أيام الاتحاد السوفياتي الأخيرة
لم يظهر الأمر حتمياً آنذاك، بل في الحقيقة، بدت البلاد حين كنت هناك، في حالة مستقرة جداً. لكن تبين أن الإمبراطورية إذ ذاك كانت تتهاوى. باتريك كوبيرن يستذكر وقت إقامته في موسكو
مواطنون روس يحتفلون في الميدان الأحمر عام 1991 بفشل انقلاب الشيوعيين المتشددين والذي كاد أن يطيح بالرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف (أ ف ب/غيتي)
كنت مراسلاً صحافياً في موسكو بين 1984 و1987، في وقت تبين في ما بعد، أنه السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي. وباتت هذه الفترة مذ ذاك توصف بأنها الوقت الذي استفحلت فيه أزمة النظام السوفياتي المزمنة، قبيل انهياره سنة 1991. بيد أن الأمر آنذاك لم يوح بهذا، ولم يكن ثمة أي إشارات حاسمة تنبئ بالتفكك المقبل. لكنني في حينه كنت أجد صعوبة طبعاً في إقناع الناس بأن هناك أموراً جديدة وغير معهودة تحدث في موسكو، حتى مع تبوؤ ميخائيل غورباتشوف منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي، في شهر مايو (أيار) 1985.
وأنا بالطبع لم أستشرف الزلزال السياسي الذي كان في طور التشكل، لكن سرعان ما بدا واضحاً أن التاريخ يؤدي انحرافة مفاجئة ودراماتيكية، وذلك على الرغم من أن عديداً من الدبلوماسيين والصحافيين والمتخصصين في شؤون الكرملين ظلوا على موقفهم القائل، إن ظاهرة غورباتشوف برمتها ليست سوى خديعة علاقات عامة دبرت من قبل الـ "كي جي بي" (جهاز الاستخبارات) والكرملين. أما الذين فكروا آنذاك بطريقة مختلفة، فكانوا يحجبون أعينهم برداء صوف، أو مجرد جاهلين بالمراوغات والمكائد السوفياتية.
كان بوسعي معاينة بعض التصدعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الاتحاد السوفياتي حين وصلت إليه سنة 1984. لكن البلاد في الإجمال بدت مستقرة إلى حد كبير. من جهة أخرى، فإن المعايير بالنسبة لي (هنا، في الاتحاد السوفياتي) لم تكن مرتفعة جداً، إذ كنت واصلاً لتوي من بيروت، حيث تمرد الجيش (وانقسم)، وكان القصر الجمهوري (مقر رئاسة الجمهورية اللبنانية) رازحاً تحت نيران القصف. وحين أستعيد ذلك الآن، أعتقد أن ذاك الإحساس بالاستقرار الشديد هو الذي أوحى للقادة السوفيات بالفكرة القائلة، إن بإمكانهم القيام بإصلاحات جذرية في نظامهم من دون أن يؤدي ذلك إلى انقصاف الغصن الجاثمين عليه. وذاك مثل الخطأ نفسه الذي ارتكبه (الملك الفرنسي) لويس السادس عشر عندما دعا لانعقاد "مجلس طبقات الأمة" Estates General سنة 1789. فالأنظمة السلطوية هي هكذا، تميل لتصديق الدعاية (البروباغندا) التي وضعتها بنفسها، فتسيء تقدير مدى اعتماد سلطتها على القوة.
وموسكو آنذاك ربما أوحت بالسكينة، أو حتى بالاحتضار، حين وصلتها. بيد أنها كانت في خضم صراع متقادم بطيء يدور في الأعلى، بين الإصلاحيين وبين أنصار النظام القديم الطاعنين في السن. بالمقابل، في بيروت، راح الصحافيون والدبلوماسيون يرصدون المعارك الدائرة على التلال المشرفة على المدينة، كي يظهروا لنا من كان يفوز ومن كان يندحر. أما في موسكو، فإن ما حاكى تلك الوقائع المشهودة في معركة الصراع على القيادة، هي الجنائز الرسمية، حين كان يشيع نعش أحدث ميت من أعضاء المكتب السياسي ويواكب في استعراض عبر الساحة الحمراء. وكان أعضاء القيادة الباقون يعاينون الجنازة من على شرفة ضريح لينين الرخامي الأحمر، فيما الصحافيون والدبلوماسييون، الواقفون في مساحات مخصصة تحت منصة القيادة، يحدقون إلى الأعلى في محاولة لتشخيص ورصد علامات المرض المختلفة في ملامح وحركات أعضاء القيادة.
