النازية الجديدة في مظهرها الأميركي والصهيوني
ربما اضطرت الإمبريالية الأميركية إلى إخفاء طابعها النازي خلال الحرب الباردة بسبب ميزان القوى وكذبة حقوق الإنسان.1- النازية الأميركية
قبل فترة احتفل الأميركيون بذكرى معركة النورماندي، والذين ساهموا مع الاتحاد السوفياتي في دحر النازية وسقوطها في ألمانيا وأوروبا، لكنهم، بعد فترة قصيرة من هذه المعركة، ارتدوا ملابس النازية وشعاراتها وتجاوزوها في التوحش، عندما قصفوا هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية، وتسببوا بمقتل ربع مليون إنسان على الأقل، وهما مدينتان آهلتان بالسكان، وليستا معسكرين للجيش الياباني الإمبراطوري.
أي أن النازية لم تسقط عملياً سوى بضعة أشهر، قبل أن تستأنف روحها المظلمة في عاصمة أخرى، هي واشنطن، حيث الاستثمار الوحشي للقوة في الحقبة الإمبريالية، وحيث واصلت إجرامها أيضاً عبر دعم الثكنة النازية الصهيونية شرقي المتوسط، وكذلك عبر حروب الإبادة بالسائل البرتقالي ضد شعب فيتنام، وباليورانيوم المنضّب ضد شعب العراق، وملايين القتلى والمعتقلين من جراء الانقلابات العسكرية الفاشية في إندونيسيا وغواتيمالا والسلفادور والتشيلي وغيرها، ثم عبر الثورات الملونة ودعم العصابات التكفيرية في سوريا والعراق والصحراء الكبرى في أفريقيا، والأشكال الجديدة للنازية، على غرار منظمة آزوف (أتباع بانديرا).
ربما اضطرت الإمبريالية الأميركية إلى إخفاء طابعها النازي خلال الحرب الباردة بسبب ميزان القوى وكذبة حقوق الإنسان، التي ادعتها في مواجهة المنظومة الاشتراكية السابقة. وربما اضطرت أيضاً، في العقد الذي أعقب سقوط هذه المنظومة، إلى اختلاق أساليب متعددة، لكنها الآن في حِلّ من كل هذه الحسابات، ولم يعد لديها الحد الأدنى من الرادع الأخلاقي.
تردّ دراسة للدكتور علي إبراهيم ("الخليج"، 19/9/2004) ما يسمى بمجموعة المحافظين الجدد إلى مجموعة مثقفين من الحزب الديموقراطي، تكاملت مع مجموعات محافظة، وانتهت إلى حركة أيديولوجية مؤثّرة تحت عنوان حركة المحافظين الجدد. ويلاحظ غاس هول، السكرتير العام للحزب الشيوعي الأميركي، أن النازية الأميركية تطورت في الولايات المتحدة بصورة تحجب جوهرها المعادي للديموقراطية، والمتزامن مع خطاب فاشي ومزيد من عسكرة الصناعة والهجوم على الطبقة العاملة والتراجع عن المكاسب البسيطة في مجال الحقوق المدنية للمجموعات الوافدة، في مقابل تواطؤ مكشوف مع منظمات فاشية، مثل الكوكلوكس كلان وجمعية جون بيرتش وغيرهما من المجموعات الفاشية المدعومة من المافيات ورأس المال الاحتكاري.
2- الجذور النازية للصهيونية
ارتبطت فكرة البعث الميتافيزيقي بمحاولة إعادة انتاج فكرتي القبلية والحدس اللاعقلي داخل المشروع الصهيوني، وتوظيف هذا الخليط من مفاهيم کنط وفرويد وشيلينغ وبرجسون في ضرب فكرة السيرورة والسياق التاريخيين الحيَّين، وإبدالهما، في ضوء المفاهيم السابقة، بمعادلات فكرية تنسجم مع أيديولوجيا الوصيد الصهيونية، في تعبيراتها ومظاهرها اللاتاريخية المعروفة، "الأسطورة الحية" عند هرتزل"، و"القدرة العليا" عند أحاد هعام، و"روح الله" عند أبراهام إسحق كوك. فإلغاء السياق التاريخي يجعل فكرتي الحدس والقبلية تنسجمان مع منطق التوراة، الذي يرى أن المعرفة المسبّقة هي المعرفة الحقة، وما عداها ضرب من الخطيئة.
