دروس من جزيرة صغيرة ..
كيف تسعى موريشيوس لأن تصبح سنغافورة إفريقيا؟
موريشيوس جزيرة تقع على الساحل الشرقي الجنوبي لإفريقيا تطل على المحيط الهندي يقطنها نحو 1.25 مليون نسمة كان من الممكن أن تستسلم لقدرها وتصبح مجرد وجهة سياحية للأجانب بمياهها الصافية وشواطئها الجذابة ومنتج تقليدي للسكر والنسيج، لكنها أبت إلا أن تسعى لأن تصبح مركزا تجاريا واستثماريا للمستثمرين العالميين الذين يبحثون عن قاعدة في إفريقيا تماما مثل الدور الذي قامت به سنغافورة عندما انفتح اقتصاد الصين.
تسعى موريشيوس وراء رؤية طموحة، فهي من ناحية تتجهز بالموانئ والبنوك الخاصة التي تخدم النخبة الإفريقية والتي تقوم بدور مهم لخطط تنمية الجزيرة مثلها مثل المعاهدات الضريبية ومزارع السكر التي تخدم الاقتصاد القديم لها.
بلد مرتفع الدخل
استطاعت موريشيوس أن تحقق نموا اقتصاديا ملحوظا منذ استقلالها، وتمكنت من تحويل اقتصادها من الاعتماد على الزراعة إلى بلد مرتفع الدخل، لكن تبعات جائحة كوفيد دفعتها مرة أخرى إلى قائمة البلدان متوسطة الدخل.
وزاد الدخل السنوي للفرد إلى 12.500 ألف دولار للفرد وهي معجزة اقتصادية للجزيرة التي نالت استقلالها في عام 1968 وكان اقتصادها يعتمد على إنتاج محصول واحد فقط وهو السكر بمتوسط دخل للفرد يبلغ نحو 200 دولار.
وفي نصف قرن فحسب استطاعت موريشيوس تنويع اقتصادها وتسلقت سلسلة القيمة عبر التحول إلى المنسوجات والتصنيع والسياحة والخدمات المصرفية والمالية.
تبنت الحكومة نظرة انفتاح على الخارج مع التركيز على الصادرات مما قاد إلى تنويع الاقتصاد، كما أن القطاعات الناشئة مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والعقارات والأغذية البحرية تساهم في استدامة النمو الاقتصادي.
في ذروته في عام 2000، شكل التصنيع أكثر من 21% من الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة ومنذ ذلك الحين انخفضت تلك النسبة إلى النصف عند 10.7% وفقا للبنك الدولي وذلك بسبب توسع الصناعات الأخرى وعلى رأسها الخدمات المالية.
يقول "فيناي انشاراز" وهو مستشار اقتصادي وخبير في التصنيع "عندما تنظر إلى بلدان أخرى مثل سنغافورة وماليزيا وتايلاند، فقد بدأوا أيضا بالمنسوجات لكنهم انتقلوا إلى منتجات ذات قيمة مضافة أعلى ومجموعة أكثر تنوعا بما في ذلك الإلكترونيات".
على مدى ثلاثة عقود أيضا سعت موريشيوس لخفض الضرائب في البلاد لكي تصبح وجهة مفضلة للشركات العالمية التي تستثمر في إفريقيا وآسيا وعلى وجه الخصوص الهند. ومع ذلك في السنوات الخمس الماضية، أجرت إصلاحا شاملا لقوانين الضرائب ونظرا لقلقها من ضغوط الجهات التنظيمية العالمية التي تطالب بمزيد من التدقيق في لمراكز الأوفشور، تخلت موريشيوس عن بعض مكونات نظامها الضريبي السابق.
في الواقع فإنها عكفت على عكس صورتها كملاذ ضريبي، ففي أكتوبر دعمت اتفاقية دولية لتطبيق حد أدنى عالمي لمعدل الضريبة الفعلية على الشركات وإجبار الشركات متعددة الجنسيات على الإفصاح عن أرباحها وسداد المزيد من الضرائب في البلدان التي تمارس فيها أنشطتها.
وفي أكتوبر أيضا، قامت مجموعة العمل المالي (فاتف) وهي هيئة مراقبة عالمية معنية بمكافحة غسل الأموال بإزالة اسم موريشيوس من قائمة الدول الخاضعة للمراقبة المتزايدة. وفي يناير، قام الاتحاد الأوروبي بالمثل بإزالة اسم الجزيرة من قائمته للبلدان التي تحتاج إلى مراقبة دقيقة لغسل الأموال وتمويل الإرهاب.
يقول قادة البلد الصغير إنهم يسعون لأن يكون جسرا بين إفريقيا وآسيا. وبالفعل استطاعت موريشيوس أن ترسخ صورتها كمركز للأعمال والاستثمار المفضل عبر الحدود لإفريقيا كونها تتمتع بواحد من أكثر الاقتصاديات ديناميكية في القارة.
