صفحة 2 من 13 الأولىالأولى 1 23412 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 123
الموضوع:

قطوف أدبية - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 179 المشاهدات : 1939 الردود: 122
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #11
    صديق فعال
    تاريخ التسجيل: July-2017
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 527 المواضيع: 238
    التقييم: 147
    آخر نشاط: 23/August/2023
    مقالات المدونة: 1

    "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"..
    عن معارك الجنود النفسية في أهوال الحرب

    ندى ضياء

    – هل كان يمكن ألا تقوم الحرب لو أن الإمبراطور قال لا؟ ولو أن حوالي عشرين أو ثلاثين رجلاً من حول العالم غير الإمبراطور قد قالوا لا، فهل كانت الحرب ستقوم بالرغم من كل هذا؟
    يبدو الموضوع غريباً لو تفكّر المرء فيه قليلاً، ألسنا ندافع عن وطننا والأعداء في الجانب الآخر يدافعون عن وطنهم، فمن منا إذن على حق، لماذا نظن أن الحق في جانبنا؟
    كيف يمكن لجبل في ألمانيا مثلاً أن يهجم على جبل في فرنسا، إنها كلها اعتداءات للناس على بعضهم البعض، فلا علاقة لي بذلك، فلم أشعر باعتداء أحدهم عليّ، ولا حاجة لي للوجود في تلك الحرب اللعينة؟

    سأل الكاتب الإنجليزي إيريك ماريا ريمارك ذلك السؤال على لسان بطل رواية كل شيء هادئ على الجبهة الغربية، في اتهام مباشر وصريح أن زعماء ورؤساء الدول هم المسؤول الأول والأخير عن اندلاع الحروب، التي لا يوجد من خلفها سوى الخراب والدمار والقتل.

    تدور أحداث الرواية خلال الحرب العالمية الأولى، في بدايات القرن التاسع عشر، ولكن لم يتعرض الكاتب لأي من أسباب اندلاع الحرب، ولكنه بدلاً من ذلك دخل إلى نفوس الجنود في صفوف الجيش عند الجبهة الغربية، لينقل لنا حالة الشباب المساكين الذين تم الزج بهم في صراع دموي يحصد أرواحهم دون اكتراث، بداية من معسكر التدريب ثم الوصول للجبهة أمام الأعداء، وأخيراً إلى المستشفى، أو متناثرةً أشلاؤهم على خط الجبهة.

    تلاميذ في صف دراسي واحد لم يتعد عمر أي منهم الثمانية عشر عاماً، ولكل منهم أحلامه الخاصة ورؤيته المستقبلية وأمل في غد مشرق، تم استدعاؤهم للانضمام للجيش من أجل حرب لا يعلمون عنها شيئاً. فبدلاً من تعليمهم وتثقيفهم من أجل إعداد جيل قوي يحمل وطنه لوضع أفضل تم رميهم لمواجهة جيش آخر مكون من تلاميذ في نفس عمرهم، يحملون أحلاماً وآمالاً متشابهة في مستقبل جميل.

    وبدلاً من التعلم بالمدرسة تعلموا في معسكرات التدريب والإعداد أن كون أزرار زيهم لامعة لهو أهم من أربعة مجلدات فلسفة، وأن الأهمية الحقيقية ليست في الاهتمام بالعقل، بل في طلاء الحذاء، وأن الذكاء بحد ذاته غير مهم، ولكن النظام هو المهم، وأخيراً أن الحرية لا يعول عليها وإنما التدريب العسكري هو الأساس.

    قد يشعر الجندي بالدهشة في البداية من تغيير كل تلك المعتقدات والأفكار، ولكنه في النهاية يصاب بالتبلد والاستسلام للواقع المرير؛ أنه مجرد رقم وسط عدد كبير، كل ما يشغل تفكيره هو كيفية البقاء على قيد الحياة في ظل تلك الظروف العصيبة.
    لم يتعلموا كيفية التعامل مع خوفهم أو يتشجعوا للاعتراف بعدم رغبتهم في الانضمام لصفوف الجيش؛ خوفا من أن يتم وصمهم بالجبن، لم يتعلموا كيفية مواجهة كل تلك المخاطر نفسياً، والتعامل بذكاء مع غريزة البقاء على الحياة، فكل ما كان يشغل بالهم أنه من الواجب عليهم أن يُطَمئِنوا أمهاتهم وآباءهم دوماً أن كل شيء هادئ على الضفة، وأنهم لا يواجهون أية مخاطر، حيث يتوفر لهم المأكل والمشرب والمكان المناسب للنوم، كما أن النصر قادم لا محالة.

    دمار! ألغام! قنابل يدوية! دبابات! مدافع الماكينات!

    كلها مجرد كلمات تمر أمام عيني القارئ بخفة، ولكن في نظر الجنود تنطوي على أشنع المصاعب وأكثرها إثارة للفزع. عندما تتغطى الوجوه بالأوحال والطين وتتشرد الأفكار كالجياد المذعورة في كل صوب، وتخور قواهم وتتحطم أعصابهم وتلتهب أعينهم وتدمى ركبهم وتصعق العقول لا يمكن لأحد أن يفكر بهدوء، بل يتحول من كائن حالم وديع إلى ماكينة للقتل، لا يفكر سوى في الدفاع المستميت عن نفسه وحماية روحه من الوفاة وحماية جسده من التمزق.

    وبالرغم من كل محاولات البقاء على الحياة كانت دائماً تنتهي حيواتهم كجثث منقولة إلى المستشفى العام، حيث لا يوجد به سرير أو دواء كافٍ لكل ذلك العدد المهول من الجرحى، الذين سرعان ما يصبحون موتى، ثم أضاف الكاتب إريك ريمارك أن العادة هي التفسير المقنع لكيفية نسيان الجنود لتلك الحوادث التي تدور من حولهم بتلك السرعة، من أجل استمرار عمليات الهجوم والدفاع، ولا تلبث ذكريات ساعات الجبهة العصيبة أن تهبط فتستتر في زوايا عقولهم وقد تناسوها مؤقتاً؛ فلا بد للمرء من أن يطرح تلك الذكريات جانباً من ذاكرته، حتى ولو بشكل مؤقت، لأن الجندي إن لم يتمكن من فعل هذا وترك كل تلك الذكريات تنتصر، لَجُنّ، فمن يصيبه الحظ ويخرج سليماً من الحرب إنما خرج سليماً بجسده فقط، ولكن أهوال الحرب مختبئة في أعماق ذاكرته، لا ينساها فيعود جندي الحرب لبيته وقريته وعمله، ولكنه لا يعود أبداً كما كان قبل الزج به في تلك الحروب اللعينة.

    "ربما كانت أهوال حرب مختبئة في أعماق ذاكرتنا حينما نبتعد عن الجبهة لكننا لا ننساها! الحقيقة التي أنا واثق بها هي أن تلكم الذكريات المروعة التي اختبأت في طيات نفوسنا وظننا أنها قد خمدت، لن تلبث أن تشعل نيرانها ثانية وتستيقظ في أذهاننا بمجرد أن تنتهي الحرب، وهنا ينبعث الماضي من أكفانه، وتمر الأيام التي تتجمع في صورة أسابيع فشهور ليصنعوا أعواماً هي ما قضيناها في الحرب، ولن يلبث رفاقنا الموتى أن ينهضوا من مراقدهم، فيسيرون معنا جنباً إلى جنب، فتصفو أذهاننا وتتحدد أهدافنا، فنزحف وإلى جانبنا رفاقنا الأموات، وخلفنا أعوام الحرب المروعة، لكن ضد من سيكون هذا الزحف؟ إلى من سيكون موجهاً؟".

  2. #12
    صديق فعال

    رواية "عالم جديد شجاع"..
    كيف تستنسخ الأنظمة شعوباً منزوعة التفكير؟

    ندى ضياء

    لأن الجميع ينتمي للجميع فلا داعي لأن تطارد أو أن تبذل أي جهد للحصول على ما تريد أو تتمنى، فكل ما تريده يمكنك الحصول عليه، وهنا في ذلك العالم الجديد في معمل تفريخ الأجنة يتم إنتاج وتهيئة الجميع وفقاً لمهامهم القادمة في المستقبل.
    تلك هي الحبكة الرئيسية لرواية عالم جديد شجاع للكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي؛ عالم لا يتعلق فيه الإنسان بأشياء أو بأشخاص لأن التعلق يعني عدم مقدرته على الاستغناء وذلك تحديداً هو الهدف الرئيسي لذلك العالم؛ ألّا تتمنى وألّا تتعلق فتعيش في عالم تسوده المتع والعدالة ويعمه السلام.

    في ذلك العالم يأتي الإنسان نتيجة تخصيب بويضة مجمدة مسبقاً في المعامل وبعد إجراء العديد من التعديلات يتم تقسيم تلك البويضة لكي تنتج ما يقارب من الألف توأم، فحتماً عندما تجد نفسك واحداً من ألف متشابهين لن تفكر أبداً في أن تخرج عن القطيع.

    أنت مجرد بويضة تم تخصيبها، ثم تم تكييفك عبر التعديلات الجينية منذ كنت جنيناً طبقاً لمهامك المستقبلية ومستواك الاجتماعي. حيث تم تقسيم المجتمع إلى خمس فئات؛ فإذا قُرر لك أن تكون من طبقة الألفا فأنت محظوظ حيث سيتم تطعيمك ضد جميع الأمراض المستقبلية، وسيتم ضخ المزيد من الأوكسجين لك حتى تكون من الأذكياء وسيتم تشغيل الموسيقى الخافتة اليومية وتوفير العطر الدائم الفواح، ستكون سعيد الحظ لأن تلك المقويات التي تم حقنها لك جعلتك أكثر طولاً وأكثر جمالاً من أي فئة اخرى فكل المميزات تم إعطاؤها لك أنت فقط كي تولد وأنت من صفوة المجتمع.

    أما إذا كنت سيئ الحظ ستكون من طبقة الأبسيلون وهي طبقة الخدم فقد ينقطع عنك الأوكسجين وأنت جنين لفترة زمنية قادرة على أن تصيبك بالغباء لتكون إنساناً لا يفكر أبداً ولا ينفذ أي شيء في حياته سوى الأوامر الصادرة له، ولن تتمتع أبداً بأي قدر من الجمال، ولكن ذلك المجتمع يعتمد على التوازن، لذلك فلا بد أن تكون هناك الفئة المتوسطة التي تعيش لتعمل في مهام عادية لتسيير المجتمع بصورة عادلة وصحية.

    تعتبر رواية "عالم جديد وشجاع" من أهم روايات الأدب الدستوبي (أدب المدينة الفاسدة أو ما يسمى عالم الواقع المرير، وهو عالم فاسد وخيالي وغير مرغوب فيه)، كُتبت عام 1931 لتتنبأ بما ستحمله الأعوام القادمة من حكومات متعنتة ومسيطرة وارتفاع الاستهلاك بطرق جنونية، والمناداة بالعلاقات الغريبة وغير الطبيعية تحت مسمى حرية العلاقات.

    الجميع ينتمي للجميع فلا يمكنك أن تكون بمفردك ولا يمكنك أن تغير من طريقة تفكيرك ولا يمكنك أن تعترض، فإذا اشتدت عليك المتاعب أو واجهت أي صعوبات فها هي بضعة غرامات من السوما (دواء مخدر يتم توزيعه يومياً عليهم) لتأخذك في رحلات تفصلك عن عالمك الواقعي وتذهب بك إلى العالم الخيالي الذي تحب أن تعيش به؛ إن السوما أفضل من أي متاعب أو أي آلام قد تقابلها.

    وتصل الرواية لقمة الحبكة عندما يأتي المتحكم الرئيسي للمجتمع ويعرض لماذا يعتبر التاريخ والأدب والدين مواضيع ممنوع الكلام عنها أو الإشارة إليها في ذلك العالم، حيث إن الناس في تغيير مستمر ولا حاجة لديهم في أن يتم توجيههم، معترضاً على أنه في العالم القديم عندما يتقدم الإنسان بالعمر ويحس بالضعف والفتور والقلق يبدأ التمسك بأفكار ومعتقدات قديمة ويصبح قادراً على التأمل والتفكر دون إشكاليات أو ملهيات ويصبح في حاجة إلى الاعتماد على شيء ثابت لا يمكن أن يخدعه، عندئذ تشعر روحه بوجود الرب من وراء الغمام وذلك غير مرغوب فيه في ذلك العالم، حيث إنهم لا يتركون الفرد أبداً وحيداً، لقد تم غرس كره الوحدة فيهم منذ كانوا صغاراً وتم تنظيم حياتهم على نحو يجعل من المستحيل أن يجدوا وقتاً للتفكير؛ فالكل دائماً مجتمع ولا وقت للتفكير أو الرغبة في البحث عن معتقدات أو إيمانيات؛ هم في عالم مثالي مليء بالتفوق والطب والسعادة العلمية.

