قوة التفكير الإيجابي.. هوِّن على نفسك
راندي باوش، أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة كارنيجي ميلون، كان في الخامسة والأربعين حين شُخِّصت حالته بسرطان البنكرياس. وبعد الخضوع لعلاجاتٍ غير موفَّقة طوال عام، أخبره الأطباء أن المرض فتَّاك، وأنَّ له أن يتوقَّع من ثلاثة لستة شهور فقط يظل فيها «مُتمتعًا بالعافية».
بعد أقل من شهر من تلقِّي هذا الإنذار المشئوم، ألقى باوش خُطبة مشرقة وملهمة بعنوان «المحاضرة الأخيرة»؛ حيث أفصح عن حكمته المعتبَرة عن الاستمتاع بالحياة لأقصى حدٍّ. كان من نقاطه الرئيسية إدراك فائدة المتعة المحضة. فكما أفاد: «لا تستهينوا أبدًا بفائدة الاستمتاع. فإنني أُحتضَر لكنَّني مستمتع. وسوف أظل أستمتع كلَّ يوم لأنه لا يُوجد سبيلٌ آخر للعيش.»
توضِّح رسالة باوش بدقة كيف يتعايش المتفائلون، حتى وهم يواجهون ظروفًا مشؤومة تمامًا. فإنهم ينتبهون إلى ما يَملكُون السيطرة عليه - الاستمتاع بوقته في حالته - ولا يستغرقون في الحزن والندم.
هذه القدرة على التغاضي عن الأشياء تُساعد الناس على الاحتفاظ برؤيةٍ إيجابية، لا سيما حين لا يملكون أي سيطرة مطلقًا على الموقف؛ ومن ثَم لا يستطيعون الإقدامَ على إصلاحه أو حله. أما أولئك الذين لا يملكون هذه النزعة الفطرية، في المقابل، فإنهم غالبًا ما يتخبَّطون في أفكارٍ سلبية عند مواجهة الأحداث الخطيرة، وإن كانت خارجة عن سيطرتهم.
تحرَّى الباحثون في واحدة من الدراسات ردودَ أفعال الناس تجاه إحدى الكوارث الطبيعية المحلية الكبرى - زلزال لوما بارييتا عام ١٩٨٩ قرب سان فرانسيسكو، الذي قتل ٥٧ شخصًا وسبَّب دمارًا ماديًّا ضخمًا. أفاد بعض الأشخاص بأنهم نزعوا إلى إلهاء أنفسهم عن المشاعر السلبية حيال الكارثة بالمرح مع أصدقائهم أو الذهاب إلى مكانٍ محبَّب لإبعاد الحدث عن أذهانهم. وأفاد آخرون بأنهم مالوا إلى التفكير باستغراق في الكارثة؛ بأن ظلوا يُفكرون مرارًا في لحظة وقوع الزلزال والأشخاص الذين لقُوا حتفَهم وما قد يحدث في الزلزال التالي.
بعد شهرين، تقصَّى الباحثون أحوال الأشخاص في المجموعتين ليتبيَّنوا ما آلت إليه. مثلما توقَّعتم على الأرجح، أدَّى الانغماس في التفكير في هذه الكارثة إلى تدهور أحوال المنغمسين. فقد عانى الأشخاص الذين أمعنوا في تأمل الجوانب السلبية للزلزال أعراضَ الاكتئاب واضطراب كرب ما بعد الصدمة أكثر مما عاناه الذين لم يُمعنوا في تلك الأفكار.
بل ومن الممكن حتى أن يؤدِّي الإمعان باستمرار في الأفكار السلبية مع الوقت إلى اكتئاب سريري. فعلى سبيل المثال، كان المُستغرقون في الحزن بعد وفاة شريك حياتهم بمرضٍ فتاكٍ أكثرَ عرضةً للإصابة بالاكتئاب بعد ستة شهور، حتى حين وُضع في الاعتبار مستوى الدعم الاجتماعي والتشاؤم والنوع الجنسي وسائر مكدِّرات الحياة. فإن مَن ينغمسون في تأمُّل الأحداث المأساوية أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب السريري من الذين لا يفعلون ذلك بأربع مرات (٢٠ في المائة مقابل ٥ في المائة).
