تطور العدل في التحقيق الجنائي ومقارنته بالمدنية الاسلامية
تطور العدل في التحقيق الجنائي ومقارنته بالمدنية الاسلامية[1] يوسف سلمان كبة تعتبر الحقوق الجزائية قسما من الحقوق العامة ، ذلك لأن الجرائم وإن كان الظاهر انها تضر المجنى عليه وحده الا ان ضررها في الحقيقة يسري الى مجموع افراد الهيئة الاجتماعية ، وهذا ما حدا بالامم الغابرة ان توقع العقاب على المجرم واهله ، وقد تلحق العائلة والمدينة وبعض الحيوانات . وكانت العقوبات تفرض حسب العرف وتنفذ بأمر رئيس القبيلة او حاكم المدينة ، إذ لم تكن حينذاك تشريعات منظمة يطبقها القضاة ، وغاية ما كان يدرك ان العقاب ناشيء عن الانتقام والأخذ بالثأر . ولكن عندما انتظمت الهيئات الاجتماعية وشعرت بمسؤوليتها ازاء افرادها وبواجبها في استتباب الامن ، وتوطيد الراحة العامة ، قامت بإصلاح قوانينها ، وعولت في معاقبة المجرم بإعتبار العقاب رد فعل من الهيئة الاجتماعية ضد المجرم الذي اخل بالنظام العام . ومن ثم تطور الحال وصارت العقوبة شخصية لايمكن في اي ظرف ان ينال العقاب الا من له يد في ارتكاب الجريمة ، ويتم ذلك بنتيجة الاجراءات التي تقوم بها الهيئة القضائية لاثبات الجرم وتعيين المجرم . وتحديد الاجراءات الجنائية وانتقاء اصلحها ليس بالامر الهين والغرض اليسير ، إذ يجب التوفيق بين مصلحتين متضاربتين هما : مصلحة المجتمع وهي تستلزم سرعة القصاص ليحدث العقاب اثره ، ومصلحة المتهم وهي تقضي التريث والتأني كي لايغدر المتهم في حالة كونه بريئا . وكان الاعتراف قديما من اقوى الادلة على الادانة وهو عند الاقدمين بمثابة البينة الحقيقية ، وهو في القضايا الجزائية وحده يساعد على الاعدام . ولذلك كان الوصول الى الاعتراف واستحصاله من المتهم ، من القضايا العويصة التي أشغلت بال المفكرين من الكتاب والفقهاء . والواقع اننا لو رجعنا الى قواعد التحقيق والحكم على اختلاف الازمنة ، لوجدنا استمرار التنازع بين مصلحتي المجتمع والمتهم . وكم طغت احداهما على الاخرى تبعا لحالة الدولة الاجتماعية ونظام الحكم فيها . فموضوع اصول التحقيق الجنائي لهو من اهم موضوعات العلم المذكور ، ولقد تعاقبت عليه ادوار وأساليب كثيرة حتى وصل الى ما هو عليه في الوقت الحاضر . واولى هذه الاساليب ، هو الاسلوب الادعائي الذي ظل سائدا في اوربا حتى نهاية القرن الخامس عشر ، وكان من مقتضاه ان يرجع القاضي عند عدم قناعته بالشهادات المقررة واصرار المتهم على الانكار ، الى معاملة اسموها (حكم الله) للفصل بين المتداعيين ، وحكم الله هذا يتجلى للقاضي بمصارعة المتهم للوحش او القاءه في الماء المغلي او الكي بالنار . وبعد هذا الدور الهمجي جاء الاسلوب التحقيقي ، وهو لايختلف عن سابقه في شيء كثير ، فقد كان يجري التحقيق بموجبه بين جدران خرساء وفي خلوات متتابعة الى ان يرى القاضي في المتهم مجرما او متهما عاجزا عن الدفاع عن نفسه ، او متهما مضطهدا في السجن الاتهامي ، ومستعدا للادلاء بإفادات ضارة فاضحة ، فيحكم عليه . اما اذا لم يظفر الحاكم بعد كل هذا بادلة كافية ضد المتهم فيأمر بسوق هذا المسكين الى حجرة التعذيب للحصول على اعترافه . وعلى ما في هذا الاسلوب من قسوة ووحشية فقد اعتقد الاوربيون انه الاسلوب الضروري والواجب الاتباع ، حتى انهم عرفوه