ويتجه الاقتصاد ككل نحو الابتكار والتكنولوجيا والقطاعات القائمة على المعرفة، بما في ذلك الأنشطة التجارية الزراعية فائقة التكنولوجيا، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات اللوجيستية، وأنشطة التعهيد. يساهم التصنيع الموجه للتصدير بقدر كبير في الناتج المحلي الإجمالي، كما يسعى لتطوير سلسلة القيمة عبر الاعتماد على تقنيات جديدة في صناعات الملابس والسكر والعديد من الصناعات الأخرى.
مع تغطية أزيد من 90% من البلاد بشبكة إنترنت عالية السرعة، فإن موريشيوس تقول إنها في وضع جيد لتعزيز الابتكار الاقتصادي. لكن الحكومة تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال الاستثمار في مبادرة موريشيوس الرقيمة. إذ يقول وزير تكنولوجيا المعلومات إن بلاده لديها استراتيجيات شاملة للرقمنة تغطي الحكومة والمجتمع والذكاء الصناعي.
الاستفادة من الاتفاقيات
بين عامي 2015 و2019، زاد الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بمعدل 3.8% سنويا، كما أن الاستثمار الأجنبي المباشر إليها ارتفع إلى 472 مليون دولار في 2019 مقارنة مع 372 مليون دولار في العام السابق.
يرى مراقبون أن موقع موريشيوس على المحيط الهندي بين البر الرئيسي لإفريقيا وآسيا يلعب دورا في تميزها، كما أنها استفادت من شبكة واسعة من اتفاقات منع الازدواج الضريبي والتجارة الحرة والتي تشمل عضوية التكتلات الاقتصادية الإقليمية.
سعت قيادة البلاد إلى إجراء إصلاحات تهدف للحفاظ على مكانة البلاد كرائد في تيسير الأعمال عبر التكيف السريع مع التغيرات في البيئة العالمية.
تتمتع أيضا موريشيوس بالاستقرار المالي، إذ يشرف على نظامها المالي بنك مركزي يتبع معايير عالمية المستوى. يتبنى قطاع الخدمات المالية التكنولوجيا المالية بشكل واسع النطاق ويتم اتخاذ تدابير لتشجيع هذا القطاع. إذ يتم تطوير إطار عمل للخدمات المصرفية الرقيمة وإنشاء أنظمة تراخيص لأمناء الأصول الرقمية. يقول "ديباك بالجوبين" وزير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والابتكار "على عكس معظم البلدان، نقدم تراخيص لاختبار منتجات التكنولوجيا المالية الجديدة".
وبينما تتجه موريشيوس نحو تحقيق ذاتها كدولة ذات دخل مرتفع فإنها تتجه صوب تنمية شاملة للتأكد من عدم وجود فقر مطلق وتحقيق مساواة شاملة.
تقدم في المؤشرات العالمية
حافظت موريشيوس باستمرار على مكانتها ضمن البلدان الأفضل أداء في المؤشرات العالمية مثل مؤشر الحوكمة الإفريقي الذي احتلت فيه المركز الأول بين 54 دولة إفريقية، كما احتلت قمة مؤشر تقرير التنمية البشرية الإفريقي بينما احتلت المركز 63 على المستوى العالمي وسجلت أداء أعلى بكثير من المتوسط الإفريقي العام.
تشتهر البلاد بتصدرها تصنيف البنك الدولي باعتبارها أسهل دولة إفريقية يمكن ممارسة الأعمال فيها، وعلى المستوى العالمي نالت في آخر تقرير لتسهيل ممارسة الأعمال الذي أصدره البنك تصنيفا عند رقم 13 بين نحو 190 اقتصادا يقوم البنك بتصنيفها. ويصنفها بنك التنمية الإفريقي على أنها الأكثر قدرة على المنافسة في القارة.
الجدير بالذكر أيضا أن وكالة موديز للتصنيف الائتماني قالت إن موريشيوس احتفظت بتصنيف ائتماني عند درجة جديرة بالاستثمار (Baa3) في ظل انخفاض حاد في النمو الاقتصادي العالمي وارتفاع التضخم.
وقالت إن الجزيرة هي المركز المالي العالمي الوحيد في إفريقيا الذي احتفظ بدرجة تصنيف استثمارية وهي دولة واحدة من دولتين فقط في إفريقيا تحتفظان بذلك التصنيف.
وقالت إن النظرة المستقبلية المستقرة للجزيرة تعكس التوقعات بأن التقييم الائتماني لموريشيوس سيظل يتماشى مع التصنيف السيادي لها وإن المقاييس العامة المالية وتلك الخاصة بالدين ستواصل التحسن.
ووفقا لموديز فإن الحجم الكبير للاحتياطيات الدولية لموريشيوس يحد من مخاطر الضعف الخارجية على الرغم من ارتفاع عجز ميزان المعاملات الجارية كما يوفر جدار حماية في مواجهة ارتفاع أسعار الواردات. في العام الجاري على سبيل المثال يتوقع صندوق النقد الدولي نمو اقتصاد موريشيوس 6.1% من 4% فقط في العام الماضي.
المصادر: أرقام- فايننشال تايمز- موديز - رويترز- فورين بوليسي- البنك الدولي