دمشق وبغداد .. سيرة جارَيْن
عبد الحميد توفيق
الجمعة 2023/7/28
منذ وجودهما الأول تتقاسمان تحديات مشتركة، أمنية واقتصادية وسياسية ومائية ليست جديدة ولا طارئة، هي ملفات قديمة قدم جوار البلدين الشقيقين.
سيرة الجارين منذ استقلال كل منهما، العراق عن بريطانيا، وسوريا عن فرنسا، في أربعينيات القرن الماضي وصولا إلى 2003، كانت أشبه بسفينة يقودها رُبّانان متنافسان على قيادتها وعلى وجهتها.
حزب واحد بأيديولوجية وأهداف وشعارات واحدة؛ وصل إلى السلطة في كلا البلدين الشقيقين الجارين في فترة زمنية متقاربة ما بين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن المنصرم.
قبل ذلك وفي الطريق إلى التحرر من الاستعمار؛ توحدت ساحاتهما، وتضافرت خطط وجهود رجالات البلدين، فتتوجت بنيل الاستقلال.
سنوات ما بعد الاستقلال بدت أصداؤها تتردد في سوريا والعراق محكومةً بتوازنات القوى الإقليمية والدولية ومصالحها. ومرَّ البلدان بموجات استقطاب حادة جراء مشاريع دولية وإقليمية سعت إلى استغلال الفراغ الناشئ عن تقهقر القوى الاستعمارية التقليدية في المنطقة.
في بعض المنعطفات كادت الاستقطابات أن تفجر صراعا مسلحا بينهما؛ منها إبان قيام حلف بغداد عام 1954 واعتبار دمشق أنه تحالف عسكري سياسي غربي رأسمالي وستكون هي هدفا له كونها تنتمي إلى المعسكر الاشتراكي الشرقي النقيض، وعقب انقسام حزب البعث الحاكم في البلدين إلى تيارين بعد عقد من الزمن على المنعطف الأول، فأسس الانشقاق داخل "البعث" حينها لقطيعة عامودية في جسد الحزب الواحد ليتحول إلى جناحين متصارعين طيلة نصف قرن ونيف بين الجارين، وصولا إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي على خلفية اتهامات متبادلة بمسؤولية كل طرف عن حوادث أمنية وتفجيرات ضربت تارة بغداد، عاصمة العباسيين، وتارة دمشق، عاصمة الأمويين.
لم يسلم الشقيقان الجاران من العواصف العاتية التي مرت على المنطقة سواء في تعميق تنافرهما وعداواتهما حينا، أو في الانخراط في تحالفات مناهضة لبعضهما البعض أحيانا كثيرة.
أفرغ التنافس، بعد أن تحول إلى صراع في أكثر من ساحة خارجية بينهما، جعبةَ كل طرف من خيارات اللقاء، وعطّل العداءُ المتنامي فرصة ترميم العلاقة بين أبناء الجسد الحزبي الواحد.
تداخلُ الهموم السياسية والأمنية، ووحدةُ الأهداف والشعارات الأيديولوجية، والتمازج الاجتماعي، جميعها لم تشفع لأي بادرة وحسن نية لتقاربٍ، ظل الطرفان يتغنيان لفظيا بفوائده وضروراته ومقوماته التاريخية والحضارية.
حتى عام 2003؛ كان الهاربون من سلطتي البعث على جانبي الحدود يلوذون عند الطرف الآخر، وفي مايو/أيار من العام ذاته طار وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول إلى سوريا حاملا إملاءات إدارة الرئيس جورج بوش الابن، متسلحاً بنشوة المنتصر في العراق؛ فامتصت دمشق زهوَّ ضيفها، وأدركت حينها، بل أيقنت أن ما كان من شقاق مع العراق الجار الشقيق طيلة خمسة عقود وأكثر لم يخرجْها من دائرة الاستهداف، واتضح أن الأمر إنما تم إرجاؤه تبعا لمقتضيات وحسابات أجندة أولئك ليس أكثر.
التغيير الذي حدث في جميع مرافق الحياة الحزبية والسياسية العراقية بعد 2003 تردد صداه بشكل مباشر في أرجاء سوريا على المستويات والصعد كافة، خاصة مع وصول قادة الكتل والأحزاب العراقية الذين كانوا قريبين من سوريا إلى السلطة، فانتقلت العلاقات بين الجارين إلى آفاق أكثر رحابة، واتسمت بثقة متبادلة.
حلت مكان التنافس الحزبي السابق ضرورات المصالح. طويت صفحة الاستقطاب الإقليمي، وفتحت صفحات تعاون ثنائي مرعيّة بمداد إقليمي يصب في مسار التقارب.
فتحت دمشق أبوابها أيضاً للقادمين من العراق من غير الراغبين بالبقاء تحت السلطة الجديدة، وتنامت العلاقات وارتفع التبادل التجاري وتطور التنسيق بينهما على جميع الأصعدة ولم يتوقف حتى خلال الأحداث التي عصفت بسوريا بعد 2011.
مرة أخرى تتجلى حقيقة تاريخية عام 2014 بإعلان قيام تنظيم داعش الإرهابي أو ما أسموها "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ؛ حقيقة أن قَدَر العراق وسوريا في الرخاء وفي الأزمات واحد.
ليست أفعال الإنسان وحدها من ترسم شراكة وحقائق التاريخ والجغرافيا والسياسة بين العراقيين والسوريين، بل إن الطبيعة في هذه البقعة سبقتهم وفرضت منطقها الوحدوي قبل آلاف السنين، فشريان نهر الفرات يغذي كليهما بمسيرته الطويلة في الأراضي السورية وصولا إلى مصبه في شط العرب في العراق، وكذلك نهر دجلة بمجراه القصير شمال سوريا، يشكل منطقة الجزيرة السورية في الشمال الشرقي بعد أن يتوازى مع مجرى الفرات جنوبا قبل أن يدخل الأراضي العراقية.
مكاشفة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني التي طرحها خلال زيارته الأولى لدمشق قبل حوالي أسبوعين، وتركيزه على المشتركات الكثيرة بين سوريا والعراق، وتشخيصه للتحديات التي تتربص بالجانبين، بدت أكثر بلاغة وعمقا من غثاء الأيديولوجيات وزَبَدها.