وكان هناك أربع وقائع موت مهمة. فقد مات كل من ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف في السنتين اللتين سبقتا وصولي، ولحق بهما بعد ستة أشهر الماريشال دمتري أوستينوف، وزير الدفاع، وقسطنطين تشيرنينكو، رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي وأمين عام مكتبه السياسي. وكان الرسميون السوفيات، مثل الناطقين باسم المستشفيات، يعدون نشرات أخبار متفائلة ويبقونها كذلك، إلى أن تنتقل فجأة محطات الإذاعة والتلفزيون لبث الموسيقى الكلاسيكية الحزينة.
والطبيعة الخاصة لعمل المرء مراسلاً صحافياً أجنبياً في موسكو تبينها على نحو هزلي الطريقة المصادفة التي عرفنا من خلالها عن موت أوستينوف، الذي كان لاعباً سياسياً مهماً. فقد كان يُعرف أن الرجل مريض، بيد أن أخبار وفاته في الحقيقة اكتشفها في البداية صحافيان أميركيان قصدا "قاعة الأعمدة"، الجناح الشهير القريب من الكرملين، حيث كانت تجري بطولة العالم في الشطرنج. وقد وجد الصحافيان الباب إلى القاعة مغلقاً، وعليه ورقة معلقة تضم إعلاناً مقتضباً عن إلغاء مباريات ذلك اليوم ونقلها إلى فندق هامشي في الجهة الشمالية من نهر موسكفا. تملك الفضول الصحافيين لمعرفة سبب هذا الأمر، فقرعا الباب، إلى أن فتحته عاملة تنظيفات ومعها ممسحة، وقالت إنها تنظف الأرض تحضيراً لتجثية جثمان الماريشال أوستينوف الذي توفي ليلة أمس. سعد الصحافيان بالسبق الصحافي الذي حازاه للتو، وعادا إلى مكتبهما، بيد أنهما، وإزاء القلق الذي ساورهما تجاه الموقع المتواضع لمصدر معلومتهما (عاملة تنظيف)، قررا أن ينسبا المعلومة (معلومة وفاة أوستينوف) إلى "موظف رسمي سوفياتي"، كون عاملة التنظيف هذه، مثلها مثل أي موظف رسمي آخر، وظفت من قبل الدولة.
على الرغم من كل تلك السرية، فإن ما حدث في الاتحاد السوفياتي كان واضحاً بما فيه الكفاية. فالنظام القديم وجيل الحرب، كانا يحتضران. السوفيات المحافظون، والقادة الذين أرادوا القيام بالأشياء على طريقة برجنيف، كانوا ضعفاء. لقد احتاجوا إلى مرشحين أصغر عمراً وأفضل صحة (لإكمال المسيرة)، لكنهم لم يحصلوا على ذلك. أفضل ما استطاعوا القيام به عقب وفاة يوري أندروبوف في مطلع سنة 1984، كان تعيين مساعد برجنيف القديم، قسطنطين تشيرنينكو، خلفاً له (لأندروبوف).