    إن الرغبة في عيش ذلك العالم المثالي لا تتطلب من الفرد شيئاً سوى التخلي عن حريته، فالمرء لا يتخذ لنفسه أية قرارات، ولكنه يسير في خط مرسوم له منذ كان جنيناً داخل أنبوبة التفريخ؛ فعلى هؤلاء الذين يرغبون في قراءة الأدب القديم أو البحث في تاريخ الأمم السابقة أو التمسك بإيمانياتهم أو معتقداتهم أن يتمتعوا بما يسمى العيش بحرية، في أن ينفوا خارج ذلك العالم الجديد فعليك أن تختار ما بين الحرية والرخاء.

  3. #13
    صديق فعال

    10 روايات عالمية وعربية لعشاق أدب الرعب
    محمد جمال فرانك

    لا شك أن تصنيف الرعب قد حصل على قبلة الحياة مؤخراً في عالمنا العربي، ومعه استطاع تصنيف الفانتازيا والخيال العلمي الصعود للقمة، لتبدأو جميعاً فصلاً جديداً في رحلة الأدب العربي. وذلك بالطبع يرجع للتجربة الاستثنائية التي يقدمها الرعب بالنسبة للقارئ، فهو التصنيف الوحيد الذي يمكنه دفعك للخوف والقلق وتجربة مشاعر ربما لم تكن لتقترب منها يوماً في حياتك، وربما تستمر هذه المشاعر معك بعد الانتهاء من القراءة، وذلك يعتمد على جودة الرواية وقوة التجربة التي ستجعلك تعيشها.

    لذا ولكي تحصل على بعض التجارب الاستثنائية في الرعب، أقترح لك قائمة ببعض أفضل روايات الرعب التي ستقدم لك تجارب عظيمة، وتذكر أن الترتيب لا يعني الأفضلية، وبالتأكيد لا يسعنا ذكر كل الأعمال العظيمة في المقالة:

    1- بؤس
    أرى أن بؤس هي واحدة من أفضل تجارب الرعب النفسي التي قدمها ستيفن كينغ للجمهور عام 1987، حيث تحكي لنا عن الكاتب الأكثر شهرة بول شيلدون والذي علق في عاصفة ثلجية وسط منطقة نائية في كولورادو قبل أن تصطدم سيارته بكومة ثلج ويفقد الوعي، ثم يستيقظ بول ليجد نفسه في السرير، فاقداً قدميه، وتجلس معه آني ويلكس، ممرضة سابقة ومجنونة وقاتلة، وأكثر معجبيه هوساً به، ليعيش بول بعدها حلقة لا نهائية من الجحيم المستمر.

    2- رواية فضائي
    بعد صدور سلسلة أفلام الرعب Alien قرر رائد الخيال العلمي ومؤلفها آلان دين فوستر تحويل الأفلام إلى مجموعة من روايات الرعب المخيفة، حيث يسرد لنا في الرواية الأولى، والتي ترجمها كاتب الرعب العظيم محمد عصمت إلى "فضائي"، قصة طاقم السفينة الفضائية نوسترومو، والذين يخرجون من حالة النوم العميق بالتبريد للتحقيق في بث فضائي غامض على كوكب قريب، وهناك يكتشفون مركبة فضائية مهجورة وغرفة مليئة بالبيض الملقى على مرمى البصر، وحين يعودون لمركبتهم الأم، سيجلبون معهم مخلوقاً سيعلمهم المعنى الحقيقي للخوف، وسيدفعهم للبحث عن سبيل للنجاة إلى أن يفقدوا حياتهم بأكثر الطرق بشاعة وألماً.

    3- رواية سارق الأبد
    في عام 1992 صدرت رواية سارق الأبد لكاتب الرعب العظيم كليف باركر، قد تبدو لك الرواية من الوهلة الأولى رواية للأطفال، لكنها ليست كذلك؛ إذ تتحدث الرواية عن ولد صغير يشعر بالملل من حياته اليومية، وناقم على أبويه، ويتعطش لبعض التغيير، وفي إحدى الليالي يظهر مخلوق غريب للولد في غرفته، وهناك يقنعه أن يأخذه معه إلى عالمه حيث كل يوم في ذلك العالم يضم فصول السنة الأربعة، وهناك سيحصل الصبي على كل ما يتمنى ولن يمل أبداً، ولكن ذلك العالم يتحكم فيه شيء مرعب في الخفاء.

    4- رواية طارد الأرواح
    صدرت رواية طارد الأرواح عام 1971، للمؤلف الراحل ويليام بيتر بلاتي، وتحكي لنا القصة عن حالة المس الشيطاني التي مرت بها الطفلة ريجال ماكنيل ذات الأحد عشر ربيعاً فقط، وكيف حاول قسيسان تحريرها من يد الشيطان في تجربة مؤلمة وبشعة تم تحويلها للعديد من الأفلام، وسلسلة من أفلام الرعب الكلاسيكية تحت اسم The Exorcist. وتمتاز تجربة طارد الأرواح، بأنها قائمة على قصة حقيقية، بل إحدى أشهر قصص المس الشيطاني رعباً وهي قصة مس لولد صغير يقال إن اسمه هورولاند دو تم إيداعه مصحة الأمراض النفسية في مدينة كوتاج خلال عام 1949 مما جعل القصة إحدى أشهر قصص الرعب في العالم.

    5- طفل روزماري
    صدرت عام 1967 من تأليف إيرا ليفن، باعت أكثر من أربعة ملايين نسخة؛ فأصبحت أكثر روايات الرعب مبيعاً خلال الستينات، وتسرد لنا قصة روزماري وزوجها الممثل المغمور بعدما سكنا منزلاً يحمل تاريخاً مرعباً من حوادث القتل والانتحار وممارسة السحر الأسود. ورغم معارضة الزوج، تقرر روزماري إنجاب طفل كي يحصلوا على عائلة تناسب حياتهما الجديدة، ولكن كل شيء يتغير بعد ظهور جيران غامضين، واكتشاف روزماري لمؤامرة تحاك حولها وحول جنينها الذي لم يولد بعد.

    6- رواية يوتوبيا
    صدرت يوتوبيا عام 2008 لأحد أشهر الكتاب العرب أحمد خالد توفيق، ورغم تصنيفها كرواية اجتماعية وفانتازيا، فإنها لا يمكن أن تخرج عن تصنيف أدب الرعب والديستوبيا، حيث تقدم لنا الرواية رؤية مأساوية مرعبة عن العالم المصري المستقبلي، فهناك انقسم الشعب لطبقتين فقط، يعيش أغنياؤه في حصون مشيدة وبين جدرانها نعيم كامل مقيم، أما الفقراء فيعيشون في جحيم لا نهائي، وغابة يحكم فيها القوي المتوحش فقط، وتأخذنا الرواية في رحلة مع شاب غني يحاول صيد إنسان فقير؛ فيقرر اقتحام الجحيم خلف جدران جنته.

    7- رواية الجانب المظلم
    صدرت رواية الجانب المظلم عام 2018 لكاتب الرعب محمد عصمت، وكانت واحدة من أهم أعمال تلك السنة والتي جعلتني أمر بتجربة لا أستطيع نسيانها حتى الآن، تحكي قصة الرواية عن درويش تم قتله وسط حارة شعبية وشهد عملية القتل ثلاثة أفراد، فتاة يتيمة، ومحاسب عقيم، وممرض فاسد، وجميعهم يقررون الصمت، لكن جانبهم المظلم وماضيهم يطاردهم بين صفحات الرواية، ويرغمهم على المرور بأسوأ كوابيسهم وأكثرها رعباً. تمتاز الرواية بأنها قادرة على إظهار الجانب الأسوأ من البشر، جانب مظلم كنا نظنه لا وجود له، ولكنه هناك، ينتظر فقط أن يظهر لأعيننا.

    8- رواية صانع الظلام
    تعد رواية صانع الظلام أهم أعمال الكاتب تامر إبراهيم، وتحكي لنا قصة يوسف الصحفي الذي يتم تكليفه بإجراء حوار مع أستاذ جامعي قام بقتل طفله قبل إعدامه، ولكن بدلاً من أن يحصل يوسف على حواره المراد، يجد نفسه سقط في شبكة من الأحداث الغريبة المرعبة، وسط لعبة يقودها شيء مخيف، وطفل لا يموت. تعتبر رواية صانع الظلام إحدى رواياتي المفضلة، وكذلك إحدى التجارب التي لا يمكن نسيانها.

    9- رواية الجثة الخامسة
    أحد أهم أعمال الكاتب حسين السيد وأكثرها أيقونية، على الأقل بالنسبة لي، تأخذك رواية الجثة الخامسة في رحلة داخل المشرحة، حيث يجد زوارها المعتادون جثة خامسة لا يعلمون عنها شيئاً، جثة تحمل داخلها شراً مقيماً وقديماً، ولغزاً لا يمكن حله. تعتبر رواية الجثة الخامسة أول أعمال حسين السيد كذلك، وبالتأكيد من أفضل تجاربه التي لا يمكن نسيانها.

    10- رواية صندوق الدمى
    صندوق الدمى حيث تأخذنا الكاتبة شيرين هنائي في رحلة داخل تفاصيل عائلة مصرية، وتجول بنا داخل مذكرات الزوجة التي تروي لنا تفاصيل حياتها اليومية، ولكن تبدأ الأحداث تتصاعد شيئاً فشيئاً، مسببة شعوراً بالغرائبية والخوف، قبل أن نجد أن الشيطان يحرك كل شيء كالدمى. هذه الأعمال التي ذكرناها، كانت وما زالت تجارب شخصية في القراءة لا تنسى، قصص تأسرك في محيط من الخوف والرعب، وستضمن لك لياليَ من القلق؛ لأن هذا ما يدور حوله الرعب، يدور فقط حول التجربة، وكيف يمنحك شعوراً لا يمكن نسيانه.

  4. #14
    صديق فعال

    عبدالوهاب المسيري.. فيلسوف القضية الفلسطينية الذي تنبأ بزوال إسرائيل

    من خلال ما وقع في المعركة الأخيرة "سيف القدس"، من مقاومة الفلسطينيين الذين يرفضون الانصياع ويقاومون بلا هوادة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإحلالي، نلاحظ أن فلسطينيي الداخل غير منكسرين، على عكسنا نحن عرب الخارج. فالفاعل، أي الإنسان العربي هناك قوي متماسك. فهذا ما عبر عنه أيضاً المفكر المصري عبدالوهاب المسيري، من خلال ما سماه النموذج الإدراكي الانهزامي الذي هيمن على الإنسان العربي وحجب عنه رؤية مؤشرات النصر وركز ناظريه على مؤشرات الهزيمة.

    فسؤال الهزيمة: "لماذا هُزم العرب؟" هو الذي ظل يطارد ذهن المسيري بعد هزيمة 67، فكان الجواب هو أننا لم نعرف عدونا، لأنه لكي نفهم العدو الصهيوني بضعفه وقوته يجب أن نفهمه علمياً وليس بالأوهام والخرافات، وهذا ما دفع عبدالوهاب المسيري لدراسة الصهيونية واليهود واليهودية بنموذج تفسيري جديد بطريقة الباحث العلمي، حيث ربط الصهيونية بالحضارة الغربية وبجذورها الحضارية التي نشأت فيها، وهو بهذا فرّق وميّز بين اليهودية والصهيونية.

    كان عبدالوهاب المسيري يدافع عن القضية الفلسطينية بسلاح المعرفة والفكر، ونادى بضرورة بلورة خطاب معرفي للقضية الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي بعيداً عن الخرافات والخطابات التقليدية، فقد استطاع من خلال الموسوعة أن يعرض لنظرة جديدة موسوعية موضوعية فكرية علمية للظاهرة اليهودية المعاصرة بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، والعلمانية بصورة أعم، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من إعادة قراءة مفهوم النماذج التفسيرية.
    وبهذا يمكن القول إن "المسيري" أسهم إسهاماً كبيراً في تحفيز العقل العربي على البحث وعلى فهم الخصم الصهيوني، وأيضاً قدم فلسفة فريدة في فهم الإنسان، تبلغ قيمتها اليوم من خلال قدرتها على المساهمة في تحليل أزمة إنساننا العربي المسلم خاصة والإنسان المعاصر عامة. فقد شكّل المفكر الراحل حالة متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية.

