جنون الارتياب لدى السياسي …

كنت قد كتبت سلسلة بعنوان"العُقد النفسية لدى السياسين" قبل عقد من الزمن أو أكثر ، وكنت أرى في هذه السلسلة أنها تصلح لأن تكون حالة ارشادية أو وقاية من الامراض النفسية التي تصيب الجميع نتيجة عوامل عديدة وقد لاتظهر عوارض هذه الامراض الا أن تجد الارضية المناسبة لها . والسياسيون هم أكثر الناس عرضة للتفاعلات اليومية وقد تتوفر الارضية المناسبة لظهور بعض السلوكيات التي تعتبر غير سوية ومريضة ، ولأجل ذلك كانت السلسلة في حينها.

إنّّ بعض العقد النفسية تكون كامنة بحاجة الى محفزات هذه المحفزات تنتج بالاحتكاك اليومي وما تصاحبها من ضغوط هائلة على المنغمس بالعمل السياسي . اننا نأمل أن يتصدى للعمل السياسي شخصيات سوية ،لأنها تتصدى للقرارات السياسية التي ترتبط بمصير المجتمع ولم أدرج في تلك السلسلة أنذاك (جنون الارتياب ) ربما لأني لم أنتبه في حينها بأنَّ هذا السلوك ناشئ من عقد نفسية أيضا ،أو لم أطلع في حينها على هذا المرض الذي لاتقل خطورته عن بقية الأمراض التي ذكرتها في السلسلة التي ربما أُعيد كتابتها مرة أُخرى لأني أجد لها أهمية في معترك العمل السياسي والسلوك اليومي .

مع جنون الارتياب:-
قد لا يشعر الكثيرون بهذا المرض الخفي لديهم ،ولكن ثمة أعراض تكشف ذلك للمقابل من خلال ما يمارسه الشخص المصاب من سلوك في حياته اليومية . وإنَّ ملاحظة مُمارساتٍ غير منطقية ،وتخوف غير مبررٍ ، وانكماش عندما يقبل الاخرون عليه ، والانغماس في أجواء الشكوك والريبة من هذا وذاك لاتستطيع إلا أن تقول أنه مصاب بجنون الارتياب . وإنَّ ممارسات بعض السياسين لاتدع لك شكاً إلا أنْ تُفسرَ سلوكهم بأنه ناتج عن جنون الارتياب لديهم . وإني أُعدها من المشاكل الخطيرة حينما يتصور المرءُ بأن الجميعَ أعداءه ويتربصون به ،و تكون الثقة بالنفس معدومة ،وقد يتوضح ذلك أكثر عندما نأخذ فكرة بسيطة عن هذا المرض وأنواعه ، ونقارن بين الاعراض وبين سلوك بعض السياسين .

و يُعرف مرض الارتياب من الاخرين بأنه :" اضطراب نفسي عصبي يشعر به المريض دائماً أنه معرض للاضطهاد والتهديد، والشعور بالخطر والملاحقة من الآخرين، ويكون لدى المريض شكوك غير عقلانية، وعدم الثقة بالآخرين.".ويذكر أصحاب الاختصاص أنّ لذلك أسباب كثيرة لكن ما يهمني هو عدم (الثقة بالنفس ) التي تؤدي الى شعور الانسان بالتهديد من الاخرين وملاحقته واستهدافه ،وعدم ثقته بمن حوله ،وعدم ثقته بكل ما يتم طرحه من مبادرات فيظن أنها مؤامرة !!. هذه النظرة السوداوية للحياة وللاخرين تجعل سلوكه مضطربا فهو يفرط في التودد لمن لا يستحق لتوفير حماية له ،ويتطرف في رفض اخرين بشكل غريب !.

و كما ذكرت في السلسلة الماضية إنَّ ضعف الإيمان والثقة بالله هي التي تؤدي الى معظم الأمراض النفسية ،أجد بأنَّ جنون الارتياب نابع من (الهشاشة النفسية ) التي يقابلها (الصلابة النفسية) التي تكون نتيجة الايمان والثقة بالله سبحانه وتعالى . ومن خلال قراءة سيرة الانبياء والرسل والمصلحين على مر التاريخ لم يفتش هؤلاء عن سلوك الاخرين إتجاههم ، ولم يرتابوا فيهم ،بل كانت انطلاقتهم من ذواتهم. أو لنقل أنهم كانوا فاعلين نحو الاخرين ،لا منفعلين ،لايتحركون وفق ردود الافعال من هذا وذاك ،حتى في مواجهة الطغاة فهم يحملون رسالة عليهم تأديتها من خلال ايمانهم بها ،هدفها اصلاح الاخرين لا حماية أنفسهم !.

