ديفيد كورنويل، الذي كان يكتب باسم جون لوكاريه
الجاسوس الأديب..
كيف ينظر رجال الاستخبارات لزميلهم جون لوكاريه
الذي كتب أشهر روايات الجاسوسية؟
"الجاسوس الذي كشف خبايا عالم الجواسيس"، بهذه الكلمات يمكن وصف ديفيد كورنويل، صاحب الروايات الأكثر مبيعاً على الصعيد الدولي، الذي كان يكتب لمدة ستة عقود باسم جون لوكاريه، الاسم المستعار الذي أصبح أ.
تُوفِّيَ ديفيد كورنويل، في 12 ديسمبر/كانون الأول عن عمرٍ يناهز الـ89 عاماً، وينتمي لتقاليد عريقة للكُتَّاب البريطانيين الذي كانوا أيضاً جواسيس. ولكن بخلاف الآخرين، تتجاوز كتب جون لوكاريه نوع رواياتهم الجاسوسية التي تتمحور في الأساس حول التجسُّس نفسه، بل كانت كتبه تدور حول الضعف البشري- الغموض الأخلاقي، والتآمر، والشك، والجبن. وللسبب نفسه، كان أدب ديفيد كورنويل أو جون لوكاريه يتمتَّع بميزة نادرة، وهي أنه كان له تأثير ملموس على عالم الاستخبارات، الذي استلهم أعماله منه. رغم أنه عمل في الاستخبارات البريطانية لبضع سنواتٍ فقط، وفي مناصب منخفضة المستوى -كان لوكاريه الروائي الوحيد الذي خدم في MI5 ("المكتب الخامس" الذي يركِّز على الأمن الداخلي) وفي MI6 (جهاز الاستخبارات البريطاني)- شكَّلَت تجربته حياته المهنية اللاحقة بأسرها في الكتابة.
رواية جون لوكاريه الرائعة الأولى
كَتَبَ روايته الأولى Call for the Dead – 1961، وهي واحدةٌ من روائعه الصغرى، بينما كان يستقل القطار إلى مقر "المكتب الخامس" في لندن -وهذا يجعلها بالتأكيد أفضل رواية كُتِبَت على متن قطار على الإطلاق- رغم أنه كان قد انتقل إلى جهاز الاستخبارات البريطاني في وقت نشر الرواية. في ذلك الوقت كان الجهازان تسودهما السريَّة بشكلٍ كبير، أكثر بكثير مِمَّا هما عليه اليوم، ولم تعلن الحكومة البريطانية آنذاك حتى عن وجود أجهزة استخبارات خاصة بها من الأصل. ولأنه هو ممنوعٌ من ذِكر أيٍّ من الجهازين، شرع لوكاريه في دمجهما في مؤسَّسةٍ خيالية واحدة؛ ألا وهي السيرك. قدَّمت هذه الرواية للقرَّاء شخصية جورج سمايلي، أشهر شخصية لدى لوكاريه.
ورغم الكتابة البارعة للرواية، لم يعطِ تقديم سمايلي الأوَّلي أيَّ تلميحٍ إلى أنه سيصبح أعظم جاسوس خيالي موثوق به على الإطلاق. كان وصف لوكاريه الأوَّل لسمايلي بأنه قصير وسمين وهادئ وغير جذَّاب، بملابس رديئة حقاً وكأنه "ضفدع"، كان نقيضاً تماماً لجيمس بوند لإيان فليمنغ، ثم لم يلبث أن سيطَرَ هذا النقيض على ساحة خيال الجاسوسية. ومن تلك الرواية فصاعداً، جَلَبَ لوكاريه الكدح الكئيب إلى عالم الجاسوسية، ذلك الكدح الذي يمكن للقراء أن يتماهوا معه، بما في ذلك العديد من ضباط الاستخبارات أنفسهم.
"الخيانة".. موقف رجال الاستخبارات البريطانية من شخصية سمايلي
كان، ولا يزال، لدى جهاز الاستخبارات البريطاني علاقةٌ مُعقَّدة وصعبة مع سمايلي. قُرِأت روايات لوكاريه على نطاقٍ واسع، إلى درجة أنها تُستخدَم لتعريف التصوُّر العام لجهاز الاستخبارات البريطاني. لا بد أنه قد غُفِرَ لقراء هذه الروايات أنهم استنتجوا أن الخيانة كانت سمةً مميِّزة لجهاز الاستخبارات البريطاني وضباطه الذين اتَّبعوا خطى سمايلي. لكن الواقع يخالف ذلك. تكشف سجلات جهاز الاستخبارات البريطاني، التي رُفِعَت عنها السرية، عن درجةٍ عاليةٍ من الثقة بين الضباط، وهم المسؤولون عن الحفاظ على أسرار بريطانيا الأكثر حساسية، حسب تقرير المجلة الأمريكية. استخدم لوكاريه بعضاً من أعظم قصص التجسُّس الحقيقية إبان الحرب الباردة كمصدر إلهامٍ له في رواياته.