بشعره الأبيض ولهاثه المتقطع كي يلتقط الأنفاس، بسبب مشكلات يعاني منها في الرئتين، بدا تشيرنينكو مثل كاريكاتير ماكر يصور القيادة الهرمة، وهو في نهاية ذلك العام (1984) اختفى من المشهد العام وانسحب كي يستريح في منزله الريفي (الداتشا) في ضواحي موسكو. ثم عاد وظهر لمرة واحدة فقط، في ما بدا كمحاولة فاشلة قام بها التلفزيون السوفياتي كي يثبت أن الرجل ما زال حياً ويتحرك. بدا تشيرنينكو في تلك اللقطات التلفزيونية واقفاً مستقبلاً وفداً، بيد أنه، وعلى نحو واضح، راح يتمسك بظهر كرسي أمامه بكلتا يديه كي يعين نفسه. وحين حاول رئيس الوفد الزائر تقديم باقة أزهار حمراء له، بدا تشيرنينكو عاجزاً عن تلقيها. وقد رفع يده اليمنى عن ظهر الكرسي مرتين لبضعة سنتمترات، لكن الجهد الذي بذله كان كبيراً جداً، وما لبثت يده أن سقطت.
بعد مضي أسابيع قليلة، ذهبت إلى جنازة تشيرنينكو، تلك الجنازة التي قطعتها حادثة مؤثرة. جميع المشاركين في التشييع، من أعضاء المكتب السياسي إلى الجماهيير أمام متاجر "غام" GUM في الجهة المقابلة للساحة الحمراء، كانوا في مزاج جيد. إذ إن أزمة القيادة بلغت نهايتها أخيراً. خلفي، وفي ممر خفيض تحت مستوى الساحة، تجمع عناصر من وحدات الـ "كي جي بي" الخاصة، ببذلاتهم المطرزة بالخيطان المذهبة وقبعات فراء الخراف الفارسية، وكانوا يضحكون ويدخنون السجائر. ثم، فيما كنت أهم بالعودة إلى البيت، قامت السيدة تشيرنينكو، التي لا تختلف بشيء عن أي امرأة مسنة من نساء الفلاحين في سوق موسكو، برمي نفسها على النعش قبل أن يأخذوه. وقد توقفت الجنازة لبضع دقائق فيما السيدة تنتحب فوق النعش.
عاش الصحافيون الأجانب في موسكو في ظل ظروف خاصة. فالحكومة لم تستطع أبداً حسم موقفها تجاههم، وإن كان يجب اعتبارهم جواسيس همهم جمع المعلومات، وينبغي إفشالهم في كل مسعى، أو أشخاصاً تحتاج الحكومة إلى العناية بهم والتأثير فيهم. والحكومة (السوفياتية) المترددة بين هذين الموقفين، حاولت تطبيقهما معاً، في آن واحد. وقامت وزارة الخارجية بتظيم جولات للصحافيين، ومع عودة الأخيرين إلى موسكو (بعد الجولات المذكورة) كانوا يقرأون في الإعلام مقالات عنهم تشير إلى أن الصحافي فلان أو علان، وبعيداً من تقصيره في إظهار الامتنان للضيافة السوفياتية، تصرف بطريقة يصعب تفريقها عن فعل التجسس المباشر. وتلك المقالات من دون أي شك استندت إلى تقارير صادرة من الـ "كي جي بي"، وكتبت بنبرة متألمة لصديق موثوق طعنت ثقته.
وكشفت ظروف عيش الصحافيين الأجانب (في موسكو) تلك المقاربة المنفصمة (للتعامل معهم). في سنة 1984، كان هناك 300 صحافي (أجنبي) بدوام كامل في موسكو يعيشون بين 20 مجمع للشقق السكنية المخصصة للأجانب دون غيرهم، موزعة في أنحاء مختلفة من المدينة. مدخل كل واحد من تلك المجمعات كان يحرس على مدى 24 ساعة في اليوم من قبل شرطي يرتدي معطفاً رمادياً ويسجل اسم كل شخص يدخل أو يغادر المجمع. وكان يسمح بالدخول للأجانب الذين يحملون جوازات سفر، فيما يحظر دخول المواطنين السوفيات، إن لم يكونوا بصحبة أحد سكان المجمع. وافترض الأجانب داخل تلك المجمعات أن كل كلمة يقولونها يمكن رصدها من قبل الـ "كي جي بي" (جهاز الاستخبارات السوفياتي).