بإسم (المسألة القضائية) . ويذكر العلامة (جارو) بعض هذه الاصول في موجزه وينعتها بالفظائع القضائية . ويصور الكاتب الفرنسي الشهير (ميشيل زيفاكو) كيف كان يجري التحقيق الجنائي في عهد فرانسوا الاول إذ يقول : (إذا عرض ابهام او غموض في احدى القضايا يامر القاضي بسوق المتهم الى حجرة التعذيب فلا تمر عشر دقائق حتى يقول القاضي لقد برح الخفاء وظهر المستور ، ذلك لان المتهم اذا القي الى معاناة التعذيب والتنكيل يقر بما يراد منه الاقرار به ، وقد يعترف ببعض ذنوب لايصورها الا الخيال ، او هي فوق الطاقة والامكان . كأن يعترف المتهم بأنه يراسل الشياطين ، او يسخر الملائكة ، او يمسخ البشر ،ويطير في الهواء ...) . وظل هذا التشريع قرونا واعواما طويلة لم يفكروا خلالها في تغييره او مقاومته حتى قيام الثورة الفرنسية 1789 ، وإعلان حقوق الانسان ، حيث عمد رجال العقل والفكر في الجمعية التأسيسية وغيرها الى اصلاح مفاسد الحقوق المرعية بوجه عام والحقوق الجنائية بوجه خاص وقد وجهوا عنايتهم لهذه الناحية اكثر من غيرها ، لذلك مرت هذه التشريعات في دور سريع التبدلات فألغيت كثير من الاصول التي كانت متبعة . وكلما تدرج الغرب في سلم الحضارة كلما اخذت القواعد العقابية تقل تدريجيا ، حتى لقد قال العالم الالماني (اهرنج) : (ان تاريخ العقوبات عبارة عن الغاء مستمر.) . وسنت لاصول المحاكمات الجزائية قوانين كانت الغاية منها تطبيق القاعدة العامة : (الاصل في المرء البراءة) وتحقيق غرضين اولاهما : معاقبة من ثبت عليه الجرم بالسرعة المستطاعة بغية اصلاحه وردع غيره ممن تسول لهم انفسهم سوءاً . والغرض الثاني : هو المحافظة على حقوق الهيئة الاجتماعية وذلك بإجتناب معاقبة أحد ما لم يثبت انه ارتكب جريمة . وللوصول الى هذا الهدف وجد من الضروري ان تكون لإحالة المتهم على المحكمة اجراءات سابقة كالتحقيق الابتدائي وغيره ، مما يستلزمه واقع الحال ، فتجمع الادلة ، وتعين مواطن الادانة ، ويقدم كل ذلك للقضاء للاستنارة به وقت المرافعة . ونشط الكتاب في المطالبة بتوسيع قواعد العدل في الاصول ، وفعلا لم يكن حظهم بأقل ممن سبقهم ، فتعين على القضاء في شتى الظروف اثبات امرين بصورة واضحة قبل الحكم بالادانة وهما : -1- وجوب اثبات كون الجريمة قد وقعت فعلا وان الفعل المرتكب محرم في القانون . -2- يجب على القضاء اثبات كون المتهم هو الذي ارتكب الجريمة ، والا لو اتهم عدة اشخاص بارتكاب جريمة ما ثم ظهر ان واحدا منهم قد ارتكبها ، ولم يتمكن القضاء من تعيين المجرم من بين جماعة الابرياء ، وجب اطلاق سراح الجميع . لان ذلك أضمن لروح العدل واحقاق الحق ، (فتبرئة عشرة مجرمين اجدر من الحكم على بريء واحد.) . والوصول الى هذه المرحلة يعده الفقهاء من اسمى المراحل التي توصل اليها التشريع الغربي الحديث . ولم يقف العدل الى هذا الحد ، بل تدخل في القانون بنطاق أوسع ، فبعد ان كان التحقيق يتم بواسطة افراد ليس لهم المران الكافي للقيام بهذا العمل الخطير ، تشكلت في غالبية الدول محاكم خاصة الى جانب المحاكم القضائية ، تلك هي محاكم حكام التحقيق ، والغاية منها تطبيق العدل وضمان جريان التحقيق بنزاهة واتقان . ولهذه المحاكم ما لغيرها من حق الاستقلال تتمتع به ، وقد انيط امر ادارتها برئيس لها هو (النائب