"يا ربّ، يا إلهي، يا خالقي.. أياً كان اسمك.. أرني أنظر إليك"
طبيب ثري يحصل على بعثة فرنسية ليعيش تجربة حافلة..
رواية «ربِّ أرني أنظر إليك» التي أمتعتني
إنه مالك شاب من أصول تونسية ترعرع في الرياض من عائلة متدينة وثرية تنشط في الدعوة الإسلامية إبان فجر الصحوة الإسلامية الأولى في تونس -استقروا في الرياض هرباً من ملاحقة السلطة التونسية حينها- كان ذكياً منذ نعومة أظافره وقارئاً نهماً، حفظ القرآن الكريم كاملاً واطلع على كتب السيرة والحديث صغيراً، بعد الثانوية العامة عاد مالك ليدرس الطب بتونس، حيث نشط في الدعوة الإسلامية الطلابية منذ سنته الأولى بالكلية، وفي تلك الفترة اشتدت عيون السلطة على الحركات الإسلامية الطلابية فدخل مالك السجن وهو في سنته الرابعة في الجامعة، ثم حُكم عليه بثلاث سنوات ليُمنع من مغادرة البلاد بعد خروجه من السجن.
قرّر مالك الهروب من تونس حيث استغرقت الرحلة ثلاث سنوات بين الجزائر ولبنان لينتهي أخيراً في فرنسا ساعياً إلى جمع شتات أحلامه وسنوات شبابه الضائعة، بدأ مالك من جديد في كلية الطب بفرنسا فنجح وأصبح طبيباً بعد سنوات عجاف. فهل سيرتاح مالك أخيراً وتقرّ عينه؟ أم أن الأسوأ في حياته لم يحدث بعد؟
خلال عمله كطبيب داخلي سافر مالك إلى فلسطين في بعثة فرنسية لمساعدة ضحايا الحرب في غزة، وهناك كانت نقطة التحول في حياته حيث زُرعت أول بذرة شك في قلبه عندما ضحّت زميلته الطبيبة الملحدة بنفسها من أجل ضحايا الحرب في فلسطين وفك العزلة عنهم فكان مصيرها الموت دون رحمة تحت دبابة الصهاينة، ليتساءل مالك: لماذا ستدخل النار رغم ما فعلته فقط لأنها لا توحّد الله؟ هل هذا عدل؟ هل تُعاقب لأنها إنسانة خيّرة ولا تُؤذي أحداً فقط لأنها لا تؤمن بالله؟ وما الفرق بين مؤمن ظالم وكافر طيب؟
رغم علمه الغزير بالعلم الشرعي لأول مرة أجوبته السابقة لم تعد تُقنعه. عاد إلى فرنسا وقد تغير حاله والبذرة أصبحت شجرة فارعة الطول ومتأصلة الجذور في قلبه وعقله، بعدما قرأ كثيراً في الفلسفة الغربية والإسلامية حتى أخضع كل شيء لمحاكمة عقلية علمية فلسفية كان عقله فيها هو القاضي الذي أصدر الحكم النهائي بإنكار السنة والنبوة ثم الرب الخالق، أصبح مالك مُعلّقاً في الفراغ بين الإيمان والإلحاد لا يعرف أيهما أصح وهو على مشارف الأربعين من عمره.
تحرر مالك من كل القيود السابقة التي ألزمه بها دينه القديم ليصبح عبد نفسه وشهواته ونزواته، قطع علاقته بخطيبته وأصدقائه وكل محيطه، نعم كانت البداية صعبة لكنه ما لبث أن اعتاد حياته الجديدة، ابتعد كثيراً لدرجة أنه لم يلتفت للوراء ولا حتى ثانية واحدة، وصدّق أن الأديان هي سبب الشرور والقتل والدمار، فوجد نفسه بعد فترة من إلحاده يدور في حلقة مفرغة دامت أربع سنوات تخبطَ خلالها في جحيم الإلحاد وأسئلته المفتوحة التي لا تنتهي ولا أجوبة شافية لها تخفف عنه وطأة الضياع، فهل سيرسو مالك على شاطئ الإيمان مجدداً؟
"أرني أنظر إليك" أكثر من رواية، هي قصة حقيقية، تعمدت الكاتبة خولة حمدي تحوير المعلومات الأساسية للشخصية الحقيقية، لشاب عاش وترعرع على الإيمان في كنف الحركات الإسلامية والدعوة إلى الله وجد نفسه حيث الشبهات والشك يقضان مضجعه ليقرر ترك الإسلام وإنكار وجود الله، وصْف الكاتبة للشخصيات والأماكن والأحداث كان دقيقاً جداً بشكل رائع مع اعتمادها أسلوب المخاطَب الذي ميز الرواية، يجعل القارئ يتفاعل كلياً مع شخصية مالك دون وعي منه، ويعيش معه كل مرحلة ويشهد على كل ما خالجته به نفسه في مرحلة الإيمان الأولى عندما أراد منافسة الملائكة، وحين بدأ الشك يمزق قلبه ولما أنكر وجود الله والأديان ومعاناته بحثاً عن الحقيقة.
هي رحلة للعبرة نخوضها مع مالك بكل تفاصيلها وندعو الله ألا نخوضها بأنفسنا. فهل هو رصيد الصبر الذي نفد عند الشدائد والأهوال فلما احتاجه مالك لتخطي أزمة بسيطة وجد نفسه في فوهة بركان ينفجر فتناً تُحرقه وتُحول حياته جحيماً يسير نحو العدم؟ أم أن إيمان مالك لم يكن من البداية إيماناً حقيقياً متماسكاً رغم تربيته الدينية منذ نعومة أظافره؟ هل المشكل الحقيقي في إخلاص ويقين القلب الذي يجعل الإنسان يعبد شهوات نفسه الخفية ونظرات وإعجاب الناس فأصبح إيمانه مجرد وهم مغلف بالإيمان؟
من خلال عملها الأخير فتحت الكاتبة خولة حمدي موضوعاً شائكاً بتسلسل منطقي وعقلاني للأسئلة التي حاصرت مالك، هي الأسئلة نفسها التي نواجهها أمام خطاب دعوي هش وسطحي ومنهزم أمام الواقع المُعاش غير قادر على تقديم أجوبة متماسكة وشاملة إلا من رحم الله، بل ويحاول خلق ائتلاف بين القرآن والسنة والحضارة الغربية الغالبة على المستوى الدنيوي حتى لا تسخَط على الإسلام.
تعرُّض الإنسان للشبهات ليس وليد اللحظة بل هو موجود منذ الأزل، ولكن المشكل الحقيقي يكمن في كيفية تعامله مع الأسئلة التي تواجهه وتُهاجم أصل دينه ومعتقداته. نحتاج اليوم إلى تعزيز يقيننا والدراسة المعمقة لديننا فمع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبح من المستحيل البقاء في معزل عما يدور في الساحة الفكرية من تدافع شرس بين التيارات المختلفة، ثم دراسة وتعلُّم فقه التعامل مع الإشكالات والشبهات المثارة حول الإسلام وتفكيكها وفق منهجية صحيحة، كما أنه لا غِنى لنا اليوم عن دراسة التيارات الفكرية والفلسفية الجديدة والقديمة وأصولها من وجهة نظر الإسلام، ثم نزكي ما يتوافق مع القانون الإلهي ونتخلص مما دون ذلك.
ملاحظتي الوحيدة هي عن النهاية التي اختارتها الكاتبة لروايتها الرائعة أظن أنها لم تكن موفقة لكونها بعيدة تماماً عن الواقع لكن هذا لا يطعن في روعة العمل.