جريمة تبييض الاموال (غسيل الأموال )

تمهـيد :
تشكل الأموال عصب الاقتصاد الذي يعتبر عماد الحياة المعاصرة ، وأحد مقومات الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة في العالم ، ويقاس رقي الشعوب برقي وتقدم اقتصادها ، وقد أصبح الاقتصاد نظاماً عالمياً ارتبطت به الأسرة الدولية بصورة عضوية ، فأصبح يشكل كياناً مترابطاً تتفاعل أجزاؤه وتؤثر في المتغيرات المختلفة التي تتجاذب العالم المعاصر . وأدى الصراع على المال إلى التنافس بين أصحاب النفوذ الاقتصادي في بعض البلدان ، ففي القرنين السابقين برزت مجموعات النفوذ المالي إذ بدت كعنصر فعال على الصعيدين المحلي والدولي ، بإمكانها شراء ضمائر بعض الدول بمصالح اقتصادية محضة.
وقد ظهرت بعض الفضائح من خلال صفقات تجارية غير مشروعة بين بعض الأفراد أو الشركات وبعض الدول بالإضافة إلى بعض الرؤساء والوزراء وأصحاب السلطة والمال الذين تتحدث عنهم الصحف ، وطاول الفساد الموظفين الكبار في المؤسسات الرسمية مما يشكل خطراً على النظام الاقتصادي ككل ويحول دون إجراء الإصلاحات اللازمة لهذا النظام وما محاكمة بعض النافذين أو أقرباء هؤلاء في عدة دول ، إلا دليل على مدى تفشي الفساد في معظم دول العالم.
هذا الأمر هو الذي حمل المؤتمرات الدولية والوطنية على معالجة موضوع جرائم الأموال غير المشروعة ومنع إخفائها وتمويه مصدرها غير المشروع ، فظهر اصطلاح( غسيل الأموال ) لأول مرة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والتي عقدت في فيينا عام 1988 ، حيث نصت المادة الثالثة منها على أن غسيل الأموال يتمثل إما في تحويل الأموال أو نقلها مع العلم بأنها من نتاج جرائم المخدرات أو في إخفاء أو تمويه حقيقة الأموال أو مصدرها أو في اكتساب أو حيازة أو استخدام الأموال مع العلم وقت تسليمها أنها من حصيلة جريمة من الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقية (1) .
وقد أصدرت لجنة العمل المالي لغسل الأموال والمعروفة باسم ( F . A . T ) ( Financial action task force – on money laundering ) التي أنشأتها قمة الدول الصناعية السبع عام 1989 ( الآن الثمانية بعد انضمام روسيا ) أربعون توصية عام 1990 تضمنت ضرورة مكافحة ظاهرة غسيل الأموال محلياً ودولياً ، واهتمت بضرورة التوسع في الجرائم حصيلة الأموال المغسولة وعدم قصرها على أموال المخدرات فقط بل يمكن أن تشمل كذلك كافة الجرائم الخطيرة التي يتحصل منها على قدر كبير من الأموال واستخدام عائدات الجريمة والذي انعقد في إيطاليا عام 1994 واقترحت إدراج جرائم أخرى كتجارة الأسلحة والذخائر والسرقة والابتزاز والاختطاف والاحتيال والتجارة غير المشروعة في الآثار وتجارة الرقيق الأبيض والدعارة والقمار .
خطـة الدراسـة : - تتضمن هذه الدراسة المحاور الآتية : المحور الأول - تعريف (( غسيل الأموال ). المحور الثاني - أركان جريمة غسيل الأموال . المحور الثالث - عقوبة جريمة غسيل الأموال في العراق.
تعريف (( غسيل الأموال )) : اعتبر بعض الباحثين أن أصل تسمية تبييض أو غسيل الأموال يعود إلى عصابات المافيا الشهيرة في الثلاثينات ، حيث تم القبض على زعيم هذه العصابات ( آل كابوني ) ( Alponse Caponi ) وذلك سنة 1931 بالتهمة الوحيدة التي أمكن إثباتها عليه وهي تهمة التهرب من الضرائب ، فتوجهت عصابات المافيا بعد ذلك إلى تأسيس وشراء أعمال مشروعة تستخدمها لتمرر من خلالها الأرباح الهائلة من العمليات الإجرامية التي تقوم بها . وقد وردت عدة تعاريف أوردها الخبراء في تقريب معنى غسيل الأموال إلى الأذهان، وانقسمت الآراء الفقهية في تعريف غسيل الأموال إلى قسمين : ضيق وواسع(2).