أنا عشت في أحد تلك المجمعات، في بناية بنية اللون من تسع طبقات، مواجهة لـ"مسرح الدمى" عند الطريق الدائري الذي يطوق وسط موسكو. وكانت البناية مقسومة بين الصحافيين والدبلوماسيين. وفي الجالية الاغترابية تلك فاق عدد الدبلوماسيين عدد الصحافيين بمعدل 10 مقابل واحد، ما وسم الحياة اليومية على نحو خاص بمظهر الهرمية الرسمية، حيث تربع سفراء الدول الكبرى على قمة ذلك الهرم، فيما خصصت قاعدة الهرم لمربيات الأطفال. في حفلات العشاء كان سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أو ألمانيا يجلسون عند أقصى طرف الطاولة، ومن هم أدنى درجة، بحسب الهرم الرسمي، يجلسون عند منتصف الطاولة. وهكذا ما لبثت أن تعرفت على سفير جزر "كايب فيردي" (جزر الرأس الأخضر)، وعلى كاهن برداء أسود زعم أنه أرشمندريت إنطاكيا.
وسادت في أوساط الجالية الأجنبية (في بناية مجمعنا السكني) أجواء توترات ونزاعات بين الجيران، سكان الطوابق "العلوية والسفلية"، على نسق روايات القرن التاسع عشر. لكن تلك الأجواء اتسمت أيضاً بضغوطات بدت فريدة من نوعها في الاتحاد السوفياتي. من الأمثلة الجيدة على تلك الأجواء الخاصة يمكن ذكر وضعية كثيرات من مربيات الأطفال، اللواتي يعملن في بيوت الأجانب. حياة أولئك المربيات لم تكن سهلة. إذ إن وزارات الخارجية لكل الدول كانت تخشى تعرض الدبلوماسي (أو الدبلوماسية) الأعزب (أو العزباء) إلى إغواء ما، يتبع بخيانة سياسية، لذا فضلت تلك الوزارات أن يكون أفراد طواقم سفاراتها من المتزوجين. وهكذا كان هناك عدد كبير من الأطفال (في المجمعات السكنية) يحتاجون للرعاية والاهتمام. وتدبير ذلك لم يكن صعباً جداً. إذ إن العمل كمربية مثل أحد الطرق القليلة التي أتاحت للفتيات المتخرجات من الجامعات الروسية الحصول على فيزا للبقاء والعمل في روسيا. لكن للأسف، كثيرات من تلك الفتيات كن مهتمات بـ تولستوي وتورغينيف أكثر من الاهتمام برعاية أطفال الدبلوماسيين. وقد اكتشفن، ما أن التحقن بالوظيفة، أنه كان عليهن العمل لساعات طويلة مقابل أجر زهيد. فتراكم الاستياء في أوساطهن، وفي تطور لم يكن ليفاجئ كارل ماركس، قاد ذاك الاستياء إلى تشكل حركة صحوة دينية. وفي تلك الأجواء، راحت إحدى المربيات العاملات في بيت صحافي تخط شعارات تتركها هنا وهناك في شقته. وأخبرني ذاك الصحافي أن الأمر في إحدى الصبيحات سبب له إحباطاً كبيراً، إذ نهض من فراشه ووجد في فردة خفه ورقة خط عليها: "احمني أيها المسيح الرب. الشيطان يسكن في هذا البيت".
وانبثق من الأجواء الحميمية المغلقة المفروضة على أفراد الجالية الأجنبية، إحساس من "رهاب الانحباس" الاجتماعي. أنا من ناحيتي كنت أهرب من ذلك (الإحساس) مرة في كل يوم، عبر مشاوير طويلة سيراً على الأقدام في وسط موسكو، ذلك الوسط الذي، ما عدا الطريق السريع المؤلف من ستة خطوط، بناه ستالين ولم يتبدل منذ عام 1917 إلا قليلاً. الكنائس والأديرة حولت سنة 1917 إلى مكاتب وشقق سكنية، وما زالت مبانيها تحتفظ بألوانها الروسية الأساسية، الزهري الشاحب، والأخضر الشاحب، والأحمر الغامق، واللون الطيني. أما السفر إلى خارج موسكو فكان يتطلب من الأجانب إبلاغ وزارة الخارجية (السوفياتية) به قبل يومين من موعده. وإن لم يردهم جواب من الوزارة، يمكنهم السفر.