العمومي) او المدعي العام وهو بوظيفته هذه يجمع بين صفتين ساميتين فمن جهة هو امين المجتمع على الدعاوي العمومية يتولى امرها في سائر انحاء القطر ويديرها بنفسه وبواسطة نوابه الذين يقومون بهذا الواجب عنه ولا تتعدى هذه الصفة عن الوكالة فهو يمارس هذا الحق بالنيابة عن الهيئة الاجتماعية وليس له ما ليس للوكيل في كل ما يقوم به من اعمال . اما بصفته الثانية فهو الرئيس لهذه المؤسسة ، والمدير لشؤونها يشرف على اعمال المحققين بمراقبته ، ويرشدهم الى الاجراءات القانونية من حيث صحتها وعدمه ، وكذلك يمارس بعض الصلاحيات الخاصة والمعتبرة من ضمن وظائفه في القانون . وقد تقدمت – خلال هذا الدور – اسس الاستنطاق والتحقيق تقدما واسعا حيث يقال انها بلغت القمة وأشرفت على الغاية . فالقانون الانكليزي اخذ بنظر الاعتبار بعض الافتراضات قبل البدء في الدعوى وممارسة التحقيق ، وقبل نظرية البينات سواء في ذلك الخطية منها والشفهية ، والبينات المباشرة والظرفية . ووجه القانون كلفة الاثبات على المدعي . كما هناك جرائم لايحكم على من اتهم بها الا بناءا على اعترافه الاختياري او شهادة عدلين على الاقل اثناء المحاكمة العلنية . وعلى هذا تجري الاصول في العراق . اما الاصول الافرنسية فقد اخذت بما اخذ به الانكليز ، ولكنها حرمت قبول الشهادات المبنية على السماع الا في حالات معينة . وقد اتفقت جميع القوانين على ان الاعتراف الواقع نتيجة اساءة معاملة المتهم او بعد تهديده او بسبب وعده بفائدة غير مقبول . بل ان بعض القوانين ما اعتبر جريمة يرتكبها المحقق ويستحق عليها العقاب . وأصبح مبدأ البراءة أقوى في القضايا الجزائية منه في القضايا الحقوقية ، مما أستوجب التعمق في التحقيق بإزدياد خطورة الجريمة . وقد استند على هذا المبدأ (اللورد بروكام) عند دفاعه التاريخي عن الملكة (كارولين) ، حيث قال طاعنا في الادلة : (انها ناقصة لاثبات دعوى دين ، واهية للحرمان من حق مدني ، مضحكة إذا اريد الحكم بموجبها في أتفه الجرائم ، شائنة لإثبات جريمة خطيرة ، مريعة اذا كانت لتخريب شرف ملكة انكليزية .) . لقد ظلت اوربا تعاني ما تعانيه من قساوة التشريع ووحشية الاحكام ردحا طويلا من الزمن . ولم تتطور قوانينها الا خلال القرنين الماضيين . بينما الاسس التي ارتكز عليها الاصلاح المذكور ، كانت فرعا من فروع (الشريعة الاسلامية) و (طرفا من مدنيتها) التي كان ينعم بها الاسلام ، حيث صار بفتوحاته رحمة للعالم وسببا من اسباب بعث النهضة العلمية في ديار الغرب يوم كان يعتقد بالاساطير ويتخبط في دياجير الظلمات لايدري هو أين ... فأستنشق بها عبير الحرية والسلام . فلنرجع البصر الى الكتب الفقهية الاسلامية لنرى كيف كان العرب يحكمون قبل ثلاثة عشر قرنا وكيف كانوا يحققون ؟ جاء في كتاب الخراج للامام ابي يوسف ( ومن ظن عليه سرقة فلا ينبغي ان يعزر بالضرب والتوعد والتخويف ، فمن أقر بسرقة او بقتل او بحد ، وقد فُعِلَ ذلك به فليس اقراره بشيء ، ولايحل قطعه ولا اخذه بما أقر) . نرى من هذه المادة عدل القضاء ،ومنتهى النظر القويم والرأي السديد . وهو ما يتفق واحدث المباديء لهذا العلم . ومنه يدل على ان الاسلام كان من اعرف الامم بحق المجتمع وتحقيق العدل ومن أكثرهم فطنة في اصول القضاء العادل . اما بصدد