حيث يقتصر التعريف الضيق على غسيل الأموال غير المشروعة الناتجة عن تجارة المخدرات ، ومن الآراء التي اعتمدت التعريف الضيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية المنعقدة في فيينا في ديسمبر عام 1988 ، وكذلك التوصية الصادرة عن مجلس المجموعة الأوربية 1991 .
أما التعريف الواسع لغسيل الأموال : فأنه يشمل جميع الأموال القذرة الناتجة عن جميع الجرائم والأعمال غير المشروعة ، وليس فقط تلك الناتجة عن تجارة المخدرات والمؤثرات العقلية (3) ، وفي العراق فقد عرفت المادة الثالثة من الأمر رقم ( 93 ) لسنة 2004 ـ لسلطة الائتلاف المؤقتة (قانون مكافحة غسل الأموال ومكافحة التمويل الإجرامي) النافذ (4) الذي يسري على التداول المالي غير المشروع ، بأن غسيل الأموال : ( كل من يدير أو يحاول أن يدير تعامل مالي يوظف عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني عارفاً بأن المال المستخدم هو عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني أو كل من ينقل أو يرسل أو يحيل وسيلة نقدية أو مبالغ تمثل عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني عارفاً بأن هذه الوسيلة النقدية أو المال يمثل عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني .
‌أ-مع نية المساعدة على تنفيذ نشاط غير قانوني أو الاستفادة من نشاط غير قانوني أو لحماية الذين يديرون النشاط غير القانوني من الملاحقة القضائية .
‌ب-العلم بأن التعامل مفتعل كلاً أو جزءً لغرض : -
1ـالتستر أو إخفاء طبيعة أو مكان أو مصدر أو ملكية أو السيطرة على عائدات النشاط غير القانوني أو .
2ـلتفادي تعامل أو لزوم إخبار آخر ، يعاقب بغرامة لا تزيد على 40 مليون دينار عراقي أو ضعف قيمة المال المستعمل في التعامل ، أيهما أكثر أو السجن لمدة لا تزيد على 4 سنوات أو كلاهما . يذهب اتجاه واسع من الفقه الجزائي إلى اعتبار جريمة غسيل الأموال جريمة اقتصادية على اعتبار أنها تمس السياسة الاقتصادية للدولة (5) ، ويذكر الفقه الجزائي أن هذه الجريمة هي جريمة تبعية ، من ناحية أولى ، لأنها تفترض وقوع جريمة أخرى أصلية سابقة عليها ، وهي المصدر غير المشروع للأموال المراد تبييضها أو غسيلها ، ولكنها رغم ذلك تبقى جريمة مستقلة عن الجريمة الأولى ، وهذا الاستقلال موضوعي يترتب عليه إمكانية ملاحقة الفاعل ومعاقبته ، ولو كان فاعل الجريمة الأصلية غير معاقب ، لتوفر موانع المسؤولية الجزائية في حقه ، ولعل هذه الطبيعة المزدوجة لجريمة غسيل الأموال هي التي تضفي عليها خصوصيتها ، بالمقارنة مع غيرها من الجرائم ، وإضافة إلى أن جريمة تبييض الأموال قد ترتكب داخل دولة معينة واعتبارها في هذا المجال جريمة محلية ، فأن عناصر جريمة تبييض الأموال تقع في كثير من الحالات في عدة دول من خلال انتقال الأموال القذرة عبر الحدود الدولية ، كأن يتم تمويل الأموالغير المشروع من دولة إلى أخرى بواسطة حوالات مصرفية ، ثم انتقال تلك الأموال مرة أخرى إلى دولة ثالثة عبر تجارة معينة ، وهكذا تستمر عملية الانتقال بين الدولوعبر الحدود الدولية تحقيقاً لما يصبو إليه المبيضون بإخفاء أو تمويه مصدر تلك الأموال فتغدو جريمة تبييض الأموال جريمة دولية منظمة .
كذلك فأن جريمة تبييض الأموال هي من الجرائم المرتبطة بالقانون التجاري وبحركة التجارة العالمية ، لاسيما المتعلقة بالعمليات المصرفية المحلية والدولية . وهذا يفرض على كافة المؤسسات المالية ، خاصة المصارف ، التزامات مهمة في مكافحة تبييض الأموال (6) .