و مع الاسف تحول العمل السياسي سيما على صعيد الحركة الاسلامية الى ردود أفعال لارضاء النخبة تارة أو لارضاء جماهير فيما تواجهه من تحديات . وأضحى السياسي يبحث عن تأمين وضعه فهو خائف من الكل ،وعادة مايعبر الاقتصاديون عن المال أو رأس المال بأنه "جبان " ، وربما ينطبق هذا الوصف على من يسعى لتأمين وضعه السياسي من خلال شعوره بالملاحقة ،والترصد لكل فعل يقوم به حتى كأنه لا يستطيع المبادرة بفعل ما ، وعندما يبادر الاخرون يدخل في دوامة اخرى من الشك والريبة والاستهداف كما يتصور.

و لعل أولى ميزات السياسي أن يمتلك ثقة بالنفس ناتجة عن صلابة ما يؤمن به ،وينطلق منه ويسير فيه ، قد يعترض بعضهم فيقول إن العمل السياسي يتطلب الحذر والشك وما الى ذلك ولايكون ساذجاً وطيبا ،والسياسية كلها فتن وعليه أن يكون فطناً واعياً والى اخره من تواصيف لتبرير الشك والخوف ،وجوابي باختصار أن الفطنة والدراية والطيبة لا تخل بالعمل السياسي وهي تختلف عما أرمي إليه فيما أتناوله هنا عن جنون الارتياب ،وربما يتحول الحذر والشك البسيط نتيجة تلبد الاجواء الى ادمان وقد نصل الى نفس النتيجة وهي جنون الارتياب !.

هل هناك علاج لهذا المرض !؟.
ما يهمنا هنا هو العلاج السلوكي الذي بحاجة الى مراجعة الذات واكتشاف ما هو مخبوء في التربية والبيئة التي انحدر منها والتي أدت الى مثل هذا التصور لدى السياسي ،فقضية الارتياب والشك والتوجس من الاخرين نابعة من عدم الثقة بالنفس ،وتراكمات نفسية نتيجة خلل تربوي بنيوي قد لا نكتشفه إلا بالتجربة الضاغطة التي نعاني منها ،أو من خلال رصد السلوك اليومي الذي يكشف عن صحةٍ أو مرضٍ نفسي . وعلى السياسي أن يُعزز ثقته بنفسه وبمن حوله (من حُسن اختيار لهم). وأنْ يحترم ذاته ،ولا أعني به التظاهر أمام الاخرين ويخبئ ضعفه ،وإنما أن يحاول تجميع نقاط القوة التي يمتلكها ويعيد ترتيب أولياته ، ويناقش فقرات حياته في مكاشفة مع الذات لكي يخرج من تبعات العقد التي تراكمت لديه .

واول العلاج للامراض النفسية هو الاعتراف بها أو اكتشافها من قبل المصاب نفسه ، لأنه سيتحكم بمشاعره من خلال مناقشة سلوكه بعقل سليم بعيداً عن التوجسات و المخيلات و الوسوسة التي تبعده عن دراسة الموقف ، ولا يثق بالاخرين أو تضع حاجزاً نفسيا بينه وبينهم .

إنَّ هذا المرض لا يقل خطورة عن بقية الامراض التي تناولتها في السلسلة السابقة ،وإنَّ هذا المرض قد يدفع بالانسان او من يمتهن السياسة الى الانفراد بعمله وقراراته ،وعدم الاستماع أو مشاركة الاخرين فيما يرمي إليه ، ونرى تخبطاً وفوضى ،وقد يرصد الاخرون ذلك فيتم النفاذ إليه ، و تتم إحاطة هذا المريض لخدمة مشاريعهم على حساب المصالح الكبرى ،

علي الهماشي