من الممكن أيضًا أن يؤدي هذا النوع من التردُّد بين الأفكار السلبية إلى أعراض جسدية. فالنساء المصابات بسرطان الثدي اللواتي يشتكين من أفكار سلبية مُلحَّة لا يظهر عليهن الاكتئاب بمستوياتٍ أعلى فحسب وإنما يُعانين آلامًا أكثرَ وأعراضًا جسدية أشدَّ ومستوًى حياتيًّا أسوأ.
تدل هذه الحقائق على أن مجرد عدم التغافل عن الأشياء السيئة من البواعث الرئيسية على الاكتئاب. بعبارة أخرى، يظل المكتئبون متوقفين عند الأفكار السيئة، وغير قادرين فيما يبدو على إخراج أنفسهم من هذه الدائرة السلبية. وكما تقول عالِمة النفس، يوتا يورمان: «باختصار هم يظلون عالقين في موقفٍ ذهني حيث يعيشون مجددًا ما جرى لهم مرارًا وتكرارًا.» وكما هو متوقَّع، يؤدي اجترار الأشياء السلبية في الحياة إلى انخفاض الحالة المعنوية.
تأثير العوامل الوراثية
ها هو ذا سببٌ من الأسباب التي تجعل الناس يرون أنفسهم والعالم بطرُقٍ بالغة الاختلاف: تمتد أصول شخصيتك في جيناتك ولو جزئيًّا على الأقل؛ لذلك يسهُل على بعض الناس تبنِّي طريقةِ التفكير الإيجابية عن غيرهم. في واقع الأمر، تُفيد الأبحاث بأن جيناتنا قد تحدِّد سعادتنا بنسبة تصل إلى ٥٠ في المائة تقريبًا. فربما تسهم الجينات مثلًا في تفسير السببِ وراء أن بعض الناس أكثر تفاؤلًا، أو انبساطًا، أو حتى أكثر مرونة.
كيف تحدِّد الجينات السعادة على وجه التحديد؟
رغم أن هذا السؤال أزلي ومهم بالبديهة؛ فقد بدأ الباحثون لتوِّهم فهْم الآليات التي تفسِّر هذه الصلة. درس الباحثون في إحدى الدراسات أكثر من ٨٣٠ زوجًا من التوائم البالغين، المتماثلين والمتآخين، لتُبيِّن دورَ كلٍّ من التكوين الجيني والبيئة في التنبؤ برفاه الأشخاص. أكمل المشاركون أولًا اختباراتٍ لعواملَ مُختلفة تبعث على السعادة، منها قبول الذات، والشعور بالاستقلالية، والنُّضج الشخصي، والعلاقات الإيجابية، والسعي وراء أهداف، والشعور بامتلاك زمام حياتهم. وتفيد النتائج التي توصَّلوا إليها بأن العوامل الوراثية تتنبأ بمُقوِّمات السعادة الستة كلها. لكن تقترن العوامل الوراثية المختلفة بمقومات مختلفة. بعبارة أخرى، لا يتنبَّأ جينٌ بعينه بالسعادة، والجينات المتنوعة تتنبأ بمقوماتٍ متنوعة من مقومات السعادة.
