجيب:
وجودكِ بجوارى قد أصبح يؤلمنى .. لاننى خائف من الأمل فى الحياة , وخائف من الأمل فيكِ
وجودكِ يجعلنى أتعلق بالحياة بشكل لم أحس به من قبل , أنا لا أريد إيذاءكِ
أنتِ الوحيدة طوال عشر سنوات التى لم تشعرنى للحظة بأننى مريض
لهذا فأنا خائف من الأمل فيكِ وخائف من كل شىء .
تنهمر دموع الفتاة وهى ترجوه ألا يهرب بعيداً عنها وأن يذهب مع أبيه لإستكمال علاجه
تتساقط دموعه وهو يسألها:
لماذاتفعلين ذلك ؟ لماذا تعيشين مع شاب محكوم عليه بالموت؟
انظرى إلى نفسكِ ..أنتِ شابة صغيرة وساحرة الجمال والحياة ممتدة أمامكِ فلماذا تحكمى على نفسكِ بالعذاب؟
تجيبه وهى ترتجف :
لأننى أحبك أيها الغبى
إذا رجعت معى وقاومت المرض وقاتلت من أجلنا فلن أتركك أبداً
وإذا مت ..فسوف أمسك بيدك وأنت تغيب عن الحياة وأكون آخر من تراه من الدنيا
ألا يستحق ذلك أن تقاوم من أجله ؟..ألا يستحق؟
وتمتزج دموعهما معاً..حتى يشعر كل منهما وكأنه يشرب من دمع شريكه فى الحب
حينها يستسلم الشاب لإرادة فتاته الجميلة المخلصة وينقاد ليدها التى تأخذ بيده إلى الأمل..والحب.. والكفاح من أجل الشفاء
أعتذر إن كنتُ قد آلمتكم بهذه القصة الحزينة
عن رواية " الموت شاباً" للكاتب مارتى ليمباخ