    حياته وفكره
    كان مولد عبدالوهاب المسيري في دمنهور عاصمة البحيرة بجمهورية مصر العربية سنة 1938م، من أسرة برجوازية غنية ومثقفة، فهو كان يشير إلى أن أسرته كانت تنتمي إلى ما يمكن تسميته "البرجوازية الريفية"، وهي برجوازية في دخلها وفي فرديتها، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة، أي تعيش في الريف، فلن تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البرجوازية الحضارية وفيما كان يسمى الأرستقراطية الإقطاعية .
    بعد إنهاء تعليمه الابتدائي والثانوي التحق عام 1955م بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية؛ حيث نال فيها البكالوريوس، وفي عام 1964 حصل على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، كما أنهى درجة الدكتوراه في جامعة ريتجرز بمدينة نيوبروزويك بولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة سنة 1969.

    بدأ الدكتور المسيري حياته المهنية معيداً في جامعة الإسكندرية فور تخرجه، وإثر عودته من الولايات المتحدة قام بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية من أهمها: جامعة الملك سعود في المملكة العربية السعودية وجامعة الكويت. كما شغل عدة وظائف ومسؤوليات، أهمها عمله كخبير بالشؤون الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام سنة 1971م. وصدرت له أول طبعة لموسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية سنة 1975.
    أغنى المسيري المكتبة العربية بعشرات المؤلفات باللغتين العربية والإنجليزية، تنوعت بين الموسوعات والدراسات والمقالات، ولعل أبرزها "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" التي صدرت سنة 1999م في ثمانية أجزاء، ويظهر أنه استل عن الموسوعة الأم عدداً من الإصدارات، وطفق ينشرها مستقلة عن الموسوعة؛ لتعميم الفائدة، ومن كتبه البارزة أيضاً: "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، و"الفردوس الأرضي"، و"الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان". بالإضافة إلى عدد من الإسهامات الأدبية والفكرية والنقدية وقصص الأطفال.

    لقد امتاز "المسيري" برؤيته التحليلية والتفكيكية والتركيبية الاستثنائية، لمجموعة من الظواهر والمشكلات التي واجهت عصرنا كالحداثة وما بعد الحداثة والصهيونية والعلمانية، فقد كانت كل دراساته تنطلق من إيمانه بأن ثمة فارقاً جوهرياً كيفياً بين عالم الإنسان المركب المحفوف بالأسرار، وعالم الطبيعة (والأشياء والمادة)، وأن الحيّز الإنساني مختلف عن الحيّز الطبيعي المادي، مستقل عنه، وأن الإنسان فيه من الخصائص ما يجعله قادراً على تجاوز الطبيعة وتجاوز قوانينها الحتمية، وصولاً إلى رحابة الإنسانية وتركيبتها، وهذه هي الرحلة التي بدأها "المسيري" من بساطة المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان.

    وتعد رحلته الفكرية سيرة حياة إنسان مسلم تعرض للقلق الفكري الذي صاحب حالة التراجع الحضاري لأمته في أوج وعنفوان وزخرف النموذج الغربي الغازي، ولقد أنتج هذا القلق مجموعة من الأسئلة والإجابات الفلسفية والعملية المتعلقة بالنهوض والتقدم، شكلت معالم مشروعه الفكري كمثقف عربي مسلم يبحث عن طريق جديد لأمته يحقق مشروعها الحضاري المستقل، وهو ما عبرت عنه همومه الفكرية التي تركزت في: الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية، وفزعه الصادق من الاستهلاكية والعلمانية الشاملة وآثارها المدمرة على مصير الإنسان، وانشغاله الفكري بالتحيزات المعرفية الغربية.

    في نقده وتفكيكه للصهيونية
    لقد بدأ "المسيري" دراسته لليهود والصهيونية، وللصراع العربي الإسرائيلي، من خلال رؤية معرفية وخريطة إدراكية تنبع من معجمنا الحضاري، وذلك استناداً إلى البحث العلمي والتدقيق والتحقيق، وليس الارتكان والاطمئنان إلى البديهيات، والاستقرار إلى المعارف الموروثة، والخرافات والفكر المؤامراتي، فالمسيري كان دائما يقول: "إن نظرية المؤامرة ليست بنظرية، وإنما هي إشاعة، ومحاولة للهروب من التفكير والهروب من الاجتهاد، فحينما يقول الإنسان إن اليهود مسؤولون عن كل شيء فهو يعفي نفسه من مسؤولية البحث والتفكير، ومسؤولية تزويد القارئ العربي بخريطة تفصيلية لما يحدث".
    هذا وبخلاف معظم الباحثين الذين قاموا بتصنيف الصهيونية باعتبارها حركة يهودية، وإلى اعتبار أن جذور الرؤية الصهيونية للعالم يهودية، وذلك استناداً إلى الادعاءات والتصريحات الصهيونية والغربية. انطلق عبدالوهاب المسيري في دراسته للظاهرة الصهيونية من داخل بعدها التاريخي والاجتماعي والثقافي، باعتبارها ظاهرة غربية استعمارية استيطانية إحلالية ذات جذور غربية ثم أضيفت لها ديباجات يهودية، وأن الصهيونية ليست مجرد انحراف عن الحضارة الغربية الحديثة، كما يحلو للبعض القول، وإنما هي إفراز عضوي لهذه الحضارة ولما سماه المسيري بالحداثة الداروينية، أي الحداثة التي ترمي إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية توظف لصالح الأقوى.

    ولتوضيح ذلك بأن إسرائيل ليست ظاهرة يهودية وإنما ظاهرة استعمارية استيطانية، قام "المسيري" بعقد مقارنة بين الجيبين الاستيطانيين في فلسطين وجنوب إفريقيا. فكلا الجيبان الاستيطانيان قد خُلّقا كجزء من محاولة الغرب الصناعي حل مشاكله، خاصة مشكل الفائض البشري، عن طريق تصديرها. فالمسألة اليهودية- في تصورهم- كان يمكن حلها عن طريق تصدير اليهود للشرق مثلما يصدِّرون سلعهم البائرة، وعن طريق سرقة الأراضي العربية من الفلسطينيين مثلما تسرق المواد الخام من بقية العرب. والوضع نفسه قد تم في جنوب إفريقيا، حيث تم تصدير قطاعات من الطبقة العاملة الهولندية ثم البريطانية ثم الغربية المتعطلة، وسُرقت الأراضي من الأفارقة لتوطينهم فيها. وكان هذا هو الإطار الذي تم من خلاله حل مسألة أوروبا اليهودية: تصديرها إلى العالم العربي، وتأسيس دولة وظيفية، استيطانية إحلالية، بحيث تقوم الجماعة الوظيفية اليهودية التي فقدت وظيفتها بوظيفة جديدة، القتال دفاعاً عن المصالح الغربية بدلاً من التجارة والربا.

    ولقد كان المسيري في دراسته للصراع العربي الإسرائيلي، يرصد كلاً من الفاعل العربي والصهيوني في تفاعلهما ومواجهتهما اليومية ودوافعهما الداخلية، هذا ما جعله من خلال مقال كتبه سنة 1984، يتنبأ بوقوع الانتفاضة قبل اندلاعها بنحو أربعة أعوام. وحين اندلعت الانتفاضة الأولى، أعطاها المسيري اهتماماً خاصاً، الأمر الذي دفعه للتوقف عن العمل في الموسوعة لينجز كتابه "الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية: دراسة في الإدراك والكرامة" الذي بلور فيه "نموذج الانتفاضة" كنموذج تحليلي، حيث ميّزها عن الثورة، فهو كان يبدي إعجاباً كبيراً بالشعب الفلسطيني ومقدرته على المقاومة رغم الحصار، وأنه شعب مقاوم لا يكلّ ولا يملّ في الدفاع عن أرضه.

    كيف تنبأ عبدالوهاب المسيري بزوال إسرائيل؟
    لقد كان المفكر عبدالوهاب المسيري يؤمن إيماناً جوانياً بتحرير فلسطين وأن تحريرها قريب، وذلك راجع إلى رؤيته الاستشرافية لمستقبل القضية الفلسطينية، والواقع الإسرائيلي، من خلال دراسته للمجتمع الإسرائيلي، ووعيه المعرفي بطبيعة المشروع الصهيوني وإدراكه العلمي لآليات اشتغاله ونفسيته وسوسيولوجيا استيطانه.

    وبهذا تنبأ عبدالوهاب المسيري بانهيار إسرائيل من الداخل، وذلك راجع للأزمة التي تمر منها الدولة الصهيونية والتي تحددها مجموعة من العوامل نذكر منها:
    • ما قاله الدكتور المسيري: "على عكس ما يتصور الكثيرون فإن هاجس نهاية الدولة اليهودية يعشش في الوجدان الإسرائيلي، وهم محقون في ذلك، إذ يجب ألا ننسى أن كل الجيوب الاستيطانية المماثلة (الممالك الصليبية- الجيب الاستيطاني الفرنسي في الجزائر- دولة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا) قد لاقت نفس المصير، أي الاختفاء".
    • الإسرائيليون يشعرون أن الصهيونية لم تعُد هي الخريطة التي تهديهم سواء السبيل، ففلسطين التي كان يشار إليها أنها "أرض بلا شعب" ظهر أنها فيها شعب، وأنه يقاوم المحتلين بلا هوادة، ولا يكلّ ولا يتعب من المقاومة.

    – ويتضح أيضاً الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين في ظهور موضوع "الخوف من الإنجاب" في القصص الإسرائيلية. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما وسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني، وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركز الإسرائيليين في المدن- علمنة المجتمع الإسرائيلي- التوجه نحو اللذة… إلخ).
    لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ، باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة، مهددة دائماً بما يسمونه المشكلة الديموغرافية، أي تزايد عدد العرب وتراجع عدد المستوطنين اليهود.

    – هذا بالإضافة إلى انصراف الشباب من المستوطنين الصهاينة عن الخدمة العسكرية، بل الفرار منها. فقد أشار إسحاق مردخاي (أحد وزراء الدفاع السابقين) إلى أنه قد طرأ انخفاض حاد على مستوى الاندفاع والرغبة القتالية في صفوف الشباب الإسرائيلي، فهذا يدل على أن المستوطنين يبحثون عن الراحة، واللذة، والمغريات. فقد كان "المسيري" يرى الإسرائيليين على أنهم صهاينة استيطانيون قالباً، أما قلباً فهم مرتزقة تماماً، باحثون عن الحراك الاجتماعي بأي ثمن وفي أي مكان، حتى لو كان أرض الميعاد، ومن ثم جاؤوا إلى صهيون لا بسبب قداستها وإنما بسبب أسعارها والفرص المتاحة لهم.

    فهذه مجرد أمثلة من بين الأسباب الكثيرة التي تشكل مظاهر أزمة الدولة الصهيونية، فالمسيري كان دائماً ينظر إلى الدولة الصهيونية "المستقلة" على أنها لا يمكن أن توفر لنفسها البقاء والاستمرار، ولا أن توفر لمواطنيها أي مستوى معيشي مرتفع إلاّ من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي المستمر، ما دامت تقوم بدور المدافع عن المصالح الأمريكية، أي أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تُعرّف في ضوء الوظيفة الموكلة لها.
    وختاماً نقول إن عبدالوهاب المسيري رحل تاركاً مشروعاً فكرياً يستند إلى الرؤية الحضارية المستقلة، ويتجاوز التحيزات المعرفية الغربية؛ إذ تتحدد معالم المشروع الفكري لعبدالوهاب المسيري في شق فلسفي فكري يتمثل في النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، ثم الشق السياسي الذي يطرح فيه علاقة الدين بالدولة من خلال تصوره حول مفهوم العلمانية (علمانية جزئية/ علمانية شاملة)، في محاولة لتقديم رؤية نقدية جديدة حاولت تجاوز المتداول في الساحة الفكرية العربية. وأخيراً الشق الاستراتيجي المتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي، ومستقبل الوجود الإسرائيلي.لا شك أن اشتغال المسيري على محور واحد من هذه المحاور يجعلنا نؤكد راهنية فكره والحاجة الماسة إليه، فكيف إذا كان المشروع مستوعباً المحاور الثلاثة.