أركان جريمة غسيل الأموال: -
تتكون جريمة تبييض الأموال ، كغيرها من الجرائم ، من ركنين ، أحدهما مادي والآخر معنوي ، وسوف نعمد إلى بحثهما في الفقرتين الآتيتين :
الركن المادي :-
من المسلم به أنه لا جريمة بدون ركن مادي ، لأنه المظهر الخارجي لها ، وبه يتحقق الاعتداء على المصلحة المحمية قانوناً ، وعن طريقه الأعمال التنفيذية للجريمة ، من أجل هذا فأن التحقق من وجوده هو الشرط الأساسي للبحث في مدى توافر الجريمة من عدمه ويتطلب الركن المادي شرطاً لازماً في جميع صور الجريمة ، ويتمثل هذا الركن في المادة ( 3 ) و( 4 ) من أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم ( 93 ) لسنة 2004 اللتان تتحدثان عن الجريمة وأركانها ، ومن خلال الجمع بين أحكامهما يمكنتلمس الآتي :- في كل فعل وامتناع عن فعل أو اشتراك أو محاولة يقصد من خلاله :
1ـإخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر ، بأي وسيلة كانت .
2ـتحويل الأموال أو استبدالها مع العلم بأنها أموال غير مشروعة لغرض إخفاء أو تمويه مصدرها أو مساعدة شخص ضالع في ارتكاب الجرم على الإفلات من المسؤولية .
3ـتملك الأموال غير المشروعة أو حيازتها أو استخدامها أو توظيفها لشراء أموال منقولة أو غير منقولة بعمليات مالية مع العلم بأنها أموال غير مشروعة .
4ـإنشاء أو محاولة إنشاء مؤسسة مالية ووفق هذا الأمر الذي يعتبر (المؤسسة المالية) تشير إلى الأشخاص الذين يقبلون أو يحفظون الوديعة ويستثمرون أو ينقلون أو يساعدون في استثمار أو نقل موجودات مالية تعود للآخرين وذلك على أساس مهني ، هؤلاء الأشخاص يشملون على سبيل المثال لا الحصر هؤلاء الذين : -
أ - يتولون تعاملات الاعتماد ( بضمنها اعتماد المستهلك أو الرهون أو الوساطة أو تمويل التعامل التجاري أو الاستئجار المالي ) .
ب - يتاجرون على حسابهم الخاص أو لحساب الآخرين بالحوالات المصرفية أو النقد أو أدوات السوق المالية أو العملة أو المعادن الثمينة المستعملة في إنتاج فقرات أخرى من المواد الخام المستعملة في إنتاج فقرات أخرى أو السلع أو السندات ( لحاملها أو للآخرين ) ، أو مشتقات أي من هذه الفقرات القابلة للاتجار .
ج - يقدمون أو يوزعون حصص في الأموال بصفة موزعي مبلغ الاستثمار المحلي أو الأجنبي ، أو بصفة ممثل لمال الاستثمار الأجنبي .
د - يديرون الموجودات .
هـ - يجرون استثمارات كمستشار استثمار .
و - يحفظون أو يديرون السندات .
ز - يتاجرون بالمعادن الثمينة أو الأحجار أو المجوهرات .
ويكشف الركن المادي في هذا الأمر مدى اتساع النص وشموله لحالات يمكن تصورها ليس فقط في الحاضر بل بالمستقبل أيضاً فضلاً عن ترك الباب مفتوحاً لتصور حالات أخرى عند ذكره الحالات السابقة على سبيل المثال لا الحصر .
الركن المعنوي : هو الحالة النفسية الكامنة وراء ماديات الجريمة فلا يمكن أن يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة ، إذن يتحقق بموقف الإرادة من الفعل المادي ، هذا الموقف يتخذ صورتين : القصد الجرمي ،أو الخطأ غير المقصود .