كل واحد من تلك القيود منفصلاً، لم يكن مرهقاً بحد ذاته بالنسبة إلى الأجانب، لكن النظر إليها (القيود المذكورة) مجتمعة، كان كفيلاً بتوليد إحساس كاف من الضغط كفيل بجعل الأشخاص يفضلون العزلة الذاتية. "ما هو الاتحاد السوفياتي؟ الفولتا العليا مع صواريخ!" قال لي أحد الصحافيين خلال أيامي الأولى في موسكو. بعد مضي أسبوع، خلال لقاء عشاء، أعاد دبلوماسي تلك الجملة. وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، ولعشرات المرات، سمعت تلك النكتة العصبية التي تمزج السخرية بالتحدي. وهي نكتة لطمأنة الذات ومضللة في آن، ذكرتني بالمسيحيين في بيروت والبروتستانت في بلفاست. وحاولت أن أبقي في ذهني على الدوام أن أسوء ما يمكن أن يحدث لي هو الإبعاد والترحيل من الاتحاد السوفياتي.
الدبلوماسيون الأجانب بدورهم، والروس الذين كانوا على علاقة معهم، كانوا عرضة أكثر من الصحافيين للمراقبة. وأخبرني دبلوماسي بريطاني أنه في مطلع الثمانينيات رأى السفير البريطاني في موسكو أن على سفارة بلاده تمتين علاقتها بالمثقفين السوفيات، فقام بدعوة 150 فرداً من أولئك المثقفين إلى حفلة "عيد ميلاد الملكة" (البريطانية)، المناسبة الاحتفالية الدبلوماسية الرئيسة خلال السنة. لكن في يوم الحفلة لم يحضر سوى ثلاثة من المثقفين المدعوين. وذاك، حتى وفق المعايير السوفياتية، مثل حضوراً هزيلاً جداً، لذا قامت السفارة بسؤال السائقين، وهم جميعاً مواطنون سوفيات، إن قاموا في الحقيقة بتوزيع وإيصال جميع الدعوات التي أرسلت. وقد اعترف السائقون بأنهم، نظراً لوجود كثيرين من الفنانين والرسامين في ضواح بعيدة من موسكو، أرادوا تفادي الرحلات الطويلة لإيصال الدعوات مباشرة لأصحابها، فقاموا بتسليمها (الدعوات) إلى وزارة الثقافة السوفياتية كي تقوم بإيصالها للمثقفين المناسبين الذين يفترض أن تكون الوزراة على علاقة معهم. أمام هذا الاعتراف، وبفعل غضبه من تكاسل السائقين الذي أفسد خططه (إذ افترض أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون وزارة الثقافة السوفياتية فعلته هو إحراق الدعوات، بعد إدراج أسماء من وجهت إليهم في اللائحة السوداء)، قال السفير البريطاني، إنه سيطردهم جميعاً (السائقين) من العمل إن كرروا فعل ما فعلوه. وفي السنة التالية، بعد التهديد بالصرف ذاك، قام سائقو السفارة وبنشاط دؤوب بالوصول إلى ضواحي موسكو البعيدة وصعدوا ونزلوا أدراجاً كثيرة كي يوصلوا دعوات عيد ميلاد الملكة البريطانية، ويسلموها باليد لكل روائي ورسام وشاعر أرسلت له.
لكن سطوة الوزارة كانت أكبر، ويدها أطول مما تخيلته السفارة. ففي يوم الاحتفال انتظر السفير البريطاني وصول المدعوين بفارغ الصبر، لكن، بعد ساعة من بداية الحفل، ألقى السفير نظرة إلى المرج العشبي في الحديقة حيث الاحتفال، فرأى خائباً أن ثلاثة فقط حضروا من المثقفين المدعوين، وأولئك الثلاثة كانوا الأشخاص أنفسهم الذين حضروا حفل العام الفائت.