    هذا ما يجعلنا نقول إنّ العودة إلى ما راكمه المسيري من أعمال بغية النبش فيها ضرورة ملحة، تحتمها الظروف التي يعيشها الوطن العربي، والإشكالات الكبرى التي تواجه أمتنا العربية الإسلامية.
    كيف لنا ألاّ ننحاز لهذا المفكر الباقعة، وهو الذي خدم القضية الفلسطينية بفكر موسوعي أكثر مما خدمها بعض من يدّعون وصلاً بها، في وقت كثر فيه المدّعون وصلاً بالقضية، في وضع يندى له الجبين.
    فها نحن نقولها الآن وفي ذكرى رحيله، لقد ترجل الفارس عن جواده، فمن يملك زمام الجواد ويكمل مسيرة المسيري؟

  5. #15
    صديق فعال

    الشاعر والكاتب والرسام صلاح جاهين

    الرجل الذي أسعد الجميع واكتأب منفرداً.. صلاح جاهين الذي قتله أمله

    حين يكتب البعض عن سيرة الراحلين يكتبون أرقاماً وإحصائيات لإنجازاته، الميداليات والأوسمة، ولكن سيرة الإنسان -في نظري- ليست أرقاماً، الحكايات لا يمكن أن نعبر عنها في معادلات جبرية من مجهول أو اثنين، الإنسان رواية تشمل مجموعة قصصية، وخيوطاً مترابطة تربط الأمس بالغد، وتربط الصديق والعدو، وتتداخل وتتشابك لتكوّن هذا الجسد، فيذهب الجسد وتبقى الخيوط والخطوط والحكايات.

    صلاح جاهين، أو أبو صلاح كما كان يُحب أن يقال له، تقف عاجزاً أمام شخص مثله، السهل الممتنع، يتحدث ببساطة وتفهمه، ولكن عندما تتحدث عنه لا تستطيع إلا أن تقول: "صلاح جاهين صانع البهجة.."، الأب الروحي للعديد من صانعي الفن الحقيقي، وصديق عزيز للكثيرين بالأمس واليوم، فيلسوف عظيم بفكر بسيط، ورسام كاريكاتير سياسي من الدرجة الأولى، ومع ذلك لن يتركك تشعر بالتعقيدات السياسية، فقط تجد نفسك تذهب كل أسبوع تشتري جريدة الأهرام لتنظر "ماذا قدم أبو صلاح هذه المرة وكيف سيجعلنا نضحك؟".

    كانت مسيرة الضباط الأحرار مصدر إلهامه، وكان العدوان الثلاثي على مصر تشجيعاً عظيماً للأمل في روحه، راح وكتب العديد من الأغاني، فسمعنا عبدالحليم حافظ يغني له "صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة"، وأيضاً "يا أهلا بالمعارك يا بخت مين يشارك بنارها نستبارك ونرجع منصورين"، و" بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان".

    ولكن كانت النكسة سبباً في مقتل صلاح جاهين، حين غنت أم كلثوم أغنيته "راجعين بقوة السلاح"، وراح جاهين في حالة اكتئاب حتى إنه ترك مصر وذهب للعلاج في مصحة نفسية في موسكو، كان يحمل نفسه ذنب الهزيمة وبيع الأوهام للناس، حتى قابلته ابنته الروحية سعاد حسني، وكعادة روحها المرحة المحبة للحياة شدت أزره، وبعد عودتها بفترة عاد صلاح جاهين لبلده يعيد للناس البهجة.

    توجه جاهين هذه المرة للأعمال المرحة، وكتابة الاغاني البسيطة، فكتب لأول مرة سيناريو سينمائياً وكان لفيلم "خلي بالك من زوزو"، الذي حقق نجاحاً كبيراً نظراً لحالة اليأس التي أصابت الشعب وكانوا في احتياج تام لكل ما ينسيهم الألم، وكتب كذلك "أميرة حبي أنا"، ولكن لم يكن هذا محط إعجاب من المفكرين والأدباء والمثقفين من جيل صلاح جاهين، بل إن جميع النقاد أنكروا عليه بعد أن يكتب أغاني الثورة -23 يوليو- أن يكتب "خلي بالك من زوزو"، ولكنه كان نفسه يحتاج لأن ينسى السياسة كذلك، الحقيقة أن جاهين لم يكن قد شفي بالكامل من اكتئابه، بل إنه كان يهرب من ألمه النفسي بالأعمال التي وصفها النقاد بـ"سينما العوالم"، ولكن ظهر حزنه الحقيقي في الرباعيات فقال:
    أنا شاب لكن عمري ألف عام
    وحيد لكن بين ضلوعي زحام
    خايف ولكن خوفي مني أنا
    أخرس ولكن قلبي مليان كلام

    كان جاهين من محبي جمال عبدالناصر، لا أجزم أنه كان يسارياً، ولكن حاله من حال جميع الشعب حينها، يرون الرئيس الراحل رمز العزة والنصر -حتى إن هُزموا- كان جمال محبوباً عنده وقال فيه جاهين:
    حتى رسول الله مات وأمر الله لا بد يكون
    بس الفراق صعب واحنا شعب قلبه حنون
    وحشتنا نظرة عيونك للبلد يا جمال
    والحزم والعزم فيها وحبها المكنون
    وحشتنا عبسة جبينك وأنت بتفكر
    ونبرتك وانت بتعلمنا وتفسر
    وبسمة الود لما تواجه الملايين
    وقبضة اليد لما تدق ع المنبر

    كان رحيل جمال عبدالناصر بمثابة نكسة أخرى في نفوس العديد من الناس، عبد الحليم حافظ، أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، إسماعيل ياسين، بليغ حمدي، وصاحبنا صلاح جاهين، فكانت جنازة مهيبة، وكان حداداً في كل بيت مصري حينها.

    قدم جاهين العديد من الرموز المؤثرة في السينما والإذاعة المصرية مثل الفنان الراحل أحمد زكي، الذي رشحه أكثر من مرة لأكثر من مخرج في أكثر من دور، فلم يحالف زكي الحظ وكاد ينتحر بتهشيم كوب زجاجي في رأسه، حينما رفض موزع فيلم الكرنك تواجده في البطولة أمام سعاد حسني، واصفاً إياه: "ده أسمر وشكله وحش أوي". حينها تلقى الدعم من سعاد والمخرج علي بدرخان وحتى نور الشريف، وكان بطبيعة الحال اجتماع الدعم هذا في مكتب صديق الجميع أبو صلاح، حينها قال له جاهين: "يا تقف على رجلك وتنسى كل الهبل ده، يا تنسى التمثيل خالص"، ولم يستطع جاهين أن يترك السياسة كثيراً، فعاد ومثل الحكاية الشعبية مُحملاً شخصياتها رموزاً سياسية ليتبنّى جاهين "أحمد زكي" في فيلمه "شفيقة ومتولي" وتكون أول بطولة مطلقة لزكي أمام سعاد حسني، وبعد ذلك رأينا الفنان القدير في أفلام عديدة ليصبح فتى الشاشة الأول.

    دعم جاهين الكثيرين بكلماته وأعماله مثل عبدالحليم حافظ، فكان يجتمع "أبو صلاح " و"حليم" والملحن كمال الطويل ويقدمون روائع للإذاعة المصرية، وكذلك الفنانة سعاد حسني، فكان مستشارها الفني والأب الروحي لها، كانت تلجأ له -كما ذكرت في مذكراتها- في جميع أمور حياتها.

    فتتشكل أيقونة أبو صلاح في حياة الجميع من حوله، ويكون الملجأ لمن تتخبطهم الحياة ويتخبطونها، فيرحل بعد أزمة صحية في 21 أبريل/نيسان عام 1968م، ويتأثر الجميع بوفاته، حتى إن الراحلة سعاد حسني اعتزلت التمثيل بعدَه 4 سنوات، وعانت من اكتئاب رحيل أبيها الروحي وصديقها العزيز حتى وفاتها الغامضة.

    خيوط وخطوط كثيرة شكلت جاهين وشكلها جاهين، لم يكن مجرد صديق أو شاعر، كان بسيطاً بقدر عمق تفكيره ومعانيه، كان سهلاً بقدر صعوبة اكتئابه واضطرابه الوجداني، كان شاعراً وطنياً من الدرجة الأولى، يسخر من الدنيا بقلمه ويسخر من الاكتئاب، المهم أن يرى شيئاً واحداً في عيون الناس، وخاصة شعبه؛ الأمل، الأمل الذي قتل صلاح جاهين.

  6. #16
    صديق فعال


    أطفال يقتلهم المجتمع كل يوم..
    قراءة في رواية "شجرتي شجرة البرتقال الرائعة"

    ندى ضياء

    إن الفرح شمس تشعّ داخل القلب، وإن الشمس تشعّ على كل شيء بالسعادة. وإذا صحّ هذا فإنّ شمسي الداخلية كانت تُجمّل كل شيء..".
    جاءت تلك العبارة الرائعة والمنيرة على لسان "زيزا"، بطل رواية شجرتي شجرة البرتقال الرائعة، للكاتب البرازيلي خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس.

    ولد زيزا لأسرة فقيرة للغاية، يتلقى الضرب من كل من يراه أو يقابله، وذلك لأن زيزا طفل مسكون بالشياطين كما يقول عنه أهله وكل سكان الحارة. فياللويل إذا مر زيزا من أي مكان، حتماً سوف يترك كارثة خلفه.
    لكنه في الحقيقة لم يكن أبداً طفلاً مسكوناً، بل كان طفلاً ذكياً نابغاً يمتلك مهارات تفوق سنه، ويمتلك خيالاً ليس له حدود، ولكن لا أحد يشعر به، فهو الطفل الشقي الذي لا يطيقه أحد ولا يرغب أحد أبداً في صحبته.
    كان زيزا طفلاً طيباً وحساساً للغاية، ولكن مشكلته الكبرى أنه يفتقد الحنان؛ فكل من حوله يعاني في عالمه الخاص، الأب فقير معدم وسكير يصب غضبه دوماً على زوجته وأبنائه، وخصوصاً ابنه الصغير زيزا، فلا يتلقى منه إلا الضرب المبرح طوال الوقت. والأم مسكينة ليس لها حيلة في أي تصرف يخص شؤون الأسرة، ولا تستطيع الدفاع عن ابنها. والإخوة كلٌّ في حاله، ولا يملك أحدٌ منهم أي وقت للاهتمام بزيزا، وهو بدوره لا يشعر منهم بالمعنى الحقيقي للحب أو للحنان، فكان ذلك المحفز الرئيسي له لارتكاب المزيد والمزيد من الكوارث، حتى استحق لقب الشيطان الصغير عن جدارة.
    ولأن الحياة ليس لها معنى من دون الحنان، ولم يمتلك زيزا المقدرة على التعبير عن مكنونات نفسه وأحلامه، آلَ به الحال إلى أن يصادق جذع شجرة برتقال، عندما أقنعته أخته الكبرى أن الشجر يسمع ويشعر مثل الإنسان. فصادق الطفل البريء جذع الشجرة العجوز المقطوعة، وظل يتحدث إليها يومياً، يخبرها بكل أفكاره منتظراً منها أن تكبر وتثمر أوراقها.

    تمر الأيام ويقع حظ زيزا الطيب في أن يتعرف على بورتوجا، الرجل المسن صاحب أجمل سيارة في القرية. يرى بورتوجا الجانب الطيب في زيزا فيتحدث معه ويصادقه، ويسمح له بركوب سيارته التي تخطف أنظار البلدة كلها، حتى يشعر زيزا أنه ملك متوج، فيظهر معدن زيزا الحنون الطيب الذي لا يسعك سوى أن تقع في حبه وتشفق عليه وتبكي معه كأنك تبكي طفلك الصغير الموجود داخلك.
    فكم طفلاً تم وصفه بأنه شقي أو عنيد أو عصبي، والعديد من الأحكام التي صدرت ضده، حتى تبناها الجميع وصدقوها دون أن يتأكدوا من مدى صحتها ودون أن يبذلوا أي مجهود يذكر كي يروا جانبه الطيب. كم طفلاً كبر وهو مقتنع تمام الاقتناع أنه شخص لا تطاق عشرته نتيجة لفكرة زرعها فيه آباؤه عند الصغر.

    كم طفلاً افتقد الحنان والاهتمام والحبَّ فقام بارتكاب المصائب بسبب رغبة لا شعورية منه في لفت الانتباه له، وكأنه يصرخ قائلاً: "أنا هنا" "أنا لي احتياجات"، "أريد أن أشعر بالحب"، "أريد منكم الاهتمام"، "أرجو أن تروني بعين القبول".