تسهم الجينات كذلك في تفسيرِ سببِ أن بعض الناس يَمضون في الحياة بسلاسة، حتى حين تواجههم ظروفٌ صعبة، في حين يتعرقل آخرون في أفكارٍ سلبية. تحرَّت دراسة طولية عن بعض الأشخاص من ميلادهم إلى سنِّ ٢٦ عامًا لتبيِّن كيف تؤدِّي أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي -مثل البطالة وسوء المعاملة والإصابات المسبِّبة لإعاقات- إلى الاكتئاب. في حالة بعض الناس الذين لديهم تركيبٌ جيني معيَّن، مهما تعدَّدت أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي التي عايَشُوها، لم يكونوا أكثرَ عرضة للإصابة بالاكتئاب من أولئك الذين لم يتعرَّضوا مطلقًا لأحداثٍ مثيرة للضغط النفسي. لكن في حالة البعض ممَّن لديهم شكلٌ آخر من جينٍ معيَّن، أصاب الاكتئاب نحو نصف الذين تعرَّضوا لأربعة أو أكثر من أحداث الحياة المثيرة للضغط النفسي. كما أنهم كانوا أكثرَ عرضة لأن تخطر لهم أفكارٌ انتحارية.
بناءً على ذلك سيرى بعض الناس معلومةَ تأثير العوامل الوراثية على السعادة محبِطةً بعض الشيء. فهذا معناه على كل حال أن العثور على السعادة أسهلُ لدى بعض الناس مقارنةً بآخرين. ورغم أن هذا صحيح، فإنني أعتقد أن الارتباط الجيني بالسعادة أشبه بالأيض - أي سرعة حرق أجسادنا للسعرات الحرارية التي نستهلكها. فبعض الناس لديهم أيضٌ أعلى من آخرين، أي إنهم يستطيعون عامةً تناول كلِّ ما يرغبون فيه، لكن دون أن يزداد وزنهم. (لا أحب هؤلاء الناس، لكنهم موجودون.) وأناس آخرون ليس لديهم امتيازات الأيض السريع؛ لذلك فعليهم الانتباه بحرصٍ أكثرَ إلى ما يأكُلونه والمشاركة في تمارينَ منتظِمة حتى يحافظوا على رشاقتهم. لكن يستطيع الناس الحفاظَ على نحافتهم حتى من دون أن يكون أيضهم سريعًا، ما داموا يهتمُّون بإنجاز هذا الهدف عن طريق نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام. إذن صحيح أن بعض الناس تمنحُهم العوامل الوراثية فعلًا ميزةً فيما يتعلَّق بالعثور على السعادة - فربما لا يُضطرُّون إلى بذل مجهود كبير على الإطلاق للعثور على السعادة. لكن بوسع جميع الناس أن يفعلوا أشياء في حياتهم اليومية تجعلهم أكثرَ سعادة، بصرف النظر عن الحمض النووي الخاص بهم.
خلاصة القول
يتعرَّض الكل لتحديات - سواء كانت مُشكلة صحية مزمنة، أو ظروف مالية صعبة، أو خسارة صديق، أو ما شابه. فمن المستحيل تمامًا أن تعيش الحياة مُتجنِّبًا كلَّ تلك التحديات. لكن ما نملك السيطرة عليه هو الطريقة التي نرى بها تلك الأحداث واستجابتنا لها. وكما بيَّن راندي باوش في محاضرته الأخيرة: «إنما عليك الاختيار إما أن تكون شخصية نَمُّور أو حوَّار.» نَمُّور (شخصية كرتونية)، كما تعلمون غالبًا، نشيط ومتحمِّس وإيجابي تجاه كل الأمور. أما حوَّار فهو على النقيض مُتشائم ومغتَم ومُكتئب. لكن مهما كانت نزعتك الفطرية، بإمكانك بالمُمارسة أن تتدرَّب على تغيير أفكارك وتحسين طبيعة حياتك، وربما تُطيل سنوات عمرك. وإنها لخطوةٌ مهمَّة واجب اتخاذها بحق، بالنظر إلى الأدلة العلمية الهائلة على أن التفكير باستمرار في أشياء سلبية واجترارها من الممكن أن يضعف قدرتنا على التفكير بوضوح، بل وقد يُؤدي مع الوقت إلى اكتئابٍ حادٍّ. كلُّ ما تَحتاجه هو بعض التغييرات السهلة نسبيًّا في طريقة تفكيرك.
* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية