غسيل الفكر وإعادة تشكيل الاتجاهات
مروة الاسدي
تعرف عملية غسيل الدماغ او الفكر بأنها "عملية تطويع الدماغ او إعادة تشكيل التفكير، وتغيير الاتجاهات النفسية، إذ يتم هذا التغيير بطريقة التفجير، وهو محاولة توجيه الفكر الإنساني او العمل الإنساني ضد رغبة الفرد او ضد أرادته او ضد ما يتفق مع أفكاره ومعتقداته وقيمه"، وان توغل القوى النفسية البيئية في الانفعالات الداخلية للفرد هي من اهم الحقائق المهمة في عملية غسل الدماغ وتطويعه وإعادة تشكيل الفكر، إذ استغل العاملون في الحرب النفسية دراستهم لعلم وظائف الأعضاء والجهاز العصبي والعلاقة بين علم وظائف الأعضاء وسيطرتها على الدماغ.
ظهر اول استخدام لمصطلح (غسيل الدماغ) في كل اللغات عبر مقال نشرته صحيفة ميامي الأميركية في سبتمبر 1950م، كتبه (Edward Hunter) بعنوان (غسيل الدماغ)، ومن ثم اصبح يستخدم بسرعة في الحرب الباردة، إذ تمت صياغة المصطلح اشتقاقاً من كلمة صينية معناها "تنظيف الدماغ" وليس لها أي مدلول سياسي في اللغة الصينية، ويرى "Hunter" بأن للشيوعيين أساليب تقنية خاصة تستخدم لوضع عقل الفرد في وسط حالة من الضبابية والضياع والتيّه، إذ تجعله يخطئ ويعتقد بأن ما هو "صحيح هو غير صحيح"، وما هو "حقيقي هو خطأ"، ومالم يحصل قد "حصل"، ويعتقد بأن التقنية السوفيتية السيكولوجية في مجال التحكم بالعقل تعتمد اعتماداً تاماً على عملية الضغط النفسي المكثف والكشف على نقاط الضعف في الانسان، والتي تمر بمراحل (العزلة، والترويض، ثم الخضوع، والتخفيف).
المكونات الأساسية للمفهوم
يتكون مفهوم غسيل الدماغ من مكونين أساسيين (معرفي، وجداني) ينسحبان على كل من العقل والعاطفة في آن واحد معاً، ورغم أهمية العواطف وقوتها الا ان غسيل الدماغ ممكن ان يثير فقدان السيطرة على الذات، ويتم استخدام المرء والسيطرة عليه من قبل شخص آخر، وبالمحصلة يؤدي الى فقدان المرء لهويته الذاتية، بينما يتجسد المكون المعرفي في الأفكار التي تراود نفوسنا وعقولنا ومدى علاقتها بالسيطرة على العقل والمشكلات المطروحة، ومنها متغيرات القوة التي ترتبط ارتباطاً وثيقاُ بمفهومي السيطرة والتأثير، وفكرة التغيير في المعتقدات والمواقف والسلوك التي تتضمن عمليات التحكم في العقل اساساً، وفكرة السببية الذي تقوم على ان سلوك الشخص الذي يقوم بالمحاولة سيسبب تغييراً في تغيير المستهدف، فضلاً عن فكرتي المسؤولية والذات التي تعد امراً مهما في عمليات غسيل الدماغ.
ولاشك من اننا كلنا محكومون والى حدود ما باللاوعي الذي يختزن هذا الكم الهائل من الذكريات والعواطف والاجتهادات المغمورة العميقة ومرورا بهذه السنين الطفولية وغير المنطقية التي ستؤثر حتماً على الأفعال الواعية لاحقاً، ومن ثم الصراع بين العقل والعاطفة، الى ان نصبح ضحايا واسرى محركات غير واعية الى الحد الذي يجعلنا عرضة للتلاعب العقلي، وان مثل هذه الاضطرابات والتحولات ليست الا مجرد تطورات عملية للعثور على المشغل المنطقي في الحياة الطبيعية، إذ انه وعن طريق اقتراح منظم ودعاية خفية والتنويم المغناطيسي الجماعي العلني، يتم تغيير العقل البشري في تعبيراته اليومية في أي مجتمع ما، إذ يسعى السياسيون المتنافسون الى التأثير علينا عبر بريقهم وبرامجهم وخطبهم الرنانة المثيرة والمحفزة للاستثارات المخزونة تارة والاخطار المستقبلية تارة أخرى، ومن ثم حصول حالات تشويه العقل ويكون هذا الاعتداء على سلامة العقل البشري اكثر مباشرة وعمدية.