    عندما تحدث زيزا مع صديقه العجوز بورتوجا حكى له أنه يريد أن يقتل أباه، ولكن قتلاً رحيماً، رحيماً لأبيه ومؤلماً للغاية على نفسه، فذلك الطفل الصغير يؤمن بالحب لدرجة أنه قرر أن يقتل والده بأن يتوقف عن حبه، وذلك سيكون السبب في موت أبيه بداخله.
    كان بورتوجا العوض الإلهي لزيزا فأحبه حباً قوياً كما أنه أهداه أكبر هدية تقدم لطفل صغير، أهدى له مساحة كبيرة للتحدث.
    فكان زيزا يتحدث عن أفكاره دون توقف، أحاديث في كل ما يشغل باله، ومن خلالها تعلم زيزا أن يتعرف على نفسه ومشاعره وأفكاره، ومن ثم كيفية التعبير عن متطلباته ومشاعره بحرية دون صراع داخلي معها لكبتها، تعلَّمَ كيفية أن يحب وأن يتقبل الحب، تعلم أن قلب الإنسان كبير جداً لاحتواء كلّ من يحب، وأنه منذ أن اكتشف معنى الحنان حقاً قرر أن يغمر بحنانه كل ما يحب.
    وظهر ذلك التقدم في شخصية الطفل البريء، عندما قال لصديقه العجوز: "أريد أن أبقى دائماً بالقرب منك لأنك الإنسان الأكثر طيبة في العالم، لا أُوبخ حين أكون بقربك، وأشعر أن شعاعاً من الشمس يغمر قلبي بالسعادة".

    إن أكثر ما يبحث عنه الطفل في عيون من حوله هو القبول، وأكثر ما يساعد على أن يكون ذا صحة نفسية سوية هو أن يشعر بالأمان، فكم من طفل افتقد القبول في صغره فكبر كارها لنفسه مخرباً لحياته، ولا يستطيع أن يحب نفسه من أجل أن يعطي الحب للآخرين، وكم من طفل تألم لافتقاده الأمان وعاش دوماً تحت تأثير الشعور بالخطر والتهديد فكبر ليجد نفسه نسخة مشوهة من الشخص الذي أفسد حياته في الصغر.
    وعلى الجانب الآخر، فعندما يكبر الطفل وداخله مشبع بالقبول والأمان يصبح ذلك صحياً، ويكبر ليكون بالغاً راشداً قادراً على أن يدع أشعة الشمس تغمر قلبه ليبدأ هو في إنارة قلوب من حوله.

  7. #17
    صديق فعال

    قراءة في رواية دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد
    وداد طه

    بين كلمة دبّابة التي تحيل بالضّرورة إلى مكان تقف فوقه تلك الآليّة العسكريّة، والتي تشير إلى الموت، وكلمة ميلاد التي تبشر بالحياة وتحيل إلى زمان يحدث فيه، ثلاث كلمات تشير إلى مكانين وزمان هي: تحت وشجرة وعيد، أيّ يمكن أن ندّعي أنّ عنوان رواية إبراهيم نصرالله "دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد" هو عنوان زمكانيّ، وتالياً نفهم أنّ المكان بطل من أبطال الرّواية، إن لم يكن البطل الأساس.

    يمتدّ العنوان الطّويل نسبيّاً، امتداداً أفقيّاً يسمح بامتداد الأحداث على فترة طويلة تغطّيها الرّواية من تاريخ نضال الشّعب الفلسطينيّ. خمسة فصول تتوزّعها الرّواية: ليالي الأنس، ليالي الصّيّاد، ليالي الموت، ليالي الحقل، ليالي الميلاد. من حكايات الحبّ التي تبدأ مع نهاية الحرب العالميّة الأولى وعودة إسكندر عام 1942، وزواجه من مارتا الذي غدا أسطورة من أساطير المدينة، ومجيء المحتلّ ودوافع استيطانه وخلفيّاته النفسية والتاريخيّة، ثمّ امتداد الأبطال من خلال أولادهم وأحفادهم، انتهاء بالعصيان والحصار والنّصر، يوثّق إبراهيم نصرالله ما شهدته بيت ساحور الفلسطينيّة على امتداد خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال.

    قد تزعجك كثرة الأسماء حتى تكاد لا تفرّق بينها، بدءاً من إسكندر ومارتا، وزهيرة وإدوارد مروراً ببشارة وزيدان وماري وخليل وأم خليل والمحقق داود وجورج ومنير وأبوخليل وعمّة فاتن وميس ونبيل الخائن والكابتن داود وجنوده الكثر وانتهاء بالطّفلة رولا، لكن بعد أن تهبّ المدينة كلّها ستعي أنّ القصص التفصيليّة ليست إلّا تفاصيل تجعل من المسرح الحكائيّ مساحة قادرة على استيعاب شعب بأكمله، فالبطل الحقيقيّ هو المدينة بكلّ ما فيها.

    لم يكن إبراهيم نصرالله وحده من اهتمّ بتوثيق ما حدث في بيت ساحور أثناء الانتفاضة، فالمخرج الفلسطينيّ عامر الشّوملي بالتّعاون مع المخرج الكنديّ بول كوان، عملا على توثيق العصيان المدنيّ أواخر الانتفاضة في فيلمه "المطلوبون الـ 18" والذي رشح لنيل جائزة أوسكار عن فئة الفيلم الأجنبيّ لعام 2016.[1] وهذا العمل لنصرالله هو ضمن ثلاثيّة الأجراس التي كتبها في مشروعه الوطنيّ الملهاة الفلسطينيّة، والتي ضمّت روايتين سابقتين عن الدّار العربيّة للعلوم "ناشرون"، ونالت جائزة كتارا عام 2020.

    لم يكن المكان في الرّواية عنصراً من عناصر الدّيكور، فهو العنصر الأهمّ من عناصر تطوّر الأحداث، حتّى لتنصهر الشّخصيّات فيه، المكان هو من يملي على الشّخصيّات القيم التي توجّه أفعالها، فهي لا تحلم بمكان آخر، إنما تحلم بالمكان خالياً من كابوس وجود قيم الآخر الذي يقتل الحاضر ويحاصر حياتها. إذاً في بيت ساحور دبّابة تحاصرها وتمنع عنها الحياة وعلى هذا الأساس ينبني الصّراع. لكنّ هذا الحصار لا يمنع أهلها من حبّها والدّفاع عنها وخلق فرص متجدّدة للحياة فيها، بل ولا يمنع المهاجرين من حملة الجنسيّات أمثال جورج من العودة إليها والبقاء فيها. وهكذا فإن المكان الذي من المفترض أنّ وجود الإسرائيليّ فيه قد حوّله إلى سجن، أضحى المكان الحلم "حاملاً لنظرة شموليّة تتعدّى الواقع الذي تمثّله تلك الأمكنة لتصبح خزّاناً ممتلئاً بالخبرة" وتنقسم الأفعال فيه إلى أفعال يصيّرها حبّه تحاول أن تصنع قدراً جميلاً من واقع موجع في تفاصيله اليوميّة، وأخرى يصيّرها كرهه، تحاول أن تحتلّه بكلّ ما أوتيت من بطش. وكلا القسمين يواجه الآخر بشراسة ترغب في الانتصار ومحو الآخر.

    مقارنة بما كتب في الرّوايات العربيّة الحديثة عن المدن، خاصّة تلك الرّوايات التي تحدّثت عن المدن بعد أو خلال الحروب، المدن التي تختصر صورة وطن، تبدو بيت ساحور مدينة من نوع آخر، فلا حنين مرضيّاً يجمعها بأهلها، ولا مشاعر سلبيّة تربطهم بها، فهم لا يرغبون بغيرها، ولا اغتراب فيها أو دونيّة خلّفها مستعمر، إنما هي وفي أحلك أوقاتها أمانٌ مطلق يتمكّنون من التنقل فيها رغم الحصار ومنع التّجوّل بطرق سلسة وخفيّة تستعصي على فهم المحتلّ، ما يشير إلى أمرين: الأوّل كونها تمثّل المكان المغلق الاختياريّ، الذي يذكّر بكينونة الإنسان وعمقه، ولعلّ هذا يشبه اسمها بيت ساحور "فحين نتذكر البيت والحجرات فإنّنا نعلم أنّنا نكون داخل أنفسنا" وهذا لو نظرنا إلى واقعها المحتلّ يخلق مفارقة نوعيّة، فهي لم تتحوّل بالنسبة إلى أبنائها إلى مكان للتشرذم والضّياع والألم، بل ظلّت الجرح الذي يحاولون تضميده. الأمر الثاني تلك الحميميّة التي يفتقدها الدّخيل رغم طول بقائه، ويعيشها المواطن رغم محاولات تقييده، فبيت ساحور ظلّت في الرّواية المكان المأساة بالنسبة إلى داود وجنوده، عانوا فيه من القلق والضّياع والسخرية فكأنهم أوجدوا فيها لأنفسهم كمحتلّين جحراً منغلقاً، يمكن النظر إلى المونولوج السّوداويّ الذي ظالما حدّث به الكابتن داود نفسه، والذي يختصر حال اليهود المحتلّين الذين باتت فلسطين بيتاً لعزلتهم عن العالم، إذ مارسوا فيها أشكالاً لا حصر لها من اللاتحضر والعنصريّة غير المبرّرة. يؤكّد ذلك أنّ المكان حين ينفتح على الشّوارع أو السّاحات العامّة، تراه يبقي على أمان الفلسطينيين، بينما يخنق الجنود وقائدهم في دوّامة من القلق والغضب.

    هكذا تغدو بيت ساحور مسرحاً لقضيّة أكبر من حدودها الجغرافيّة، إذ هي فضاء لقضيّة وطن محتلّ، يتصارع فوقها الخير والشّر، فريق يراها مسرحاً للرّعب، فيبطش بأهلها، هي ليست عنده إلّا شبحاً لأحلام أجداده الذين جاءوا محتلّين (داود وجدّه) وفريق يراها أرض ميعاده وجنّته (إسكندر وأولاده وأهل المدينة)، وبذا تغدو المدينة مسرحاً لأزمة إنسانيّة تبحث عن حلّ في ضمير البشريّة، هكذا تعبر الزّمن لتتصل بالمعنى الوجوديّ الإنسانيّ المتعلّق بالحقّ والخير والجمال والحريّة والعدالة، كمعانٍ إنسانيّة عامّة يستحقها جميع البشر على اختلافهم.

    يتوازى نموّ الشّخصيّات أفقيّاً مع نموّ المدينة؛ كشخصيّة إسكندر الذي ظهر له عبر فصول الرّواية أولاد وأحفاد وجيران وأصدقاء ناضلوا وضربوا وسجنوا أحبّوا وتزوّجوا وقاوموا المحتلّ بطرق مختلفة، كمدينته بتفاصيل أيّامها مع الاحتلال، والتي يعبرها الزمن بسلاسة كأنّه عنصر خفيّ وخفيف لا يهتمّ إليه أيّ من الموجودين، لا أهلها ولا محتلّوهم. يشير هذا بدوره إلى ثبات الذّات مقابل تذبذب الآخر، ففيما تعبر بيت ساحور الزّمن، بما تشهده من قسوة محتلّها، ويعبره أهلها معها من دون أن يميت فيهم شعلة حبّها، هي تقف ساعتها لموقف أيديولوجيّ وجوديّ، هو موقف الكاتب وإحدى رسائله في الرّواية: نحن هنا والآن.. وباقون.

    حرص نصرالله على توصيف توبوغرافيّ للمكان، فذكر أسماء الأحياء كتلّ الزّعتر، كما حرص على توثيق ما حصل في حصار بيت ساحور حين رفض الأهالي دفع الضّرائب، ووثّق حكاية البقرات التي أخفاها أهل المدينة عن القيادة العسكريّة في محاولتهم الاكتفاء الذّاتيّ ورفض المنتج الإسرائيليّ، فأين اختلف ما كتبه عن أيّ توثيق صحفيّ؟

    إنّ في تصوير المكان بما هو الإنسان محاولة لحفظ كينونتهما معاً، وفي عبور الزّمن للأحداث بصفة وهميّة أو غير محدّدة رغم معرفة الفترة التي تجري فيها أحداث الرّواية إذ هي موجودة في سياق تاريخيّ معروف، محاولة للهرب من الإطار التوثيقيّ، كما أنّ انتهاء الأحداث بالموسيقى يسمح بتخيّل أزمنة أبعد ويفتح طاقة على الآتي، وهذا ما لا يمكن للتوثيق أن يفعله، إذ إنّ مهمّته حصر الحاصل وتحديده، لذا يمكن القول إنّ نصرالله قد أفلت من الوقوع في التوثيق حين جعل القصّة معيشة في أيّ فعل مقاوم لأبناء المدينة، نابع من حبّ الحياة لا من الخوف من المحتلّ، كما من كلّ فعل حياة مغاير للحاصل، يجعل اللامعقول في مثل تلك الظروف يبدو طبيعيّاً ومألوفاً، وما انتهاء الرّواية بعزف مارتا رغم تقدّمها في العمر، إلّا خروج عن المألوف وهذا ما يفعله العمل الفنيّ. وقد استطاع نصرالله بذلك أن يدمج بين الزّمن النّفسيّ أو الدّاخليّ المرتبط بالشّخصيّات وبين الزّمن الخارجيّ المرتبط بالأحداث، وهذا أيضاً لا يفعله التوثيق.

