مسلم بن عقيل في ذاكرة الخذلان
محمد علي جواد تقي
"ارجع يا عزيزي! يكفيك الناس".
هذه الجملة لسيت تاريخية بالمعنى الاصطلاحي، بقدر ما هي من نتاجات النفس البشرية الميالة أبداً الى الراحة وتجنب المشاكل، فقد صدرت في لحظة حاسمة يمكن وصفها بالتاريخية التي لا تتكرر، عندما جهّز مسلم بن عقيل جيشاً من أهل الكوفة لمحاصرة عبيد الله بن زياد في قصره بعد أيام قلائل من وصوله الكوفة، ومحاولته فرض نفسه بقوة السيف، ومنها؛ اعتقاله هانئ بن عروة، فتمكن ابن عقيل من تعبئة اربعة آلاف مقاتل كلهم رهن إشارته، وبما أن النسيج الاجتماعي للكوفة كان قبلياً، فانه قسم الجُند كلٌ وقبيلته، و وزّع القادة المقربين منه كلٌ على رأس قبيلته مثل؛ كنده وربيعة، و مذحج، و تميم.
تملك الرعب ابن زياد من هذه المباغتة الناجحة من ابن عقيل، وحسب المصادر فان ابن زياد "لم يكن معه داخل القصر سوى ثلاثون رجلاً من الشرطة، وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه". وبدلاً من أن يكون هذا الرعب والكفة الراجحة عسكرياً، حافزاً للكوفيين لشدّ العزيمة والهمّة لاقتحام القصر والانقضاض على ابن زياد وإنهاء الفتنة برمتها، وجهوا آذانهم ثم عقولهم الى شرذمة من الأمويين ممن يتقن تغيير جلده من القسوة والدموية الى اللين والودّ، مثل؛ شمر بن ذي الجوشن، وحجار بن أبجر، ليمُنّوا الناس بالمال والامتيازات، كما ذكروهم بجيش الشام وما يحملوه لهم من مكاره، كما حصل في عهد معاوية، فكانت النتيجة ايجابية لصالح الباطل على حساب الحق، و بسرعة مذهلة، "فطفق الاخ يخذل أخاه، والمرأة تتعلق بزوجها حتى يرجع، والآباء يفصلون ابنائهم عن الجهاد ويحبذون لهم العافية"، وجاء في بعض المصادر؛ كانت المرأة تسحب ابنها او زوجها بالقول: "ارجع يكفيك الناس"، أي إن الناس كثيرون لن يحصل شيء إن رجعت الى البيت!
مجرد كلمات معولة من أفواه رجال السلطة تغير رأي الآلاف ممن مسحوا على يد مسلم بن عقيل، فقد اختلفت المصادر في عدد من بايعه من أهل الكوفة بين 18الف، و25الف، و40الف، ولكنها غثاء كغثاء السيل، فخلال ساعات قلائل بقي في الساحة ثلاثمائة رجل، ولما صلّى العشاء بالمسجد كان معه ثلاثون رجلاً، وانصرف نحو حي كندة و معه ثلاثة فقط، ولم يبرح قليلاً حتى لم ير أحداً معه، فتحول بين ساعات النهار والليل الى قائد وحيد لا ناصر له ولا معين، بل ليس من يدله على الطريق بين أحياء الكوفة وطرقاتها.
البيعة للأقوى
ربما لم يتفاجأ مسلم بن عقيل من موقف أهل الكوفة وانقلاب رأيهم، وهو ربيب بيت الرسالة، وقد رأى بأم عينه كيف انقلب الناس على عمّه الامام الحسن، عليه السلام، وكادوا يسلموه الى معاوية، ومن قبله، خذلان نفس هؤلاء لعمّه أمير المؤمنين، عليه السلام، وكلهم بايعوا ومسحوا على الأيدي، وحسب المصادر التاريخية فانها كانت تنصّ على "الدعوة الى كتاب الله وسنّة رسوله وجهاد الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسمة الفيئ بين المسلمين بالسوية، وردّ المظالم الى أهلها، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة والبغضاء".
ثم إن فكرة البيعة عند المسلمين ليست بالجديدة، ولا نكثها ايضاً؛ فقد بايعوا رسول الله غير مرة على الطاعة التسليم والرضا، ولعلّ أبرزها وأعظمها؛ بيعة الغدير، فلم تغني عن الأمة في إيمانها واستقامتها على النهج السماوي، فما أسرع الخذلان والانقلاب لمجرد ظهور شخص قوي يتمنطق القوة والشرعية و إن كانت زائفة، فقوة السلاح والمال ليس بالهين تجاهلها لان دونها الموت، او في أضعف الاحتمالات؛ فقدان فرصة العمل والامتيازات والحياة الجميلة الهانئة، وهي الحالة القلقة التي طالما أرّقت الناس على مر التاريخ، وما تزال، لذا نجد أئمة الهدى، وحيدين في الساحة، من أمير المؤمنين، وحتى الإمام الحجة المنتظر، إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان، ممن التزموا معيار الحق في مواقفهم بالحياة.
ومن نافلة القول الإشارة هنا الى مفارقة عجيبة في رؤية طائفة واسعة من الناس إزاء الحاكم، فهم ينشدون في قرارة أنفسهم، العدل والمساواة وإحياء معالم الدين وأحكامه، بيد إن ظاهر مواقفهم وميولهم في الواقع الخارجي تدعو الحاكم لممارسة القوة والعنف، بل وحتى الدجل والخداع، كما طالبوا أمير المؤمنين بإغراء زعماء القبائل ومن يخافون خيانته وانتقاله الى معسكر عاوية فقال: "أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور"؟ّ!
ويبدو أن دروس أمير المؤمنين في قيم الحق تحتاج الى وقت طويل لفهمه واستيعابه بشكل يأخذ بقلب صاحبه الى مرافئ الايمان واليقين بأنه على حق مهما كانت النتائج، والسنوات القلائل بين عهده، عليه السلام، وأيام مسلم بن عقيل قصيرة جداً، وهو القائل: "من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"، فالكثير من الناس يضيقون بالعدل ولا يجدونه مناسباً ولا شيئاً عملياً في الحياة، رغم معرفتهم بأنه حق، وقيمة رائعة ومفيدة حتى، فيرضون بالجور طريقة لحياتهم، حتى وإن كانت النتيجة؛ حياة الغاب، ينهش الانسان -الجار والموظف والبائع والضابط و....- أخيه الانسان بالتهمة، والاشاعة، والاقصاء، بل وحتى السكوت إزاء القتل والسرقة وانتهاك الاعراض.
إن مسلم بن عقيل لم يقتله عبيد الله بن زياد، وإنما قتله تخاذل أهل الكوفة في تلك الساعات الحاسمة عند اسوار قصر الإمارة حيث كان ابن زياد مثل الفأر المرتعب الذي تغوّل على حين غرّة، و راح يبث الرعب مقتمصاً شخصية القوي، وهو كأي طاغية في التاريخ يخلو من الشجاعة الحقيقية الموجودة لدى المؤمنين الأخيار الذين لا يهابون شيئاً في الحياة سوى الله –تعالى- ولذا نجد ما يبعث على الأسى والأسف، شعوباً تهب حكامها الاقزام الشجاعة والاعتداد بالزائف بالنفس، بسكوتها وتصاغرها امامه، وخذلانها أهل الحق والفضيلة.