ان جميع ضحايا التشويه العقلي المتعمد (اسرى الحرب الكورية، والمتهمين بالخيانة المسجونين لدى الأنظمة الديكتاتورية وضحايا الإرهاب النازي في الحرب العالمية الثانية) هم أناس كانوا يعيشون حياتهم بطرق محددة، إلاّ إنه وبتغير مفاجئ وكبير، تم تفريقهم من منازلهم وعائلاتهم واصدقائهم ومتعلقاتهم اليومية، ومن ثم القائهم في أجواء غير طبيعية وليست مألوفة لديهم فضلاً عن كونها مخيفة، مما جعلهم يعيشون الغربة في محيطهم، واصبحوا اكثر عرضة لأي هجوم محتمل على قيمهم ومواقفهم ومن ثم التلاعب بعقولهم.
ومن الضروري جداً لفهم قضية غسل الدماغ ان نتفهم الأسس النفسية والفسلجية الحديثة والعلوم الاجتماعية ليصبح في مقدورنا استيعاب آلية غسل الدماغ قديما وحديثا معاً، وبدونها يكون فن الاقناع والتحوير الفكري اشبه بالسحر او السر المغلق المستعصي على الفهم، ومن الممكن ان نتلمس ذلك في التضارب الحاد في الكتابات والمؤلفات التي تناولت عمليات أسس غسل الدماغ باستنادهم الى هذه المدرسة النفسانية او تلك او على هذه النظرية الفسلجية او الاجتماعية او تلك لتفسير هذه العمليات انطلاقاً من التزاماتهم ومدارسهم التي ينطلقون منها.
الاساليب
توجد اساليب عديدة لغسيل الدماغ يمكن توضيح اهمها بالاتي:
1- عزل افراد او مجموعات او حتى الشعب او الدولة كلها عن العالم الخارجي بقطع الاتصال بكل انواعه ولمدة طويلة.
2- الضغط النفسي وذلك عبر التهديد بالعنف والتخويف واظهار الامكانيات والوسائل التي تثير الرهبة لدى الناس في ضوء تعرض البعض منهم لأقسى حالات الانتهاك والحرمان من اجل التجاوب والاستسلام.
3- الضغط البدني عبر اشكال مختلفة ابرزها حرمان الافراد او الجماعات او حتى الدول من اساسيات استمرار الحياة وضروراتها فيكون الانسان حينها في وضع ذهني وفكري يجعله في حالة الانهيار النفسي والفكري والجسدي يمنعه من الصمود ويجعله اداة لينة تمكن القائم بالاتصال من تشكيلها كيفما يشاء.
4- التثقيف عبر المحاضرات والندوات والمؤتمرات لترسيخ افكار جديدة وفي تفصيلات العملية التعليمية والتربوية الجديدة تتم المراقبة لمدى استيعاب الجمهور او مدى الوصول لحالات الولاء المراد الحصول عليها وهو عمل اللجان المشرفة على تنفيذ عمليات غسيل الدماغ والتي يمكنها معرفة ما وصل اليه الفرد او الجماعة او المجتمع من نتائج مراد تحقيقها في مدى التعاون مع الادرة واللجنة المشرفة على غسيل الدماغ.
ووفقاً لذلك يتضح ان اهداف غسيل الدماغ هي:
1- الوصول الى ارغام الناس على الاعتراف بانهم ارتكبوا فظائع وجرائم ضد الشعب والحكومة "بالتأكيد هذه الحالة كانت معتمدة او ما زالت في النظم السياسية الاستبدادية والدكتاتورية".
2- اعادة تشكيل معتقدات الناس سياسيا وفكريا بشكل عام حتى يغيروا آرائهم وافكارهم ومعتقداتهم السابقة باتجاه ما يراد له من تغيير جديد مخطط له وبما يتناسب مع نظام الحكم السياسي الحاكم.
مراحل استجابة
أحد أساليب غسل الدماغ هو خلق هوية جديدة للفرد، ولأن الهوية هي وعاء يحتوي على منظومة الاعتقادات والأفكار تكون الهوية في مرحلة المراهقة في بداية التكوين ولم تنجع بعد لذا يسهل خلق هوية فكرية جديدة، ويمر الدماغ بمراحل استجابة أساسية، هي كما يأتي.
1. المرحلة المتساوية: يستجيب الدماغ للمثيرات أو المنبهات القوية والضعيفة بنفس المقدار.
2. المرحلة المتناقضة: يستجيب للمنبهات الضعيفة بقوة أكبر من المنبهات القوية.
3. المرحلة المتناقضة القصوى: يصبح الدماغ قادراً على تغيير أنماط السلوك والاستجابات الاشتراطية من أنماط سلبية إلى إيجابية وبالعكس من سلبية إلى إيجابية.
إذ تظهر على الضحايا اضطرابات نفسية تتلخص في الاعراض الذهانية واستجابات الذعر والقلق واضطرابات اخرى عميقة كالنزعة لإيذاء الذات، واظهار سلوك مصطنع من الصرامة او الانفعالات والعواطف، وتتوقف حدة ظهور هذه الاعراض على عدة عوامل منها: مدة التعرض ومدة تكرار عمليات غسل الدماغ وكذلك على نوعية الاساليب المستخدمة في غسل الدماغ.
إذ ان هدف علماء العلوم السلوكية هو التأثير على سلوك الأفراد والتغيير العقلي والمتنبئ أو التحكم في السلوك الإنساني، ويعد الدماغ بالنسبة لهم عبارة عن "غرفة سوداء" يخفي فيها الافراد انفسهم الحقيقية، ولهذا يجب فتح هذا الصندوق بقوة، ويبرر هذا الاتجاه عمليات الغزو المتكررة لحياة الافراد والدول والمجتمعات المستهدفة لخدمة الصحة العقلية أو الحرب الباردة، وبذلك تعد التكتيكات والتقنيات المستخرجة من علم النفس والطب النفسي اكثر تأثيراً وأشد قربا للأشياء المخفية واقرب علمياً.
ويوصف (فرويد) هذه الغرفة السوداء بالغرفة المظلمة التي تعيش في حياة كل شخص، وتكمن فيها عدد من الدوافع التي تولد مع الانسان والتي لا يقرّ بها الفرد بسبب القيود والضوابط المجتمعية على الفرد بما يعرف بسلطة المجتمع القسرية ومن ثم يضعها الفرد لنفسه ونمو ضميره البديل، والتي تحول دون اشباع الفرد لحاجاته، التي لا يمكن ان تنعدم اطلاقاً وقد تظهر بمناسبة او تصرف او سلوك ما، ويتم استغلال هذه الحاجات والدوافع اللاشعورية من قبل مخططي الحرب النفسية والعمل على تنميتها وتوظيفها في طرق وآليات الحرب النفسية المختلفة، إذ يسعى القائمون على هذه الحرب الى تحديد الهدف والجهة المستهدفة، والاحاطة بها من كل الجهات لغرض تحديد المطلوب ومعرفة الاستجابات المطلوبة والمتوقعة مسبقاً، وبما يخدم اهداف الحرب النفسية.
إذ يتم استخدام أداة غسيل الدماغ مع الأشخاص الذين يتم التعامل معهم لأول مرة من قبل الجهة القائمة بالعمل، واللجوء الى أسلوب الصدمة القوية الأولى معهم عن طريق ابهارهم بإمكانيات وتفوق هذه الدولة او الجهة ومن ثم الاستحواذ على تفكيرهم بصورة كلية، وتوليد حالة من الضعف والعجز لديهم، مما يؤدي الى وجود مشاعر جامحة لديهم للخروج من هذه الصدمة وتجاوزها بصورة تجعلهم قادرين على الاستمرار، وهنا يتم استغلال هذه اللحظة لدى المستهدفين ببرمجتهم وفق المخطط لهم وجعلهم يسيرون ضمنه وبما يحقق اهداف الجهة القائمة بهذا العمل.
لا تقتصر عمليات غسل الدماغ على الفرد بحد ذاته، وانما تتوسع مديات تأثيراتها للجماهير او مجموعات معينة منها، وذلك عن طريق وسائل الاعلام المتعددة، إذ يتم العمل على تغيير أفكار الجمهور وقناعاته واتجاهاته عبر عملية غسل الدماغ المخطط لها إعلاميا، وذلك عبر سياسة الضخ الإعلامي والجرعات اليومية المتكررة في مختلف الاشكال الإعلامية التي تتنوع ما بين الادب والثقافة والفن والرياضة والجمال، وذلك ما يعرف بعملية غسيل الدماغ الجماهيري، والتي يعمل بشكل كتناسق معها عدداً من وسائل الحرب النفسية (غزو ثقافي، ودعاية، واشاعة)، فضلا عن أساليب التفتيت النفسي والتخريب الفكري والعقائدي، والتي تؤدي بالمحصلة الى احداث التغييرات في القيم والاتجاهات لدى الجماهير المستهدفة والافراد على حد سواء.
الحرب النفسية
يعد غسل الدماغ احد اهم وسائل الاتصال التي تمارسها وسائل الاتصال في الحرب النفسية والتي ترتبط بظروف معينة قد تلجأ اليها الدول عند الحاجة تحت ظل ظروف التوتر او الحروب، إذ لا تعد ممارسة شائعة في ظل الأوضاع الطبيعية التي تسري فيها العلاقات الطبيعية بين الدول غالباً. وترى الباحثة من إنه بالإمكان مقاومة او الحد من اثار ومواجهة غسيل الدماغ بزيادة الثقة بالنفس والعقيدة وعدم الاستسلام، والامتناع عن الادلاء بأية معلومات وعدم الاستماع الى الهجوم الكلامي من العدو، واستقاء المعلومات من مصادرها الرسمية الموثوقة وعدم الاطمئنان لأساليب الأعداء الناعمة ومحاولات دخولهم الخفي والسلس لعقولنا بعد السيطرة على عواطفنا.