والأصل في الجرائم أن تكون قصدية والاستثناء أن تكون عن خطأ غير مقصود ، ومن ثم ، إذا سكت النص عن بيان صورة الركن المعنوي في جريمة ، فمعنى ذلك أنها قصدية ، أما في حال تطلب الخطأ فلا بد من إفصاح النص عن ذلك . وقد تصدى أمر سلطة الائتلاف رقم ( 93 ) لسنة 2004 لبيان صورة القصد الجرمي ، تارة بصورة مباشرة حيث نص القسم الأول ـ أحكام عامة في الفقرة ( 9 ) بأن :(( تعامل مشبوه )) يشير إلى تعامل يشمل على سبيل الحصر فتح حساب ، إذا كانت المؤسسة المالية تعلم أو تشتبه أو كان لديها سبب للاشتباه بأن :-
أ - أن التعامل يوظف أموال متحصلة من نشاطات غير قانونية أو غسيل أموال وأن التعامل مفتعل أو مدبر لغرض تفادي أي قانون أو نظام أو لتجنب وجوب الإبلاغ عن التعامل بموجب أي نظام أو قانون ، ويشمل على سبيل الحصر ما منصوص عليه في أحكام هذا الأمر .
ب - التعاملات التي تستخدم أموال لغرض تمويل الجريمة ، وتشمل على سبيل المثال لا الحصر الإرهاب .
ج - التعاملات التي تستخدم أموال وموجودات يكون للتنظيم الإجرامي سلطة التصرف بها .
د - التعاملات المفتعلة لغرض تفادي متطلبات هذا القانون أو أي أنظمة أو أوامر صادرة بموجب سلطة هذا القانون .
هـ - التعاملات التي لا تتضمن عمل ظاهر أو غرض قانوني آخر أو أنها ليست من النوع الذي من المتوقع أن يديره زبون معين عادة والمصرف يعلم بعدم وجود تفسير معقول للتعامل بعد تدقيق الحقائق المتوفرة ، بضمنها الخلفية والغرض المحتمل للتعامل. وكما ورد التأكيد عليه في عبارة المادة الثالثة التي تعرضت إلى التعريف بغسيل الأموال من أمر سلطة الائتلاف رقم ( 93 ) لسنة 2004 : (كل من يدير أو يحاول أن يدير تعامل مالي يوظف عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني عارفاً بأن المال المستخدم لنشاط غير قانوني 000000 الخ ) . إذن نستنتج بأن القصد الجرمي يتوافر عند الآتي : -
ـ العلم بالمصدر غير المشروع .
ـ إرادة سلوك ( غسيل الأموال ) .
ويعتبر بعض الكتاب النقطتين ( العلم والإرادة ) هما قصداً عاماً ، ويضيفان قصداً خاصا هو نية تنصرف إلى غرض معين أو الدافع إلى الفعل باعث معين ، يتمثل في جريمة غسيل الأموال بأن يتحقق عند التثبت من إرادة إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تحويل الأموال أو استبدالها مع العلم بأنها أموال غير مشروعة لغرض إخفاء أو تمويه مصدرها أو مساعدة شخص ضالع في ارتكاب الجرم على الإفلات من المسؤولية ، أو إرادة تملك الأموال غير المشروعة أو حيازتها ، أو استخدامها ، أو توظيفها ، لشراء أموال منقولة أو غير منقولة بعمليات مالية مع العلم بأنها أموال غير مشروعة (7).
عقوبة جريمة غسيل الأموال في العراق .
نصت المادة ( 3 ) من أمر سلطة الائتلاف رقم ( 93 ) لسنة 2004 على عقوبة من يرتكب جريمة غسيل الأموال بذيلها على الآتي : ( يعاقب بغرامة لا تزيد على 40 مليون دينار عراقي أو ضعف قيمة المال المستعمل في التعامل ، أيهما أكثر أو السجن لمدة لا تزيد على 4 سنوات ، أو كلاهما ). كما أعطى للبنك المركزي العراقي سلطات الرقابة والإشراف والتحقق من النشاطات المشبوهة للمؤسسات المالية وإيقاف النشاط المخالف للتعليمات التي يصدرها البنك المركزي في العراق وله التثبت من هذه النشاطات من خلال مكتب الإبلاغ ( مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال ) الذي أنشأ بموجب هذا الأمر والحق بالبنك المركزيالعراقي بموجب المادة ( 12 ) من أمر سلطة الائتلاف رقم ( 93 ) لسنة 2004 ومن خلاله يتم إعلام سلطات الملاحقة القضائية عن كل الإجراءات المتعلقة بالنشاطات الموقوفة وفق هذا القانون ومنها ما يتعلق بغسيل الأموال (8) .