    استطاع نصرالله أن يحبك قصته، مستعيناً بما بات يتقنه من تقنيات السّرد التي تمثلت بالاختصار أحياناً، والقفز أو إبطاء السّرد بالحوار أو الوصف فقد تضافرت جميعاً لخلق عمل متكامل، رغم صعوبة المهمّة، وإمكانيّة انسراب الحكاية لجهة طول المدّة التي تغطّيها.

    قد نقرأ في بعض الرّوايات التي ارتكزت إلى حدث تاريخيّ أو شخصيّة تاريخيّة معروفة، كما في أعمال أمين معلوف، محاولات لجمع التناقضات الحضاريّة وفتح حوارات ثقافيّة حول الهويّة، كما نجد مزجاً بين الخيال والواقع والذاكرة، لكنّنا في رواية دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد، أمام عمل همّه وهو يحكي ملهاة شعبه ألّا تتوقف الأجراس، أن يتحوّل الألم الذي وثّقته الكاميرات إلى أمل، قادر على العبور باللحظة التاريخيّة الصّعبة إلى مآل من نوع آخر… ربّما يشبه الموسيقى لا يمكن احتجازها من قبل دبّابة عاجزة تقف تحت شجرة الميلاد. وما فصول الرّواية الخمسة أو كلمات عنوانها الخمسة إلّا محاولة للقبض على الواقع من أجل تحريره وتغييره.

  8. #18
    صديق فعال
    "من قتل ليلى الحايك؟"..
    غسان كنفاني يحلل الحب والخيانة

    وداد طه

    كتب غسان كنفاني العديد من الأعمال الأدبية التي كرسها للتعبير عن قضية فلسطين. في روايته "الشيء الآخر.. من قتل ليلى الحايك؟" التي صدرت عن مؤسسة الأبحاث العربية بطبعتها الأولى عام 1980، ونشرت بداية في مجلة الحوادث الأسبوعية، على تسع حلقات بدأت في يونيو/حزيران 1966 حتى 1967 -شيء آخر مختلف، ولكن إلى أي حد؟ وأين مكمن اختلافه؟

    في كنف حضارة وعدت بالحريات وأخفقت في تحقيقها سواء أعلى مستوى الفرد أم الجماعة، شعر الإنسان المعاصر بالخواء والعبث، وانسرب ذلك في الكثير من الأعمال الأدبية، التي عبرت عن أزمة الإنسان المعاصر ولا جدوى وجوده وضياعه وخوفه وقلقه. فهل يبحث غسان كنفاني في هذه الرواية عن حرية العالم/الفرد المفقودة؟

    تقوم الرواية على حدث رئيسي وهو مقتل ليلى الحايك صديقة زوجته التي أقام معها علاقة جنسية. يتعرف البطل وهو محامٍ شهير، إلى ليلى وزوجها مصادفة، إذ كان يسهر مع زوجته في عيد زواجهما، والتقت ديما زوجته بصديقتها التي غابت عنها زمناً طويلاً. يعبر الأستاذ صالح عن انطباع سلبي تجاه ليلى ويصفها بالمملة والسهلة. يتصل زوج ليلى وهو رجل ميسور الحال ويحبها بجنون، بالمحامي الفذ ويطلب منه أن يساعده في قضية إرث حصلت عليه زوجته. يعرف المحامي أن والد ليلى على وشك الموت وسيترك لها تركة هائلة، والزوج رافض أن تحصل زوجته على تلك الأموال، ودافعه ألا تتغير عليه، فمن له أن يتخيل ما الذي سيحل بامرأة تتحصل على تلك الثروة؟ يوافق المحامي على طلب الزوج، ويصبح هو وكيل الشاب الأرجنتيني الذي يدعي أنه شقيقها، تزوره ليلى في مكتبه، يتفقان على أن تكون المعركة شريفة وتوافق هي على أن يحصل الشاب وفي أي حال على مبلغ من المال. يسافر زوج ليلى وتسافر زوجة المحامي وتبدأ علاقة حميمة ملتهبة بين ليلى والمحامي. وفي ليلة يقصد صالح بيت عشيقته وقد اشترى لها زجاجة عطر، لكنه لا يدخل لاعتقاده أن معها أحداً في البيت، يتراجع ولا يخفي آثار وجوده في المكان، فحين تقع منه علبة سجائره لا يكترث ويغادر، في الوقت الذي يراه فيه كثيرون، وتشاء الصدفة أن تُقتل ليلى في تلك الليلة، فيتهم هو بقتلها إذ تتجمع ضده أدلة وشهود رأوه في المكان، وصمته المطبق.

    كل ما عرفناه من أحداث الرواية هو من خلال رسالة يوجهها المحامي صالح الذي اختار الصمت في مواجهة ذلك الحدث المدوي في حياته كإنسان، إلى زوجته. أي إن الرواية اعتراف للزوجة بالخيانة، يقدم خلاله كنفاني تشريحاً لمعاني الحب والخيانة والعدل والاختيار من رجل آثر الصمت موقفاً في مواجهة المصير. في هذا المونولوج الذي عنونه كنفاني "الشيء الآخر.. من قتل ليلى الحايك؟" يحدد موقفه الوجودي من هذه القضية أولاً، فهناك شيء آخر قتل ليلى الحايك، أي هو يبرئ نفسه من مقتلها، وفي الوقت ذاته، يتموضع بعيداً عن ذلك الشيء فيؤكد وجوده المستقل عنه كفرد، وقد يصح تأويل ذلك الشيء على أنه القدر أو رجل أو الانتحار أو حتى العالم المادي، ولكنه في كل حال شيء آخر موجود ومنافٍ لكاتب الرسالة.
    يحيل هذا إلى منطق الوجوديين. فهل ابتدع كنفاني الصمت في هذه الرواية رديفاً لحرية الفرد في الاختيار كما يفسر الوجوديون العالم؟ ولماذا؟

    قد يفهم الموقف على أنه عبثي، فقد كان للمحامي أن ينطق كي ينقذ رأسه من حبل المشنقة ولكنه صمت، حتى إن صمته استفز العدالة ومن يمثلونها في الرواية. ولكن العبث وجه آخر للحقيقة، والاعتراف العميق بها بالهروب منها نحو اتجاه معاكس لها، يجعلنا لا نواجهها. إذاً فعل اللافعل هو فعل حر أصيل يؤكد حضور الذات في وجه العالم الذي يحاول محوها. فعل الصمت يترجم أصالة الفرد الذي تحمل مسؤولية فعله ذاك، في مواجهة حدث مأساوي، جعله يرى أن دفاعه سيكون فعلاً عبثياً. الصمت جعله يتمكن من إيجاد معنى وجوده في هذه الحياة، به يواجه من يحاولون محوه.

    كما أنه بالصمت استطاع أن يفسر ما يراه الآخرون خيانة زوجية على أنه اختيار واعٍ لوجود حر يستطيع أن يعرف ذاته بالانفصال عنها. لقد أعطاه صمته فسحة لاكتشاف عالمه الداخلي، فاكتشف عمق حبه لزوجته، وفسر الخيانة على أنها هروب من حقيقة الملل. كان البطل يشعر بوجود شرخ في وعيه وحين أقام علاقة جسدية مع ليلى كان إنما ينفصل عن حاضره القلق وينفيه استباقياً، ليرغب من جديد ويريد من جديد، أي إن فعل الخيانة كان نفياً لموت الرغبة باستباقها نحو الآتي، محاولة من الذات مطاردةَ حقيقتها للهروب من حالة اللاوجود المتمثلة في موت الرغبة، بخلق حالة تضمن للكينونة أن تستمر عبر الحركة.

    هذا الوعي الذاتي يخلق فجوة مع العالم الخارجي، فيعبر الكائن الحر الذي اختار الصمت موقفاً صلباً لم يتراجع عنه، عن أمرين: هشاشة الذات الأبدية، ومحاولاتها المستمرة البحث عن خروج لمأزق عدميتها بالبحث عن استمرارية غير مستقرة هي في ذاتها هشة لأنها بحث دائم عن عاطفة تفشل دائماً، يقول سارتر عن الإنسان: " حماسة لا فائدة فيها".

    الصمت غياب للضوضاء، محو للخارج وإيغال نحو الداخل، يحتاج من الإنسان قدرة على مواجهة ذلك الداخل، وذلك الصوت الداخلي الذي هو الذات، حين نواجهه فنحن نواجه الذات، نقف أمامها من دون حدود أو شك، نسمعها بوضوح، وقد يردد ما تقول فهل سمع بطل الرواية الصامت أن ذاته تريد أن تندثر؟ لماذا؟

    يوجب الاختيار الحر الواعي إنكار أي حتمي خارجي مسير قد يطغى على إرادة الفرد، قد تصبح الحرية عند تلك النقطة مرعبة لأنها ستختار حتى لو كان الاختيار هو التحول إلى وجه آخر من وجوه الوجود بالموت، أي تحويل العدم الحاصل باللحاق الدائم للحقيقة والماهية إلى عدم بالتماهي معها. الموت هو شكل آخر للوجود طريقه الصمت عن محاولة الوجود، نفي الوعي ذاته، تحطيم أساليبه في التحقق، بالانسلاخ الأخير والسفر الذي لا رجعة منه، الصمت هنا طريق الروح نحو أصالة لا نهائية، لا يستطيع أن يفسرها أو يتقبلها عالم مليء بالضوضاء من أجل التجلي.

    عندئذ لا يكون موت المحامي في رواية غسان كنفاني خداعاً للنفس من خلال الشعور بانعدام المعنى، بل هو تأصيل بنفي الخوف من العدم، بقتل قلق الوجود من أساسه والدخول في العبث بطواعية، هو تحقيق لأقصى أشكال الحرية بالاستسلام الواعي للرغبة بفعل اللامعقول، بالتحرر من ثقل العالم، بنفي المكان المخصص للذات فيه، بقرار التوقف عن الاختيار، بالتطهر من البحث عن الامتلاء عبر التماهي في الفراغ الأبدي.

    في نفي الذات نفي للآخر، ولاستبداد شهوة التسلط، تكسير للمتعارف عليه من تفسيرات الحب والشهوة والعلاقات الإنسانية، حين تكسر الذات حبها لوجودها، فهي قد تخطت نزوعها إلى الاستبداد بالآخر، وحين صار صالح حراً من شهوة تملك ليلى صار حراً بها وعبرها من رغبته الشديدة في الامتلاء، لقد أضحى الآخر أسمى من الشيء الذي يمكن الذات من امتلاكه، فبقي جسد ليلى مرهوناً بحريتها في تقديمه له أو لغيره، وهو تمكن من ملامسة حريته من الاستبداد بالآخر وتقييده، عبر التمركز في ذاته ومواجهة صوتها الداخلي.

    الصراع في رواية غسان كنفاني "من قتل ليلى الحايك؟" وجودي ينبني على حرية الإنسان في اختيار حياته ومصيره في مقابل رغبة الآخرين في جعله يختار ما يجدونه هم مناسباً لأعرافهم وتجاربهم، فالبطل الصامت كان يواجه بحرية تامة الموت الذي سيقع عليه من قبل الآخرين، بمعرفتهم مثلاً بأمر علاقته الجسدية بليلى وتأطيرهم لمثل تلك العلاقات ضمن مفهوم الخيانة، بموت آخر حر أعطى لحياته قيمة إذ إنه حقق ذاته بالصمت الذي هو موقفها الوجودي المسؤول، ولم يسمح للعالم بتشويه نزوعه إلى الحرية بقتله شنقاً، فكان الصمت في ظاهره استسلاماً للحاصل وفي باطنه رداً على قسوة العالم وظلمه ورفضاً لأعرافه وأحكامه وموازينه.

