قارع كبار المفكرين الغربيين لكننا لم نوفِّه حقه..
لماذا يجب أن تقرأ لعبد الوهاب المسيري؟
عبد القادر زوهري
"المسيري مفكّر عربي بسياق عالمي، لا يقلُّ عن دوركايم وفيبر وابن خلدون". وهذا ليس قولنا، وإنما هو اعتراف وشهادة من أحد أكبر المؤرخين الغربيين، وهو المؤرخ الأمريكي كافين رايلي؛ الذي سبق أن ترجم له عبد الوهاب المسيري رفقة زوجته الدكتورة هدى حجازي، أحد أهم أعماله: "الغرب والعالم"، وهو كتاب ضخم في جزئين.
وهذه الترجمة جاءت ضمن اهتمام المسيري الذي كان يشتغل في نقد التمركز الغربي، وجاء ذلك في سياق إعداده لموسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، والتي استغرقت من حياته ربع قرن من البحث والدراسة، ومن خلال هذا بلور مشروعاً فكرياً ضخماً؛ ينقسم إلى قسمين مترابطين، فالأول يفكك اليهود والصهيونية، والثاني يقوم على نقد الحداثة الغربية. وقد خلص المسيري إلى أن الصهيونية هي إحدى إفرازات الحضارة الغربية، وإحدى مظاهر أزمة الحداثة.
مثلها مثل "النازية" و"الفاشية"، وهي مشروع إمبريالي استيطاني إحلالي. وأن هذه الحضارة الغربية تقوم على ركائز معرفية تدور في الإطار المادي الحسّي، وهذا ما حاول المسيري نقضه ونسفه، وتوضيح زيفه وأبعاده المعرفية المدمرة.
هنا نجد أنه صراحة كان يضاهي كبار المفكرين الغربيين؛ حيث استطاع، من خلال موسوعته، أن يعرض لنظرة جديدة موسوعية موضوعية فكرية علمية للظاهرة اليهودية المعاصرة بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، والعلمانية بصورة أعم، مستخدماً ما طوّره أثناء حياته الأكاديمية من إعادة قراءة مفهوم النماذج التفسيرية.
دون إغفال تعريجه على ما بعد الحداثة، بعد ظهور الرغبة في العودة إلى الأخلاق في عصر ما بعد الحداثة، على حد تعبيره، "بعد أن غابت وتلاشت في عصر فقد فيه اليقين، وتزعزعت الأساسات ونزعت عنه القداسة".
واتسم نقاشه لهذه الموضوعات المهمة والآنية بالهدوء والتروِّي والعقلانية؛ ما أثار عليه بعض المتابعين الذين ربما رغبوا في لغة أكثر ثورة وهيجاناً، دون التفريق منهم بالضرورة بين الخطاب العلمي الموضوعي الكاشف عن الحقائق، وبين تلك الأصوات التي تلهب الحماس، وتستدعي رفع الأصوات، دون أن تخرج على الناس بنتيجة.
ويضيف الدكتور علي إبراهيم النملة في معرض حديثه عن المسيري وفكره الموسوعي في كتاب "الموسوعات الفردية.. المسيري أنموذجاً"، أن هذا الخطاب العقلاني الهادئ "متّهم في عقلانيته، لا في هدوئه؛ ذلك أن العقلانية مصطلح له دلالاته التي لم تكن موضع ترحيب من بعض المعنيين، لا سيما إذا انطلقت من مفكر له تاريخ مع اليسار، وكان عبد الوهاب المسيري من اليسار حتى تبنى موقفاً عقلانياً مستنيراً أطلق عليه الخطاب الإسلامي الجديد".
وفي سياق حديثنا عن المسيري المفكر العالمي؛ فقد كان كتابه "نهاية التاريخ.. مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني"، قد نشر قبل 15 عاماً، من نشر المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما لكتاب يحمل العنوان نفسه (نهاية التاريخ).
لكن الفرق بين النظرتين أن رؤية فوكوياما ترى أن نهاية التاريخ تعني انتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي أولاً، ثمّ (توقف) التاريخ على الحضارة الغربية الأمريكية، بينما يرى المسيري أن مفهوم (نهاية التاريخ) مفهوم فاشي اخترعته الدول الغربية للسيطرة على العالم. إلاّ أن كتابه هذا لم يلق رواجاً في الفكر العربي بمثل ما لقيه كتاب فوكوياما. لماذا؟
يجيب عبد الوهاب المسيري نفسه عن هذا الإشكال بقوله: "التصنيف في عالمنا العربي يتم من خلال المضمون، وهذا ما سميته الفكر المضموني، أي الذي يرصد ويصنف من الخارج دون أن يصل إلى الوحدة الداخلية، وقد صُنف كتابي أنه كتاب عن (الصهيونية)، أي كتاب يتناول عالم السياسة. أما كتابه هو فعن (التاريخ)، فهو تاريخ. أما الفكر الكامن وراء المضامين والنماذج والمفاهيم الكامنة وراء الفكر، فهو أمر تم تجاهله". ويضيف المسيري على أنه "ثمة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد، ولذا لم يتصور أحد أن كتابي ربما يكون قد طرح أفكار فوكوياما قبله بعدّة سنوات، وربما بطريقة مغايرة تماماً، ولكنه يتناول الإشكالية نفسها".
وإضافة إلى أنه كان مفكراً وباحثاً متعمقاً ومجتهداً، فلقد كان المسيري، رحمه الله، دائماً منحازاً للقضايا العادلة، فقد كان سياسياً بارزاً يقف في الصفوف الأولى مدافعاً عن قضايا وطنه وأمّته؛ حيث شغل قبل وفاته منصب المنسق العام لحركة كفاية، التي تأسست في نهاية سنة 2004م للمطالبة بإصلاح ديمقراطي في مصر، وقد تعرض للاعتقال أكثر من مرّة.
ويقول عبد الإله بلقزيز في كتابه "نهاية الداعية" أن عبارة المسيري: "المثقف لابد أن يكون في الشارع"، التي وردت في إحدى المقابلات الصحفية التي أجريت معه، "وكونه في الشارع هو المطلب الملح، على جميع المثقفين أن يعكسوا نبض الشارع، وفي هذا تفصيل شخصه". فهذا كله مسار متفرّد يجب أن ننصف به الرجل.
وفي الأخير لا يسعنا القول، إلاّ أن المسيري كان مفكراً فذّاً، وإنساناً رقيقاً، ومناضلاً صلباً، دافع عن الإنسان فكراً وممارسةً، إلا أنه لم يوفّ حقه عربياً، فهو علَم من الأعلام الذين ظلمهم التاريخ، فما يجعلنا نعيد الاعتبار له هو خوض النقاش والقراءة في أعماله ومؤلفاته وإرثه العلمي والمعرفي، وإكمال مشروعه وما كان يصبو إليه.