وقائع مثل هذه كانت خادعة، وذلك، بالدرجة الأولى، لأن المدى الذي بلغته وزارة الثقافة السوفياتية للحؤول دون حضور المثقفين السوفيات، افترض أنها (الوزارة) قد تكون عممت بيان معلومات مهم، بياناً أساسياً في فهم الاتحاد السوفياتي. وذاك متن القناعة السائدة، العاتية بأوساط الصحافيين، التي تفترض أن مزيداً من الصلات مع من هم في السلطة، عبر المقابلات والمداولات، من شأنها أن تقود إلى فهم أكبر لما كان يحصل. وتلك القناعة في موسكو عززتها التقاليد الأكاديمية في مجال "السوفياتولوجيا" (التخصص في شؤون الاتحاد السوفياتي)، التي اعتبرت الكرملين بمثابة مركبة فضائية تحوم فوق المجتمع السوفياتي وتمارس سيطرة تامة على السكان. وإذا كان هذا صحيحاً، فإن السبيل الواضح، وطبعاً الوحيد، للصحافي (للقيام بوظيفته) يتمثل في أن يحدد ويحادث شخصاً على متن هذه المركبة، إن لم يكن شخصاً يتولى قيادة المركبة.
هذا كان حقيقياً إلى حد ما، لكن، بعد بضعة أشهر في موسكو، بدا واضحاً أن طاقم تلك المركبة الفضائية، البعيد كل البعد عن السيطرة التامة، كان يقوم بمحاولات شبه يائسة للرد على التطورات الحاصلة والخارجة على السيطرة. بالنسبة إلى بعض المغتربين في موسكو آنذاك، فإن تلك التطورات كانت مصطنعة، وتقنع (من قناع) وجه الدولة السوفياتية الذي لا يتغير. وأيضاً كانت هناك رغبة مفهومة في أوساط بعض الخبراء تتمثل في عدم التسليم بسهولة لفكرة التغيير الجذري، التي قد تطعن في قيمة معرفتهم المتراكمة (أي الآخذة بمبدأ التراكم).
ولروسيا في هذا السياق جاذبية خاصة للأشخاص الذين يعتقدون أن غورباتشوف ليس سوى خروتشيف أو ستالين، معاد تدويرهما، أو تكرار لبطرس الأكبر أو إيفان الرهيب. ولأن ذلك لا يتطلب جهداً في التفكير، من اليسير في جانب الاعتقاد أننا كنا ببساطة نعاين تكرار نسق قديم، وأن جميع المشكلات ينبغي أن تستجيب لسبل المعالجة التقليدية.
في هذا الإطار أخبرني دبلوماسي عن سابقة مبكرة لتلك المقاربة التي لا تقر "بجدية التغيرات" الحاصلة، وهي مقاربة حكمت موقف وزارة الخارجية البريطانية سنة 1917 بعد فترة قليلة من استحواذ البلاشفة على السلطة. إذ كان الحلفاء الغربيون متخوفين من أن يقوم الثوار بتوقيع معاهدة سلام منفصلة مع ألمانيا. وجرى آنذاك أخذ رأي الخبراء في الشؤون الروسية حول كيفية التأثير على القيادة الجديدة (القيادة الروسية، التي غدت سوفياتية). قليلون من أولئك الخبراء كانت لديهم أفكار مفيدة يقترحونها، إلى أن قام أحد الرسميين الطاعنين في السن بتقديم خطة غير مسبوقة. وأشار ذاك المسؤول الكهل إلى أنه، خلال السنوات الطويلة التي قضاها في التعامل مع الروس، لاحظ ولعهم بالأوسمة. لذا فقد اقترح أن تقوم بريطانيا بمنح لينين وسام الفروسية، وتروتسكي وساماً آخر أدنى مرتبة، لكن جديراً بما يكفي، كي يدفعهم لوقف محادثاتهم مع ألمانيا.