العرقية في صورتها النموذجية
لم تعكس العرقية البيولوجية والداروينية الاجتماعية الألمانية نفسها كما عكستها الكتابات اليهودية عما يسمّى "الأمة اليهودية". نقرأ في كتاب هرتزل ("الدولة اليهودية") وفي كتاب ليوبنسكر ("التحرر الذاتي") مزاعم تفيد بأن اليهود ليسوا طائفة دينية أو تجمعاً ثقافياً فحسب، بل هم أيضاً أمة قائمة في ذاتها، ولم تستمر إلّا بفضل خصائصها الاستثنائية.
وعند سوكلوف، "يشكل اليهود وحدة عرقية وتاريخية وثقافية، هي الأساس المشترك لبعث حياة قومية كاملة في وطن آبائهم". واليهود، عند مارتن بوبر، هم الشعب الوحيد في العالم، الذي تكوّن خلال الأزمنة الغابرة كأمة وكسبط ديني، في آن واحد. ويرى ريتشارد كروسمان في "انبعاث أمة"، وفليكوفسكي في "عصور الفوضى"، أن لليهود دورة خاصة في التاريخ، يتعاقب فيها الخروج و"الدولة" والكوارث، كما تتعاقب الخطيئة البشرية والقربان اليهودي، انطلاقاً من أنهم "شعب الله". وجميعها تصورات ومفاهيم ألمانية وعرقية يجري تغذيتها وتعزيزها عبر التوراة، حتى لا يقال إن "شعب الله المختار يبحث عن مسوّغات أخرى خارج كتابه المقدس".
إن فكرة الأمة الألمانية الخالصة المطلقة، كما العهد القديم والتلمود والقبالاة، هي التي زودت الصهيونية الروحية بمسوغاتها النظرية الأساسية بشأن الأمة اليهودية الخالصة والمطلقة أيضاً. عند غوبينو وعند غومبلوفكس، "العرق والدولة"، لا تاریخ خارج تاريخ العرق الأبيض. وعند تشمبرلن، الذي يحاول تجاوز غوبينو، وفق ما يخدم البرجوازية على نحو آخر، يأخذ الإنسان لأول مرة وعي أسطرته ذاته، فنظرية الأسطورة تسمح بتبرير التجربة الداخلية الحميمة، عبر رفع اللاعقلانية والحدس إلى مرتبة فلسفة، فليس ثمة شيء أكثر إقناعاً، بصورة مباشرة، من أن يحوز المرء مفهوم العرق في وعيه ووجدانه الخاصين. ينطلق كتاب "الأمة اليهودية الخالصة" من تأويل هيغل، من أجل تأكيد الدور التاريخي لـ"الأمة اليهودية" المزعومة!
فلمّا كان كل شعب يقوم بدوره، أو تأدية رسالة الحق، ولما كانت هذه الرسائل تنتقل من شعب إلى آخر، فإن "إسرائيل" هي آخر هذه الشعوب، وفق متابعة اليازجي للمزاعم اليهودية في كتابات أحاد هعام، بصورة خاصة.
وذلك التوظيف اليهودي للفكرة المتعالية عند كانط، والتي تُستخدم لدعم القول بإدراك قومي خاص وأصيل، استخدم أيضاً الصيغ والمقولات القبلية الكانطية، والتي لا تتباين إلّا قليلاً عن الحقائق الأزلية المحددة مسبّقاً عند لیبنیتز، أو "الأفكار الغريزية" لدی دیكارت.
النظريات البيولوجية النفسية
على رغم أن الداروينية الألمانية ومدارسها المتعددة جعلت اليهود ذريعتها المباشرة، في الدرجة الأولى، بحيث كانت المسألة اليهودية الذريعة النموذجية لتصدير أزمة البرجوازية العالمية، وحرف الصراع الطبقي الداخلي، وشق القوى العمالية.