الاقرار ، فقد قررت الشريعة الاسلامية : (ان الاقرار اذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت اليه ابداً ، اذ ان البينة والاقرار خبران يتطرق اليهما الصدق والكذب) . وقالت في اختيار الحاكم : (والحاكم اذا لم يكن فقيه النفس في الامارات ، ودلائل الحال ، ومعرفة شواهده ، وفي القرائن الحالية ، والمقاليد ، كجزئيات وكليات الاحكام ، أضاع حقوقا كثيرة على اصحابها ، وحكم بما يعلم الناس بطلانه ، ولا يشكون فيه اعتمادا منه على نوع ظاهر لم يلتفت الى باطنه وسائر احواله) . يظهر من ذلك ان القضاة العرب لم يكونوا يقفون في قضائهم عند مجرد ظواهر البينات وانما يحكمون قناعتهم ، ووجدانهم ، وفراستهم أيضا . وإن في ذلك لفطنة وذكاءا وصدقا . سيما وان مسألة القناعة الوجدانية تعتبر من اهم الامور في العلم الجنائي الحديث ، وان في اهمالها إضاعة حق كبير ، وإقامة الباطل مقامه . وجاء في كتاب الطرق الحكمية لابن القيم : (ان النبي (ص) قال : لاأقضي الا على نحو ما أسمع) . وقال أبو بكر : (لو رأيت رجلا على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي غيري) . وعن عمر بن الخطاب انه قال لعبد الرحمن بن عوف : (ما رأيك لو رأيت رجلا قتل أو شرب الخمر او زنى ؟ قال شهادتك شهادة رجل واحد . فقال عمر : صدقت) . وعن الضحاك ان عمر اختصم اليه فيمن يعرفه فقال للطالب : (إن شئت شهدت ، ولم أقضِ ، وإن شئت قضيت ، ولم أشهد) . ومما يذكر عن علي انه قال : (لااكون قاضيا وشاهدا في دعوى) . ومما يذكر ان التحقيق الجنائي قد وصل في عهد علي الى أبعد حدود التعمق والاستقصاء . وفي الكتب الفقهية من القضايا ما يعد من الغرائب في تاريخ القضاء . وقد جاء العلامة السيوطي بكلمة جامعة تدل على سمو الغاية وكمال المسعى الاسلامي في التشريع القائم على تحقيق العدل وضمان المصالح الانسانية ، وهي الغاية التي وصل اليها التشريع الحديث ، قال رحمه الله : (واعلم انك ان تخطىء في العفو في الف قضية خيرٌ من ان تخطىء في العقوبة في قضية واحدة) . هذه لمحة سريعة في تطور العدل في الاصول الجزائية . وقد رأينا انها استندت على أسس العدل في الشرع الاسلامي . ومهما يقال عن تحقيق العدل في هذه الاصول ، فلم تزل تحدث في بعض المحاكم قضايا يحكم فيها على شخص بريء . وهناك قضايا كثيرة حدثت من هذا القبيل ، أشهرها قضية الضابط البريء (دريفوس الفرنسي) ، وهي من القضايا ذات الأثر البالغ في تاريخ فرنسا السياسي والاجتماعي . فقد حكم على هذا الضابط بالنفي والتجريد ، وأستمرت الدعوى بين اعادة نظر ونقض وابرام واحكام مختلفة مدى عشرة اعوام ثم حكم نهائيا بتبرئة الضابط المظلوم ، وردت اليه حقوقه وجميع اعتباراته . وما فتىء حتى اليوم وقد مضى على القضية زهاء خمس وثلاثين سنة ومن الكتاب من يقول ببراءة دريفوس ، ومنهم من يرى رأي خصومهم فيقضي عليه بالخيانة ويحكم عليه بالادانة . من هذا نستدل دلالة واضحة على ان الاصول الجزائية ما زالت تتغلغل في طيات العدل ولم تقف عند حد بعد .
مجلة المجلة – العدد 18 السنة الثانية – 1/آب/1940 – مجلة ادبية ثقافية عامة نصف شهرية – صاحب الامتياز ورئيس التحرير المسؤول يوسف الحاج الياس المحامي – ادارة المجلة في مطبعة ام الربيعين في الموصل – مدير الادارة ابراهيم الجلبي .[1]