الصمت ضمان السلامة
محمد علي جواد تقي

"الصمت يكسبك الوقار و يكفيك مؤونة الاعتذار"
أمير المؤمنين، عليه السلام

ليس المقصود الاطباق عن الكلام والاحجام عن أي موقف او رأي إزاء ما يجري في المحيط، إنما اتخاذ اجراءات للسيطرة على أهم وأخطر أداة للبيان والتعبير، ثم التأثير على الآخرين. وببساطة يمكن ملاحظة النظرة التقويمية من خلال حديثين للمعصوم، أحدهما للنبي الأكرم، واصفاً اللسان بأنه المَطيّة الى نار جهنم: "وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم"، بينما نقرأ عن أمير المؤمنين بأن "الانسان بأصغريه؛ قلبه ولسانه"، فهو سلاح ذو حدّين، يحتاج قدراً كبيراً من الذكاء والحكمة لاستخدامه في مكانه و زمانه المناسبين.

لماذا الاندفاع لكثرة الكلام؟
أشار علماء النفس الى مشكلة نفسية تدفع اصحابها لخوض غمار الاحاديث الجانبية في المجالس العامة دونما إعداد او تفكير مسبق استجابة لعقد النقص في الشخصية، و إرضاءً للذات بأنها موجودة في الوسط الاجتماعي، و لعل هذا ما يفسر كثرة التحذيرات في احاديث المعصومين من الهذر في الكلام، وأن "من كثر كلامه كثر خطأه"، والخطأ هنا يأخذ مديات مختلفة وخطيرة حسب الظروف، وايضاً؛ حسب حجم الكلام ونوعه، فربما تكون كلمات معدودة تنزلق فجأة فتخلق أزمة تؤدي الى زعزعة استقرار علاقات زوجية، او تلوث سمعة شخص ما، او تنقل صورة مشوهة ومزيفة عن قضية او فكرة معينة للآخرين.

هذه المحاذير ذات المصاديق العملية في واقعنا لا تلقي الاهتمام المطلوب بالإحجام عن كثرة الكلام، و وضع حدود له، بل نجد العكس تماماً في الوقت الحاضر عندما يجري التحفيز له من خلال انتشار تقنية الاتصال السريع والمجان، وتحت شعارات محببة للنفوس مثل؛ تحقيق الذات، والتعبير عن الرأي، والتفكير بصوت عالٍ! والعصف الذهني، وغيرها من الابواب المشرعة الى طريق جميل يستجيب لرغبات النفس البشرية، وفي نفس الوقت يحجب الرؤية عن العواقب المحتملة، فاضافة الى النتائج السيئة على المدى البعيد، فانه يترك آثاره السيئة والمدمرة على الوقت الحاضر، بدءاً من المحيط الأسري، ثم الاصدقاء والزملاء، وحتى المحيط الاجتماعي الكبير.

و أول ما تفرزه هذه الحالة المستفحلة والمتغوّلة؛ انعدام المبرر لاحترام الآخرين، بدءاً بأفراد الأسرة الصغيرة، وحتى عامة افراد المجتمع، لان ثمة حقاً موهوماً بالتحدث وإبداء الرأي مهما كان، فهو تعبير عن شخصية المتحدث، ولا حاجة لاتصافه بالتخصص والتعمّق، فهي مجرد "وجهة نظر".

ومما يؤسف له فقدان الدعوات "التنويرية" بأن "دعه يتعلم" بدلاً من؛ "دعه يتكلم" و بأي شيء، وقتما شاء، بدعوى إطلاق حرية التعبير والرأي، بعيداً عن معايير الخطأ والصواب، او الحق والباطل، وربما يذهب البعض بعيداً للتطاول على هذه المعايير وضربها بدعوى "النسبية في الحقائق والقيم"، فاذا كان هذا الرأي والفكرة عندك خاطئة فهي لدى صاحبها صائبة!

أكثر الناجحين صموتين
لم تصلنا الابتكارات والمكتشفات العلمية والتقنية إلا من تحت الاقبية، ومن أجواء الصمت والهدوء والتفكّر، بل حتى من يخطط لمشروع تجاري، أو مشروع علمي، او لقيادة معركة سياسية او عسكرية، و أي عمل بالحياة، فانه يضمن النجاح بنسبة كبيرة عندما يحيط ما يقوم به بالكتمان، ولا يفكر بصوت عالٍ مطلقاً، إلا من بعض الاستشارات الخاصة والمحدودة بين المقربين.

ومن نافلة القول في هذا السياق؛ أن اجهزة المخابرات في الدول الكبرى كانت توصي بمتابعة ما ينشر في البلاد النامية لمعرفة حجم الامكانات والقدرات، وعدد العلماء، وعدد الطلبة الموهوبين والمبتكرين، وحتى الافكار العملية، ورغم ما يقال عن تجاوز اجهزة المخابرات هذه الوسائل القديمة في الوقت الحاضر الى وسائل تقنية حديثة ومتطورة باستمرار، فلا أشك باستمرار الاستفادة منها اليوم لأن النشر يبقى نشر للمعلومة، وهو كلام يتم تداوله؛ إن كان سابقاً على صفحات المجلات والصحف، وشاشة التلفاز، فانها اليوم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومراسلي بعض القنوات الفضائية، بل وحتى وكلاء الشركات التجارية الكبرى، التي تبحث دائماً عما يفكر به الناس، وما هي اذواقهم ورغباتهم، لتكوين فكرة محددة يتم من خلالها التعامل معهم بالشكل الضامن للمصالح الاقتصادية والسياسية ايضاً.

نعم؛ ثمة صمت في المراكز العلمية والمختبرات ومراكز الابحاث والدراسات من النوع الفاعل والمنتج بما أوصانا به أمير المؤمنين عليه السلام في "غُرر الحكم و دُرر الكِلم": "الصمت بغير تفكّر خرس"، هذا التفكر يكون بين المختصين والمعنيين لمزيد من المشاورة والبلورة لتحويل الافكار الى مشاريع عملية تسهم في التطوير، وايضاً في حل المشاكل الموجودة.

و رب من يسأل عن كيفية التحفيز والتكريم للمبدعين والمتفوقين عباقرة العلم، اذا لُذنا بالصمت؟
التكريم والاحتفاء أمام ابناء الشعب، بل و امام العالم بأسره عند إزاحة الستار عن المنجز من العمل الابتكاري او الانجاز الجديد في أي مجال علمي او تقني، او حتى في مشاريع الزراعة والبناء، بل وحتى المشاريع الصغيرة التي يقدمها الطلبة المتفوقين والماهرين، كلها تمثل رؤوس أموال ضخمة ورصيد مهم لا يجب التفريط به لمجرد الرغبة في صناعة خبر مسموع يتداوله الملايين في العالم.