وقد انطوت هذه القصص بالفعل على خياناتٍ مُدمِّرة، يمكن رؤية الخيانة والأضرار التي ألحقها كيم فيلبي، عميل الكي جي بي السوفيتية رفيع المستوى، بجهاز الاستخبارات البريطاني، في واحدةٍ من أشهر روايات لوكاريه، وهي Tinker Tailor Soldier Spy – 1974، وفي المسيرة المهنية لماغنوس بيم، بطل رواية A Perfect Spy – 1986. نُشِرَت رواية The Spy Who Came In From the Cold في العام نفسه الذي انشقَّ فيه فيلبي مُغيِّراً انحيازه إلى الاتحاد السوفييتي، حيث انضمَّ إلى زميليه الجاسوسين في كامبريدج، جاي بورغيس ودونالد ماكلين.
الفيزيائية الروسية التي ساعدت الأمريكيين في أزمة الصواريخ الكوبية
قدَّمَت قضية أوليغ بينكوفسكي، عميلة الاستخبارات المركزية الأمريكية والاستخبارات البريطانية في عمق الاستخبارات العسكرية السوفييتية، إلهاماً كبيراً للوكاريه لكتابة روايته The Russia House – 1989. وساعد تجسُّس بينكوفسكي على الصواريخ السوفييتية الرئيس الأمريكي جون كينيدي على حلِّ أزمة الصواريخ الكوبية، في أكتوبر/تشرين الأول 1962. وتأخذ الرواية، التي ردَّدَت صدى بينكوفسكي، في وصف الفيزيائي النووي السوفييتي ياكوف، الذي يسعى إلى تزويد الغرب بأسرارٍ حول الترسانة النووية السوفييتية. ويُعتَبَر رجل الأعمال البريطاني الواقعي، غريفيل وين، الذي استخدمته الاستخبارات البريطانية للاتصال ببينكوفسكي، مصدر إلهام لوكاريه لشخصية بارلي بلير. ولقد لعب شون كونري، الذي خرج من شخصية جيمس بوند، دور بلير بشكلٍ لا يُمحى من الذاكرة في الفيلم الذي جسَّد الرواية عام 1990.
انتقام ديفيد كورنويل من معلمته
استلهم ديفيد كورنويل شخصية كوني ساكس من خبيرة التجسُّس الواقعية مليسينت باغوت، الموصوفة في التاريخ المُعتَمَد لـ"المكتب الخامس". ذكر لوكاريه لاحقاً للمؤلف بِن ماكنتاير أن باغوت "كانت دائماً ترتدي قبعةً، حتى إن لم تكن بالخارج، ولم تفوِّت قط بروفة جوقة باخ الموسيقية". ويبدو أن لوكاريه قد حقق انتقاماً ساخراً من باغوت، التي جعلت مُجنَّدين استخباراتيين جدداً مثله يعيشون أوقاتاً عصيبة. لقد صوَّر ساكس، المُستلهَمة من باغوت، باعتبارها مدمنةً كحول. استخدمت الاستخبارات البريطانية خصائص السرية بشكلٍ جيِّد لخلق الغموض، وكما أوضح لوكاريه للتغطية على الحقائق غير المريحة. في ذلك الوقت استخدَمَ لوكاريه حياته المهنية الصامتة لإضافة الأصالة والمصداقية إلى رواياته. وفي الوقت الذي يكاد يكون لم يُقَل شيءٌ من الناحية الرسمية عن العمل الاستخباراتي، كانت رواياته تقدِّم للجمهور ما يشبه إرشاداتٍ خيالية عن هذا العمل، ونتيجة لذلك فإن ما فهمه الناس في بريطانيا ما بعد الحرب كان خيالاً أكثر منه حقيقة عن الدولة الكامنة تحت الستار في البلاد.
هل ظلم الاستخبارات البريطانية؟
ولَّد الغموض الذي أطلقته أجهزة الاستخبارات ضبابيه حول عملها، والذي كَتَبَ عنه لوكاريه صوراً مُضلِّلة للذكاء البريطاني في الأفلام والروايات والمسلسلات التلفزيونية. فما كان ينقص روايات لوكاريه كان الإحساس المتوازن بالنجاحات الاستخباراتية البريطانية، كيف حمت أجهزة الأمن القومي للبلاد بينما عكفت على سرقة أسرار الخصوم.
ديفيد كورنويل خلال تكريمه عام 2019
لعلَّ قصة بينكوفسكي الحقيقية قصةٌ شجاعة، إذ مُرِّرَت معلوماتٌ قيِّمة للاستخبارات البريطانية والأمريكية من داخل نظريتهما السوفييتية. لكنها مأساةٌ أيضاً، إذ ألقت الاستخبارات السوفييتية القبض على بينكوفسكي وأعدمته، وكان ذلك بمثابة تحذيرٍ للآخرين الذين قد يخونون الاتحاد السوفييتي. لكن لوكاريه لم يكتب قط عن أوليغ غارديفسكي، وهو عميلٌ ناجح جنَّدَته الاستخبارات البريطانية، وتغلغل داخل الاستخبارات السوفييتية، ثم تمكَّن من التسلُّل إلى بريطانيا من الاتحاد السوفييتي.
يعتقد القراء والمشاهدون والمراجعون أن رواية The Spy Who Came In From the Cold كانت قصةً حقيقية بالفعل، لأن لوكاريه كان يكتب بشكلٍ واقعيٍّ ورائع. كتب لوكاريه لاحقاً أن كلاً من الرواية والفيلم كانا "مجرد خيال من البداية إلى النهاية".