إلّا أنها كانت المصدر الرئيس للعرقية اليهودية نفسها، وكتب الفيلسوف اليهودي المعروف، برونر، عن هذا التناغم. يقول:
"إن اليهود تشرّبوا النظريات العنصرية التي يعتنقها مضطهدهم، وأنهم اتخذوا العنصري هاوستون ستيوارت تشمبرلن معلماً لهم، وأعادوا صياغة أفكاره التافهة المشوشة في كتاب صهيوني بحث في موضوع العنصرية". وتساءل برونر: كيف يتحدث الألمان اليهود عن شعب يهودي، ويتخيلون بذلك اسوأ الأفكار وأسخفها. ولم يتوانَ ألفريد روزنبرغ، أحد أهم المنظّرين النازيين، في أثناء الدفاع عن نفسه في محكمة نورمبرغ، عن القول إنه جمع كثيراً من آرائه هو شخصياً من الأدبيات الصهيونية، وأعاد إنتاجها في الفكر النازي، كما ثبت أن هناك حالات، قامت مجموعات إسرائيلية، بموجبها، بالرجوع إلى السجلات النازية، من أجل التأكد من هوية العنصرية الدينية الإثنية لأحد الإسرائيليين.
النظرية السيكولوجية
هي الفكرة التي تستند إلى التوارث؛ إلى "اكتشاف" البروتوبلازما الجنينية، والتي لها "قدرة خفية على أن تولّد من ذاتها أفراداً يتميزون بخصوصية معينة". ويرى باور في هذا مادية قومية، ينصبها فوق الروحانية القومية، وإن كان المقصود فقط إبدال قوة خفية بأخرى مثلها. فهي تذهب إلى أنه عبر الوراثة "تحدد مصائر الأسلاف المتغيرة طابع كل أخلاقهم، فيرتبط هؤلاء بوحدة الطبع، بالأمة".
الديموقراطية الجرمانية: حرية الأنا، مصادرة الآخر
لا يفهم استمرار تدریس سفر يشوع بن نون في المدارس الإسرائيلية خارج استمرار فكرة التناقض أو العداء للآخر الخارجي، كمحدّد رئيس للفلسفة الصهيونية و"مرجعها التوراتي"، الذي يَعُدّ "اليهود الابن الأكبر للإله يهوه، الذي انتقم من الابن الأكبر لفرعون، رداً على انتقام فرعون من إسرائيل، الابن الأكبر ليهوه". هكذا تقدم الداروينية الاجتماعية فلسفة الحياة نفسها في علاقة الأنا الصهيونية والآخر الخارج العربي.
وإذا كانت الديموقراطية الإسرائيلية الداخلية مستوفية شروطها البيضاء، فإنها تأخذ في العلاقة بالآخر شكلاً مغايراً مسوّغاً بوصف الآخر عرقأ ناقصاً. ومن ذلك أن الوصايا العشر عند اليهود تُعَدّ وصايا من أجل اليهود أنفسهم، فعندما يقال لا تقتل ولا تسرق، فالمقصود لا تقتل يهودياً ولا تسرق يهودياً. أمّا الآخرون فلا يُعَدّون بشراً، لأن الطوفان، بحسب التفسير التلمودي، لم يترك إلّا ذرية يهو،ه بل إن نصوص العهد القديم تعطي نظامهم المنشود حق قتل الأبرياء العزّل من حولهم، تماماً كما حدث في لبنان وفلسطين.
وکتاب حاتانيا، الذي تأخذ به إحدى الطوائف الحسيدية العنصرية، وكتاب "مرشد الحيارى" لموسی بن میمون، يَعُدّان الأغيار والمسيحيين، بصورة خاصة، أقرب إلى الحيوانات، وأدنى مرتبة بيولوجية من اليهود. وأفتى الحاخام إسحق غنزبرغ بأنه لا يَعُدّ دم اليهود ودم العرب المسلمين والمسيحيين دماً متساوياً، وبالتالي يمكن للجنود قتل حتى أفضل الأغيار. وبما أن اليهود تتساوى أنفسهم مع العزّة الإلهية فالدنيا وما فيها ملك لهم.