    هكذا هو كنفاني يختار في كل مرة أن يختار موقفه الوجودي، أن يشرح للعالم عبر شخصياته تمزقه وقلقه ووحدته، هذه المرة ومع شخصية تمثل مظهراً من مظاهر العدل، استطاع أن يواجه العالم الخانق عبر تصاعد صوت الرغبة في محو كل شيء، في رفض كل شيء: الأحكام والآخر والمكان والتجذر والضجيج العابث بإنهاء كل ذلك، مؤكداً أن الحرية محور الوجود. فهل ذلك بعيد من قضيته الأولى؟

  9. #19
    صديق فعال

    كتاب "هجرة الأفكار" لجلبرت هايت:
    كيف يصنع التلاقح الفكري حضارتنا الإنسانية؟

    صلاح الدين ياسين

    يعد كتاب "هجرة الأفكار" ذو الحجم المتوسط من تأليف الأستاذ الجامعي المتخصص "جلبرت هايت"، ناهضاً على طرح أساسي مفاده أنه ليس ثمة حضارة بشرية قائمة أو مكتفية بذاتها، باعتبار أن كل حضارة تتغذى على حضارة أخرى، ومن ثم فإن المنهج الأمثل لدراسة التاريخ هو رصد حركة انتقال الأفكار وهجرتها من مكان إلى آخر، ومن حقبة زمنية إلى أخرى: "إن فترة تقدم الحضارة هي فترة تنتقل فيها الأفكار بحرية من عقل إلى عقل ومن بلد إلى آخر، ومن الماضي إلى الحاضر.. أما العصر البربري، والبلد الهمجي فهما اللذان يحاولان شل الاتصال، وحبس الأفكار…".

    نماذج ملهمة لانتقال وهجرة الأفكار
    لقد استهل مؤلف الكتاب تعداده للنماذج المعبرة عن التمازج الفكري بإحدى الحضارات الرائدة في عالم اليوم وهي اليابان، فقد عرفت تلك الدولة تغييراً جذرياً منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر تجسد في تليينها للتقاليد المتجذرة في رفض الأجانب وكراهيتهم من خلال انفتاحها على العالم الغربي عبر إيفادها لبعثات طلابية إلى أوروبا واستقطابها للكفاءات الأجنبية في مسعى لتملك ناصية المعرفة والعلوم واللحاق بالركب الحضاري، دون المس جذرياً بخصوصيتها الثقافية والاجتماعية. وقد أصدر إمبراطور اليابان في عام 1868 مرسوم القسم الذي تعهد من خلاله بإصلاح أحوال الشعب، وقد ورد في عبارته الأخيرة: "سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم".

    ويصدق ما سبق قوله على الرومان الذين متحوا من مناهل الحضارة الإغريقية وفتنوا بها بعد غزوهم لليونان في القرن الثاني ق.م، بحيث أخذوا من الإغريق شغفهم بالعلوم والفنون والفلسفة وحبهم الشديد للحكمة، وأضافوا إلى حضارتهم مزايا أصيلة عند الرومان خاصة فيما يتعلق بالقانون والدين وحسهم الوطني المرهف، إلى جانب تقديرهم للمسؤولية. كما أن الأمم الأوروبية تدين بالكثير من الفضل للرومان الذين ساهموا في تحضيرها: "فقد وجدتهم روما قبائل مبعثرة تعيش في العصر الحديدي الأول، أميين فقراء.. فعلمتهم في حقب قليلة، الزراعة والتجارة والفن المعماري والصناعة، كما علمتهم في حقب أخرى، القانون والفلسفة والأدب والدين…".

    وسرعان ما ينمحي الانطباع الذي يخالج القارئ بأن الكاتب من دعاة المركزية الغربية والتفوق الحضاري للعالم المسيحي، حين يشير إلى فضل الحضارة العربية على الأمم الأخرى وبخاصة إسبانيا التي ما زالت إلى حدود اليوم مشدودة إلى الإرث العربي والإسلامي، وهو ما يمكن تبينه في الغناء والشعر الإسباني وبعض العادات الإجتماعية الأخرى: "وكان العرب أكثر حضارة في ذلك الوقت، ومن المحقق أن حضارتهم كانت أكثر تماسكاً، وكان العرب يحبون الموسيقى والشعر والملابس الجميلة والعمارات الفاخرة والحدائق والأثاث الفخم والفلسفة. وفي غضون أحقاب قليلة، اعتنق كثير من الإسبان الإسلام، حتى أولئك الذين استمسكوا بالمسيحية كانوا يرتدون الثياب العربية في بعض الأحايين، ويعجبون بالجمال العربي، وطريقة العرب في الحياة…".

    حوافز التلاقح الحضاري وحدوده
    لقد اهتم علماء النفس والاجتماع باستكشاف الدوافع والحوافز التي تدفع بأفراد جماعة اجتماعية معينة إلى قبول أفكار أجنبية وغريبة على ثقافتهم، ومن بين تلك الدوافع التي توصلوا إليها دافع الخوف، فالخوف من التعرض لغزو الأجانب كان وراء انفتاح اليابانيين على الأجانب من أجل تملّك أسباب القوة والتمكين الذاتية، هذا إلى جانب حافز الكبرياء، ذلك أن الإلمام بأفكار أجنبية يضفي على الفرد المنتمي إلى جماعة أو بيئة داخلية الإحساس بالتفوق على أقرانه والشعور بامتلاك ثقافة رفيعة، دون إغفال حافز المتعة الذي يبرز في السعي إلى تملك وسائل الراحة والرفاهية المستوردة كالإقبال الواسع على استهلاك التدخين وشتى وسائل الترفيه مثل إصدارات السينما العالمية. كما قد ينحصر الدافع في الفضول المعرفي أو العلمي لذاته وبدون أن يكون مصحوباً بالحوافز السابقة.

    غير أن عملية التمازج الحضاري التي تعد حقيقة تاريخية يصعب دحضها، تظل رهينة بمدى ونطاق العناصر المشتركة بين ثقافتين أو ثقافات متعددة من حيث الاتساع أو الضيق، ويورد الكاتب مثالاً بالفروق الهائلة بين ثقافة الأمريكيين البيض وثقافة الأمريكيين من أصول إفريقية كأحد العوامل التي تصعب الاندماج الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن جهة ثانية، يقر علماء الأنثروبولوجيا بصعوبة التأثير في الجوانب غير المادية للثقافة مقارنة مع جانبها المادي، بدليل ما نعاينه في عالمنا العربي والإسلامي الذي يتهافت على أحدث الابتكارات والاختراعات الغربية، بينما يصم آذانه عن القيم والمفاهيم المنتمية إلى منظومة الحداثة الغربية بدعوى تعارضها مع الخصوصية الثقافية، ومن هنا يمكن أن نلمس الفرق بين العصرنة والحداثة التي تحيل إلى إصلاح عميق يطال منظومة الأفكار والوعي الاجتماعي.

    ومن منطلق اعتداده بالإرث اليوناني والروماني ودورهما في ازدهار الحضارة الغربية، لا يخفي مؤلف الكتاب حسرته لما آلت إليه أحوال الثقافة الغربية التي فقدت عمقها وامتدادها التاريخي، نتيجة لنزوع العديد من دعاة الحداثة إلى قطع الصلة مع المعارف والفنون الأدبية الكلاسيكية، وهو ما يفسر شيوع الرداءة والتفاهة في غير قليل من التعبيرات الفنية والأدبية الغربية، بفعل انتشار اعتقاد زائف لدى فئة من المعاصرين مفاده أن شرط الحداثة والتقدم هو اجتثاث الجذور التي تصلنا بماضي أسلافنا.

  10. #20
    صديق فعال

    كيف استخدم إدوارد سعيد اللغة لتكريس فلسطين
    في وعي العالم كوطن قومي وحيد للفلسطينيين؟

    وداد طه

    عُرف عن إدوارد سعيد التزامه المقال في نقده الثقافي والسياسي والأكاديمي والأدبي، كما عرف بنهجه في الكتابة القائمة على التكثيف وتجاور الأفكار وتداخل التحليل والتعليق. فما هو الأسلوب الذي اعتمده إنسان يكتب خارج المكان؟ وقد أمضى حياته معانداً ومشاكساً وخارج السرب، يبين قناعاته عبر مشاكسة الأنظمة الإمبريالية، ومعاندة أي فكر للاستسلام وحتمية الخضوع لأي شكل من أشكالها. سعيد في هذه السيرة يبتعد من اللغة الأكاديمية التي عرف بها، ويقترب نصه السير ذاتي من كينونته كإنسان باحث عن قيمة وجوده، يحاول مقاربة ثيمة المنفى والهوية، في نص كثيف ومتوتر وصادق إلى أبعد الحدود.

    في موضوع علاقة اللغة بالفكر والناس والواقع يقول سعيد: ""الناس لا يعيشون في العالم الموضوعي فقط، ولا في عالم النشاط الاجتماعي، بل إنهم واقعون تحت رحمة اللغة التي أصبحت وسطاً للتعبير فيالمجتمع، فواقع الأمر أن العالم الواقعي مبني إلى أقصى مدى بناء لا شعورياً على العادات اللغويةللجماعة" إذاً يولي سعيد أهمية كبرى للغة بكونها ملتصقة بعالم الأفكار، وهي المشترك العام الذي يحضن جماعة ما ويمكنها من التأثر والتأثير.

    فما هي الخصائص الأسلوبية التي شاعت في اللغة التي استخدمها إدوارد سعيد في سيرته خارج المكان؟
    وما هي دلالاته التي تعبر بنا إلى كنه النص؟


    يرى تشتشرين أنه "يمكن التعبير عن الأشياء المقعدة بجمل بسيطة، ويصح العكس، وليس ثمة ضرورة منطقية بينهما، ولكنّ هناك اتجاهاً سيكولوجياً يخلق ظواهر محددة من الأساليب" إن النظر إلى السيرة الذاتية، بكونها صدى لحياة الكاتب واعترافات وإقراراً بكثير من المخبوء في تلك الحياة، يمكن من استجلاء قدرته على توظيف ما يتيحه النظام اللغوي من إمكانات، تسمح للذات وقد طفقت تسجل ما آلت إليه، ضمن سياق كتابي يزخر بالكثير من المعطيات التي تحتاج إلى قدرة عالية على التوظيف، كي تتمكن من المواءمة بين ما يقتضيه الحكي المرتبط بالحقيقي، وبين ما تقتضيه الأدبية من تحكم في تقنيات البناء السير ذاتي، ومعرفة لأشكال توظيف الضمائر والأفعال، يسمح باستجلاء بريق الدلالة وقد غاص بعيداً في الأنا.

    الناظر إلى كثافة الجملة ومضامين المعنى عند إدوارد سعيد يمكنه أن يعي أن الذات المفكرة لم تغب عن أي من محطات السيرة. وقد تجلت قدرة سعيد على الاستدلال المنطقي والبرهان والتحليل والربط السببي من خلال الجمل والتراكيب وطبيعة الأفعال وتوظيفها.

    يعي سعيد بشدة ما للغة من ارتباط بعالم الذات ومن أثر في تشكيل المعنى، فيقول في المقدمة: "والأكثر إثارة بالنسبة إلي ككاتب هو إحساسي بأني أحاول دائماً ترجمة التجارب التي عشتها لا في بيئة نائية فحسب وإنما في لغة مختلفة. إن كلاً منا يعيش حياته في لغة معينة، ومن هنا فإن الكل يختبر تجاربه ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات. والانفصام الكبير في حياتي هو ذلك الانفصام بين اللغة العربية، لغتي الأم، وبين اللغة الإنجليزية، وهي اللغة التي بها تعلمتُ وعبرتُ تالياً بما أنا باحث ومعلم. لذا كانت محاولاتي سرد التجارب التي عشتها في اللغة الأولى بواسطة اللغة الأخرى مهمة معقدة".

    يضعنا هذا الكلام في سباق لالتقاط المعنى عند سعيد، فأسلوبه المتقن يكثف اللغة ويقدمها بما في عالمه الداخلي من قدرات ومعارف، وتناقضات واشتعال النبوغ وعميق فهم للتجربة. يقول فواز طرابلسي في معرض حديثه عن كتاب الاستشراق: "الاستشراق مؤلف كبير مكتوب بأسلوب حصيف ومعقد… يتبين أن الحيز الأكبر منه مخصص لتأريخ نقدي دقيق وبطيء وعاجٍ بالأسماء والمراجع لمدرسة أكاديمية وفكرية وثقافية هي مدرسة المستشرقين. لكنّ مسحاً ثانياً أعمق وأدق، يستظهر الوميض الذي يشع من البناء المحكم والجهد التوثيقي والدأب البحثي والموهبة التحليلية والذوق الأدبي والثراء الثقافي، قبل أن يطلق سعيد شرارات الخيال والجمال والمحاججات الذكية ونفاذ النقد وعمق التطلب الفكري".

    ليس بعيداً من هذا الوصف للغة والأسلوب، ما يظهر في السيرة. فالأسلوب هو الرجل، وعليه فإن سعيد قد اتبع في هذه السيرة الأسلوب الحصيف والموثق ذاته، القائم على سرد أحداث والزج بالتفاصيل حتى أقصى الحدود، تفاصيل الأمكنة والأزمنة والناس والعالم والمدارس والثقافة الموسيقية والأدبية والمسرحية، ثم المحاججة ممزوج ذلك كله بكثير من التأملات وشذرات الخيال، ليصل من خلال ذلك إلى البنية الكلية الجامعة.

    بالعودة إلى صيغ الأفعال ودلالة تمظهرها، استناداً إلى ما قاله سعيد في مقدمته، سنجد أن الماضي "يأخذ له صيغة نحوية تناسب طبيعته؛ من حيث هو زمن كان، وأضحى بفضل لحظة الكتابة الآن.

    يحاول سعيد من خلال الصيغ الماضية أن يستعيد حياته لحظة الكتابة، وقد يكون لاستعمال الأفعال الناقصة مع المضارع إشارة إلى ذلك أيضاً، كأنما لحظة الاسترجاع هي لحظة للقبض على الزمن، والاستحواذ على مقدراته وإعادة بناء هيكل الأنا، كما ترى نفسها لحظة الكتابة في الحاضر، أيمكن أن يكون ذلك دليلاً عاماً على معنى دخول النواسخ على جملة وصفية كالجملة الاسمية؟ هل يحتاج من يضع كان قبل المضارع إلى نسخه، لأن في الماضي حياة يريد استرجاعها؟ "هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على إدوارد".

    ينفتح زمن السيرة على الماضي والحاضر، في رحلة بحث الكاتب عبر التذكر عن الصور والأحداث والمحطات التي عبرتها الأنا، ولا يمكن أحياناً الفصل الكلي بين الخيال والحقيقة لحظة الاستعادة، لأنها تحدث في لحظة وعي لا في لحظة معيشة، أي بعد اختمارها في نفس صاحبها، فهي قد تحمل وهي تدلف إلى الحياة عبر النص، قدرته على تصوير ما حدث بعد تأمله وسكبه في قالب الوعي للأنا وللحظة وجودها في التاريخ ومحيطها الاجتماعي، هذا يجعل تلك اللحظات المنتقاة كثيفة، ويجعل كاتب السيرة أكثر حرصاً على قتل النسيان الذي قد يشوب الذاكرة، لأنه حريص على تقديم الذات في أبهى أشكالها، وقد عبرت رحلتها بين الماضي والحاضر، وخرجت أكثر بهاء واقتداراً.

    نحن أمام لغة تستعين بما في النظام اللغوي من مساحات إبداع وحرية ممكنة، لأن الذات تسعى إلى الإشراق عبر بعث الماضي من جديد، ولأنه يأتي مكسواً بحلة الوعي. يعزز هذا حقيقة أن السيرة، هي صوت صاحبها وحده، وأن كل ما عداه يموت فيها، لذا فإن استعادة الماضي وزج الحاضر فيه، ليس من باب ما تمنحه اللغة من حرية في الانتقال عبر الزمن فقط، إنما هو من باب الاستعادة الواعية لكل ما يريد سعيد أن ينتقيه من متحف الذاكرة "ازداد اتكالي على هذا الكتاب وسيلة أبتني بها لنفسي شيئاً ما بواسطة النثر". كلام سعيد يؤكد ارتداد الذات إلى الماضي كصيغة يبتني به عالمه، ويفسر لجوءه إلى هذه الصيغة فيما هو يحكي قصة حياته، أو يقتطع من ذاكرته محطات يشاركها القارئ.

    يستخدم سعيد الحاضر صريحاً في نهايات سيرته، بعد أن كان الماضي مسيطراً تماماً على مجريات السرد، هذا ما يؤكد ما يذهب إليه البحث من أنه تطهر من رواسب الماضي عبر فعل الكتابة، حتى إذا غدا الزمن الذي ينبني عبر صيغ الأفعال زمناً ماضياً لكنه حاضر؛ إذ تسير فيه الذات نحو خلاصها وصورتها الأخيرة التي تريد أن تثبتها، وغدا المضارع ماضياً؛ إذ هو يوازي فعل حركة الذات إلى جوهرها وقيمتها الخبيئة، بكونه يسير معها نحوه لحظة فعل الكتابة. كأن الماضي سائر نحو الحاضر والحاضر سائر نحو الماضي، بحركة متوازية وسريعة وواعية، حتى التقيا فالتمع الجوهر وعاد إلى الحياة بريقها، ولم يعد الموت فكرة مخيفة وقاتمة، بل إنه بذلك قد أصبح من ضمن ما يراه فعل صيرورة دائمة الحركة في واقع ستبقى فيه الذات في غير مكانها، لكنها غدت سعيدة.

    نحن إذاً أمام نص يقوم على الاسترجاع، يستدعي الماضي بمحطاته، ويوظفها في الحاضر، عبر تقنيات تشكل نسيج النص الكلي، وتمكن الكاتب من استحضار طاقاته النفسية والفكرية والاجتماعية، فيسترجع سعيد لحظة الولادة، يؤصل لاسمه، يحكي تاريخ أبويه وتعارفهما، يشرح كلاً منهما كما مكنته الأعوام والتجارب والعلم من الغوص في فهمهما، كي يفهم ذاته، يحكي عن الطفولة الأولى والقاهرة والانتقال إليها، عن علاقاته بأخواته عن مربينه، عن معلميه، عن عمل الوالد وإمكاناته المادية، عن تعلقه بالموسيقى والمسرح، عن الشهوات الأولى والنزوات الصبيانية، عن شعوره بالعار بسبب جسمه وشكله الخارجي، عن القلق الدائم وعدم الشعور بالرضى في أي مكان، عن السياسة والتدريس في الجامعة، وأخيراً عن عدم التمكن مطلقاً من النوم وهناءة تلك الفكرة التي تجعله دائم الحركة والوعي حتى لحظة الكتابة… هكذا يصبح الزمن دائرياً كأنما لحظة الموت، التي استدعاها المرض، هي لحظة الولادة الجديدة وهي لحظة الوعي القصوى.

    لا يكتفي سعيد بالماضي وحده كي يسبق الزمن إلى ذاته، بل هو يستعمل المضارع مقروناً بـ(كان) فينتقل بهما إليه، ومرات مقترناً بـ"لم" الجازمة والتي يفيد اقترانها بالمضارع معنى الماضي.

    نلاحظ أيضاً صيغة الضمير في الأمثلة. فهو بضمير المتكلم الأنا، مقترناً بالكلمة من نحو (كنتُ، كنا، تنبهني). وهذا الضمير يستخدم منفصلاً عن الكلمة كضمير شأن كذلك من نحو" وأنا في السادسة عشرة/ وأنا في طور متقدم من حياتي" لم يتكلم سعيد عن ذاته بضمير الغائب الـ"هو" إلا نادراً، رغم أنه عبر عن غربة عميقة عن محيطه وفي هذا مفارقة عجيبة، أو دليل آخر على تصالح الذات مع عالمها الداخلي وإدراكها له لحظة الكتابة "ومع الوقت صار إدوارد وكيل أعمال متطلباً يسجل لوائح من النواقص والإخفاقات".

    عاد الضمير الغائب بصيغة الجميع إلى الآخر الذي هو الجماعة المغيبة عن صورة الأحداث بالقمع والظلم من نحو قوله عن الفلسطينيين: "كانت مأهولة بالفلسطينيين دون سواهم، وينتمي معظمهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقع أليف في أذني… وقد أمسوا جميعهم لاجئين". [9] يقابل هذا الضمير بالصيغة نفسها ضمير الجمع الغائب الذي يعود إلى العدو أو إلى من يجد سعيد مشكلة في تقبل توجههم السياسي وهم معسكر الدول الكولونيالية كبريطانيا وأمريكا وإسرائيل "ولا يزال يصعب علي أن أتقبل حقيقة أن أحياء المدينة تلك، حيث ولدتُ وعشتُ وشعرتُ بأني بين أهلي، قد احتلها مهاجرون بولونيون وألمان وأمريكيون غزوا المدينة وحولوها رمزاً أوحد لسيادتهم".

    هكذا ينوب الضمير عن الأسماء الحقيقية للمتصارعين، فيضع سعيد العالم من خلاله في معسكرين: أحدهما تمثله الأنا وجماعتها الغائبة، والآخر يمثله الهم وحضورهم المزعج. وهكذا تتموضع الأنا في الوسط، وجهها لعدوها وظهرها يحاول الاستناد إلى شعبها، فيصبح استعمال الضمير إشارة إلى الصراع ودليلاً على حقيقة الانتماء الأخلاقي والوطني. لا يستخدم سعيد كما بسيسو ودرويش ضمير المخاطب للنيابة عن الأنا، إنما يتوجه فيه بالكلام إلى القارئ "وقد تطالعكَ بالمصادفة في القاهرة مسيرة جنود هنا أو استعراض عسكري هناك".

    يظهر من خلال النماذج المقدمة أن الجُمل بين اسمية وفعلية في الأغلب كانت مثبتة، وإخبارية اعتمدت الماضي، وهي طويلة مسهبة، شارحة أحياناً كثيرة كقوله: "خلال صيف 1953، أي بعد عام على تعلمي لعب البول في المدرسة الأمريكية الداخلية، ظننتني قادراً على استدراجه بخبث للعب مباراة الكرة رقم 8، في مقهى صغير في ضهور الشوير، قبالة مقهى السيرك/ أما جذعي فلم يثر أي تعليق إلى أن بلغتُ الثالثة عشرة، أي قبل سنة من انتسابي إلى فيكتوريا كوليدج عام 1949".
    لم يقدم المسند على المسند إليه، إنما حافظ على التركيب الأصلي للجملة العربية، سواء أفعلية كانت أم اسمية، إن أشار هذا إلى شيء ما، فهو يشير إلى أن سعيد وإن كان تحت وطأة المرض، فهو لم يكتب تحت وطأة الانفعال، ولم تغلبه مشاعر الرفض والنقمة والألم بقدر ما كان سعيه حثيثاً نحو الإمساك بلحظة الحقيقة التي ينشدها في الماضي.

    سعيد أستاذ جامعي ومحاضر كرس حياته لمناقشة قضايا الإنسان والحضارة ودور المثقف في التغيير وعلاقته بالسلطة، وكتب الكثير من الكتب والمقالات التي أثرت في الرأي العام العالمي وكانت مثار بحث وجدل كبيرين، لذلك من الطبيعي أن تكون لغته حاضرة، قريبة سهلة، كثيفة فيها من الموسيقى التي عشقها الصوت والسكوت معاً، فهو كان يدوّن كلامه على إيقاع يناسب حاجته إلى البوح حين يقتضي المقام بوحاً، كما إلى الإمساك حين تكتفي الدلالة بالقليل كي تشع في ذهن القارئ، وهناك تجد طريقها إلى أن تصير أغنية تقوم على وحدة عناصر ثلاثة: الصوت والنغم والكلمة، الصوت= الأنا، النغم= الأسلوب، والكلمة= الحقيقة. لقد قال سعيد في سيرته الحقيقة بأسلوب المثقف المبدع والموسيقي المرهف والأكاديمي الرصين. فجاءت عبارته لينة قوية.

    عوداً على ذي بدء، فإن اللغة بوصفها "نشاطاً للكائن الإنساني وحقيقة اجتماعية، وملكة ترتكز على قوة الطاقة الكامنة في الذات الإنسانية" فهي توفر للكاتب أن يعبر عن ذاته وتشير إلى ملكة الإبداع لديه، وإلى طاقاته الفكرية وتجاربه المؤثرة وما انزوى في نفسه من خفايا يمكن أن تكون قد تاهت عنه هو، ويفشيها النص، وبهذا يصبح للمعطى الأسلوبي دلالة على الكينونة/ الذات في المستوى الخاص وعلى الأمة في المستوى العام.

    يمكن أن نستنتج أن سعيد قد وظف النص السير ذاتي لهدف أسمى من الذات، هو تكريس فلسطين في وعي العالم، كوطن وحيد قومي للفلسطينيين. فشرح قضايا النفس وعقدها أمام ذاتها، وقدرتها على الانفلات من رسن الحاضر بالعودة إلى جذورها وأصولها الفلسطينية، كدليل مؤكد أن الفلسطيني في الشتات لا يريد غير الرجوع إلى ملاذ أوحد هو فلسطين وإلا لبقي خارج المكان.

صفحة 2 من 13 الأولىالأولى 1 23412 ... الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال